الفصل الأول : عينان في الظلام

530 17 2
                                    

كان النسيم العليل يبعث إلى أنفاس كارين مزيجاً من الروائح الفوّاحة العطرة التي مدت خطواتها بالنشاط لتقطع المنعطفات الأربع المؤدية نحو المكتبة، كان الربيع في «أوماه» أجمل أوقات السنة ففيه الحرارة المعتدلة الناشرة أريجها في الهواء، راح الهواء يعبث بشعرها الأحمر الأصهب فتناثرت منه خصلات متلاحقة على وجهها و كم سحرتها زقزقة العصافير التي حَدَتها إلى التوقف للإصغاء و الإستمتاع بلحن الربيع الخلاب .

نقلت الكتب إلى ذراعها اليسرى ثم تابعت السير و هي تسمع حركة السير المعتادة التي تهدأ نسبياً في مثل هذا الوقت من النهار، لكن خطأ بسيطاً في خطواتها المدروسة جعلها تتعثر إلى الأمام ملتوياً كاحلها، طائرة كتبها من يدها و زمور سيارة ينطلق قوياً بينما صرير الإطارات يتصاعد حين اصطدم معصمها بقوة بمقدمة السيارة .

تناهى إليها صوت صفق باب، و خطوات مسرعة و سيل من الشتائم أتت كلها معاً يرافقها صوت مزمجر غاضب :
ـــ ألم تري هذا الشيء الضخم الذي يسمى سيارة قبل أن تطأ قدمكِ هذه الطريق ؟ أين عقلكِ يا هذه ؟

و عندما لم تجب، تغير الصوت الغاضب ليسألها بخشونة :
ـــ هل أنتِ بخير ؟

كان قلبها يخفق في صدرها و جسدها يتكيء على مقدمة السيارة الساخن، بينما صوتها يرتجف وجلاً .

ـــ أظن هذا .

تنفس المتحدث الصعداء ليتبعه اتهام آخر :
ـــ أنتم أيها الشباب تركضون في الشارع و كأنكم تمتلكونه، رؤوسكم بين الغيوم، متوقعين أن ينتبه الناس لوجودكم ... كم أتمنى لو أضعكِ على ركبتي لأصفع مؤخرتكِ .

و جمدت كارين مكانها، منتظرة مضي التقريع، لكن ذاك الصوت أكمل بنبرة ملؤها نفاذ الصبر و البرودة :
ـــ لو تنحيتِ قليلاً لأمكنني متابعة الطريق، هذا إذا كنتِ لا تظنين أنكِ تغدقين عليّ بالكثير .

لم يفت كارين ما في نبرته من السخرية :
ـــ هلا أعطيتني كتبي لأستطيع بعدها المضي في طريقي ؟

ـــ ماذا ؟ أَوَ ألتقط كتبكِ و أدلكِ إلى الطريق مع مباركتي .. أهذا ما تريدين ؟

الصوت كان الآن أكثر عمقاً و أشد غضباً .

ـــ أجل ... أرجوك .

ران صمت طويل، يمزجه إحساسها بالعدائية البينة و بالقوة التي ظهرت أوضح عندما أمسكها هازاً إياها و صوته الرجولي خرج قاسياً من بين أسنانه .

ـــ التقطي كتبكِ بنفسكِ أيتها السيدة الشابة، و اشكري ربكِ لأنني لن أسلمكِ للشرطة بتهمة التهور في السير وسط الشارع .

تحركت خطواته مبتعدة، لقد سببت له الخوف كثيراً، و لا يمكن أن تلومه على غضبه، فقالت :
ـــ أرجوك، لا تتركني هنا، أنا آسفة لأنني خطوت أمامك، و لكنني كنت أتمتع بهذا الصباح الجميل و هذا ما جعلني أخطيء في العد .

ليل المرايا // روايات أحلامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن