-مقدمة-

67 10 30
                                    

على الأوتارِ البيضاءِ تراقصت تِلكَ الأصابعُ مرتجفةً، وتحركت الشفتانِ الذابلتانِ معَ صوتِ الألحانِ مُشاركةً الأصابعُ الرفيعة الاِرتجاف، وتتخلل الصوت الصادر مِن حنجرتهِ بخفوتهِ حينًا وعلوهِ مسامعهُ، لتُعانق الأجفان بعضها، وراحَ عناقُهما يَشتدُ ويتراخى معَ شدة وقع النغمات وتراخيها.

اِرتفعت وتيرةُ الألحانِ وعقبها اِرتفاع دوي صوتهُ مُصادمًا جُدران الغُرفة البائسة، وزادَ معهما اِرتجافه. وباللمح البصر وبسرعةٍ فاقت سرعة تَناثر جُزيئات الضوء في المكان توارى الأثاثُ مُتلاشيًا، وتَقاربت الجدرانُ مِن بعضها حتى باتت الغُرفة ضيقة بنافذة صغيرة واحدة ومُغلقة باحكام، وانفجرت الأضواء وتناثرَ زجاجُها على الأرضية المُصطبغة بالدماء السائلة منها والمُتخثرة، وأختفى مَصدر الألحان مُتحطمًا إلى اشلاء، وهَبطت سلاسلٌ مُثبتة بالسقف وكَبلت يداهُ رافعةً إياهُ عن الأرض بقوة.

خلا المكانُ مِن النور وخيمَ خصمهُ بدلًا عنه، مُحكمًا تعتيم النظر، ولَم يتسنى للصمتِ أن يُخيم معَ صاحبهِ فصوتُ الألحانِ قد ملء المكان، وأخذَ يتصدامُ بالجُدرانِ المُتلاصقة صارخًا بطلبِ المُعلق للخروج والنجاة.

حَضرت مِن العدمِ سيدةً أرتدت ملامح وجهها مِن الحُسنِ أجملهُ، وكَست جسدهُا الرشيق بثيابٍ رسمية خلت مِن جميعِ الألوان إلا أحلكُها. أُنيرَ المكان بضوءٍ أحمرٍ خافتٍ يَسمح للعينِ أن تَلمح ما يُحيطُ بها، فَنصعَ بياضُ بشرتها الذي كستهُ حُمرةُ لونِ الضوء، وبانَ صندوقٌ متوسط الحجم بإحدى يديها وضعتهُ أرضًا، وأحكمت يدها الأخرى الإمساك بسوطٍ يتتوق لمُعانقة جسد المُعلق أمامهُ بلهفة.

امتزجَ معَ صوت وقع النغمات صوتهُ المُلتاع مِن ضربات السوط التي نزلت مُنهالة على جسدهِ بقوة. عاري الصدر، مُصفرٌ وجههُ المُنكمش ألمًا والمُتصبب عرقًا، يُصارعُ بأنفاسه ليلتقطَ ذرات الهواء الشُبه مَعدومَ في هذا المكان المُغلق، ووتيرة اِرتفاع واِنخفاض صدرهُ متسارعة.

تتسابق قطرات العرق المالحة على جسدهِ المُتروم والمليء بالجراح مِن أثر الضربات التي يتلقاها، وصوتُ النغماتِ كالمسمارِ يُطرق بقوة بأُذُنهِ جاعلًا إياهُ يَزيد صُراخهُ حتى تاكدُ أن تتقطع أوتاره الصوتية...

ما لها هذهِ الحسناءُ قاسيةٌ لدرجة الجنون؟ تَتبسمُ فرحةً معَ كُلِ جَرحٍ تُخلفهُ ضَرباتُ أسلحةِ تعذيبها، وتتمايلُ مع الألحانِ المُرتفعة، رُغم العذوبة التي أمتلكتها إلا أنها كانت كمصدر إثارة لقسوة السيدة.

باتت الألحانُ تتخافت شيئًا فشيئًا، وتَملكَ التعب جسدُ المُعلق واصطبغَ بدمائهِ، على عكسِ مُتلبسة السواد الحَسِنة التي بدت أكثر نشاطًا وحيوية بتعذيبها له. حَملت أدواتها واضعةً إياها بالصندوق وأمسكت بسوطها ووقفت باستقامة مُبتسمة بملئ ثغرِها، واختفت كما ظَهرت مِن العدم.

تعانقا جفنيهِ بقوةٍ كبيرة مُعبرانِ عن ألمهُ الحاد، ومُخبأنِ قُزحيتاهُ العسلية خلفهما، وفكا العناق حينَ رفعِ يديهِ عن الأوتار مُعلنًا عن نهاية عزفهِ الذي انتهى معهُ عذابهُ لهذا اليوم، وعادَ كُلُ شيئًا كما كان.

وزعَ أنظارهُ بالمكان ابتداءً مِن النافذة الواسعة المَفتوحة على وسعها، مارًا باللوحات المُعلقة على الجدار والأريكة الموضوعة تحتها، مُتفحصًا البيانو القائم أمامهُ، مُنتهيًا بأنظارهُ عند الباب الخَشبي الموصد.

تنهدَ بضيقٍ والغصة كالسكين مُنغرسة بعُنُقهِ، وعبراتهُ مُقاطعة إياهُ ورافضة إرواء صحراء خدّيه. زَمَّ بشفتيهِ مُعانقًا نفسهُ ومُتلفظًا بِحُزن

«أستحقُ هذا... إنهُ عذابي وأسحتقهُ.»

°•°•°•°•°•°•°•
وبعدَ فراقٍ طويل، عُدنا لأحضان الكِتابة💙

٢٠٢١/١١/٢٢
٠١:٠٦ صباحًا

اِحتضار مُلحَّنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن