الفصل السادس

5.2K 120 1
                                    

" اتزوج " وتراجعت رونى الى الخلف " اتزوجك انت " 
فاجاب جيرالد ساخرا من ردة فعل رونى ازاء اندفاعه هذا بطلب الزواج " كلا بل من بابا نويل " ذلك انه لم يكن جادا فى الواقع ولكن هل كان عليها ان تتصرف وكان ما سمعته هو اكثر الافكار جنونا ؟
وتابع يقول " تتزوجينى انا طبعا لقد قلت انك تريدين ان تساعدينى اليس كذلك " حسنا ..."
وهز كتفيه تاركا اياها لاستنتاجاتها الخاصة واخذ يحدق من النافذة
اخذت رونى تحدق فى ظهره وخفقات قلبها تتسارع ان تتزوج من جيرالد فزعت وهى ترى ان اول ردة فعل لها ان تقول نعم لهذا العرض منه بينما كان واضحا ان جيرالد انما يريد بهذا القول ان ينفس عن شعوره بالاحباط 
فقالت " الامر ليس مضحكا وانا لا استطيع ان اصدق ان بامكانك ان تمزح فى وقت كهذا "
فقال جيرالد بجفاء وهو واقف بجانب النافذة " ولا انا "
واضاف بوقاحة وللمرة الثانية وهو يخرج من الغرفة " ثم ما ادراك اننى امزح ؟"
ما الذى كان يعنيه بهذا الكلام ؟ اهى مجرد ثرثرة ؟ وهل جن الرجل ؟
وضعت يدا مرتجفة على جبينه لا بد ان الحرارة ما جعلته يتكلم بهذا الشكل
تتزوج جرالد مارسدن
واخذ راسها يخفق مشاركا بذلك قلبها انه لم يكن جادا بالرغم من رده ذاك الذى تركها غاية فى الارتباك نعم من المؤكد انه كان يمزح
ولكن رونى حدثت نفسها بانها لا يمكن ان تتزوج جيرالد سواء كان جادا ام مازحا حتى ولو كان اروع رجل في العالم كلا ليس ثمة ما يجعلها تتزوج منه باستثناء
سارت رونى نحو النافذة واخذت تنظر منها دون ان ترى شيئا ومن خلف الباب المجاور كان الكلب روفوس ينبح ما يعنى ان مارجو بنسون اما خارجة الى مكان ما واما عائدة
والان ماذا بالنسبة الى بيتر
جذبت نفسا مرتجفا اذا اصبح بامكانها فى حالة زواجها من جيرالد ان تحتفظ ببيتر الذى اصبحت شغوفه به افلا تقدم على ذلك
واطلقت نفسا اخر مرتجفا هل هناك سبب يجعلها تقبل الزواج من جيرالد افضل من حماية بيتر من الغرباء الذين لا يهتمون به ومن منحه البيت والحب ثم بالزواج من جيرالد قد يمنحه ذلك نوعا من الاسرة والانتماء لم يعرفه فى حياته اليس هذا السبب شيئا يستحق ذلك
شبكت ذراعيها على صدرها تحجب بذلك توتر اعصابها وهى تحدث نفسها بان بامكانها الان ان تقوم بشئ مفيد اذا كان جيرالد جادا حقا بالنسبة الى زواجهما واذا كان ذلك الطريقة المثلى لحماية بيتر من ان تستلمه السلطة 
لن يضيرها شيئا ان تتفحص الامر
*********************
قالت رونى للمراة المتعبة المظهر الجالسة خل المكتب " اريد ان ارى السيد تيلمان من فضلك "
فسالتها المراة دون ان ترفع بصرها اليها " هل لديك موعد ؟"
" كلا وقد كنت اتصلت من قبل لكن "
" هل انت سجينة سابقة "
" كلا انا لست كذلك انا "
" ماذا تريدين منه اذن "
" اسمعى " كانت رونى تملك مزايا كثيرة حسنة ولكن الصبر على نظام المكاتب لم يكن واحدة منها هذا الى انها لم تشا ان تفضى بامورها الخاصة الى هذه التى لم ترفع بصرها اليها " هل السيد تيلمان هنا ام لا لقد اخبرونى عندما اتصلت سابقا انه فى الخارج ولكنهم قالوا ..."
" انه هنا "
" شكرا هل يمكننى التحدث اليه "
واخيرا اطبقت المراة الملف الذى كانت تاخذ عنه ملاحظات ثم رفعت عينيها اليها كان الارهاق باديا فيهما كما كان الكحل يلطخ ما حولهما كل ما يبدو فى وجهها كان ينبئ عن يوم شاق ونظرا لنوع عملها الحكومى فقد وجدت رونى لها عذرا
فقالت بحراراة " اننى فيرونيكا سايكس اخبرنى من فضلك عما اذا كان السيد تيلما يمكنه استقبالى وفى اية غرفة هو "
" انه فى غرفة 305 الباب الثانى الى يمينك "
اشكرك "
وبعد ذلك بلحظة كانت رونى فى مكتب تيلمان تعرفه بنفسها مرة اخرى 
" اننى لن اخذ سوى لحظة من وقتك يا سيد تيلمان " قالت ذلك وهى تجلس على الكرسى الذى اشار لها اليه الضابط وتضيف قائلة " ان الامر يتعلق بجيرالد مارسدن "
اوما الضابط لها بمتابعة حديثها بينما كان يتكئ الى الخلف وهو يضع يده على ذقنه وفمه
شعرت رونى بشئ من التوتر ازاء تحفظ الرجل الهادئ ولكنها قررت عدم اظهار ذلك وهى تنظر فى عينيه قائلة " اننى اننى خطيبة جيرالد وسنتزوج قريبا جدا " وكانت تلعثمت قليلا وهى تلقى كذبتها هذه
" احقا " القى عليها الرجل هذا السؤال رافعا حاجبيه وقد بدا الفضول  فى صوته وهو يتفحصها باهتمام شعرت رونى بارتجاف داخلى ازاء نظراته هذه بينما تابع هو يقول متاملا بعد لحظة " كان المفروض ان ياتى جيرالد على ذكر ذلك اهذا تطور جديد فى شؤونه "
فقالت بصوت متهدج الامر الذى اغضبها من نفسها فتنحنحت بحدة واستقامت فى جلستها وهى تذكر نفسها بانها فى سبل مصلحة بيتر تصرفها غير سيئ وانما العكس تماما قالت " تطور جديد "
ورفعت راسها تقول " اذا اردت ان تصف مدة سنتين بتطور جديد "
" سنتان " قال الضابط ذلك وقد اصبح الان فى كامل اليقظة فاستقام فى جلسته وقد بدا على ملامحه معنى يقول : من تراك تخدعين ؟" يبدو لى ان خطيبك كان منذ سنتين فى السجن فى اخر البلاد بينما انت يا انسة سايكس اذا لم اكن مخطئا ساكنه هنا وتديرين " ونظر فى الاوراق التى امامه " تديرين نزل رونى " ثم عاد بنظراته اليها " اليس هذا صحيحا يا انسه "
" صحيح تماما يا سيد تيلمان " وازداد استقامة قامتها وهى تقول دون ان تطرف لها عين " لقد كان تعارفنا انا وجيرالد بواسطة البريد لقد تراسلنا لفترة ثلاث سنوات قبل ان يتقدم الى خاطبا "
" صداقة قلم ما تعنين " وبدت السخرية فى لهجته 
" نعم كان ذلك فى البداية وعلى كل حال وفى الوقت المناسب " ومنعت حمرة الخجل والارتباك من ان تلون وجهها ازاء سخرية الضابط الخفيفة هذه بينما استمرت تتابع كلامه " لقد احببنا بعضنا البعض و "
تنحنحت وهى تفكر فى ان جيرالد لو علم هذا لاغمى عليه " وعلى كل حال فقد قررنا الزواج وان نربى معا ابن جيرالد تماما كما هو الامر الان "
"فهمت "
" وهذا ما جعلنى اجئ اليك اليوم "
فقال مداعبا بظرف بالغ " والان لماذا لم يدهشنى هذا ؟" فاهتز قلب رونى ربما لم يكن هذا الرجل ذلك الغول المخيف الذى كانت تخشاه ربما لم يكن حقا يحيي الليالى وهو يصمم طرقا لاختطاف الاطفال الصغار من البيوت التى تحبهم
انحنت الى الامام تقول " اننى معلمة مدرسة يا سيد تيلمان وانا احب الاطفال كما اننى احب بيتر الصغير اما جيرالد مارسدن فقد كفر عن خطيئته تجاه المجتمع وهو رجل طيب كما انه ..." وابتلعت ريقها وقد تملكها التوتر مرة اخرى " وهو يريد ان يحقق العدل بالنسبة الى الصبى "
وهذا كان صحيحا بكل تاكيد
بقى الضابط يفكر ولكنه بعد لحظة اوما ببطء وهو يقول " اننى واثق من ان ذلك صحيح يا انسة سايكس وصدقينى اذا انا قلت لك ان السلطة تريد اولا وقبل كل شئ الخير للصبى وفى اكثر الحالات يعنى ذلك ابقاء الطفل او الطفلة فى عناية والدين طبيعيين حسب الامكان "
******************
وفيما بعد عندما عادت رونى الى النزل بقيت فترة لا تصدق كم كانت نهاية المقابلة حسنة رضية كانت افكارها تجول فى خاطرها بفوضى تقريبا لشدة الارتياح لحل المشكلة كما كانت متلهفة للانفراد بجيرالد لكى تخبره بما حدث وتبدى استعدادها للزواج منه لاجل بيتر ولكنها لن تستطيع ذلك الا بعد انتهاء العشاء واستحمام بيتر ونومه 
**************
صعد جيرالد السلم الى الطريق الاعلى جارا قدميه وهو يتذمر غاضبا ما الذى يعرفه عن غسل الاطفال ؟ لا شئ والاكثر من ذلك انه لم يكن يفكر فى ان يتعلم ذلك فكيف وجد نفسه متورطا فى هذه المهمة الليلة اى شخص من الاخرين كان يسره تماما ان يقوم بذلك كما كانت عادتهم منذ وطات قدما بيتر عتبة هذا المكان
كانت رونى قالت له " انه ابنك " متجاهلة رده " انه ليس ابنى " وكانه لم يقل شيئا وهى تتابع " لقد كنت جافا معه فى اليومين الماضيين ما الم الصبى وعليك ان تزيد من التقرب اليه يا جيرالد والا فلن يشعر ابدا بعلاقة حميمة معك "
" انه يخاف منى"
"حسنا وهل تلومه ؟ انك اما متجهم مستعد حتى لعضه واما متجاهل له تماما "
" هذا لاننى انا ايضا خائف منه " لقد ادهش نفسه بهذا الاعتراف اكثر مما ادهش فيرونيكا التى كانت قالت حينذاك " اعلم ذلك ولكنك انت الكبير هنا "
فاجابها باكتئاب " انت تظنين ذلك " ما جعلها تضحك وهى تحثه قائلة " هيا تابع واصعد اليه فهو فى البانيو منذ نصف ساعة يلهو ويلعب وجيرالد "
" ماذا "
وبدا عليها الخجل على غير عادة جاعلة جيرالد يتساءا عما عسى ان يكون هناك
" هل يمكننى التحدث اليك فيما بعد "
" بكل تاكيد "
حسنا هذا فيما بعد لكن الوقت حاليا هو الان على كل حال وهو فى الحمام فى الطابق العلوى دون ادنى فكرة عما عليه ان يفعل
فتح باب الحمام بحذر وتردد ولكنه لم يتجاوز العتبة على الفور وبدلا من ذلك وقف ينظر الى الصبى دون ان يلحظه هذا وهو يعبث فى الماء بصحن الصابونه
كان ظهر بيتر نحوه ما امكنه ان يتامل ذلك الصبى الضئيل والذى كان جلدا على عظم كانت سلسلة ظهره بارزة القرات لا يغطيهما سوى الجلد 
كان ضئيلا للغاية بالغ العجز وهو يجلس فى ذلك الحوض وقبضت مشاعر الالم صدر جيرالد لم تكن هى المرة الاولى التى تتملكه فيها مشاعر كهذه نحو الصبى ولكنها لم تكن مريحة ولا مقبولة وانما غاضبة ما يجعله يكافح للتخلص منها
قال " انتهى وقت اللعب " وتقدم نحو الحوض وقد بدا صوته اكثر حزما مما كان ينوى واذ راى الصبى يجفل ويدير راسه بعنف وقد بدا الخوف على وجهه اخذ يشتم فى داخله متمنيا لو يعض لسانه قال مرغما ملامحه وصوته على تخفيف ما بدا عليهما من حدة " لا بد ان الماء قد برد " ومد يده الى الماء يختبره
حاول ان يبتسم فلم يستطع وبقى بيتر ينظر اليه بحذر ليقول بعد لحظة " قال ليو انه سيحضر ليغسلنى "
" حسنا لقد جئت انا لاقوم بذلك بدلا عنه " ودفع صحن الصابونة البلاستيك باصبعه ثم قال " اى نوع من الزوارق لدينا هنا الان ؟ اتراه زورقا بكابين ام شيئا اخر "
فهز بيتر كتفيه واحنى راسه " هذا شئ غير حقيقى "
ثم جمع الصحن وفرشاة الاسنان وضعهما على حافة الحوض تاركا جيرالد يشعر بالخيبة وعدم المقدرة على التعامل معا
" والان كيف سنقوم بهذا الامر ؟ هه الشامبو اولا اليس كذلك " امسك بالزجاجة واخذ يتامله " هل هذه هى المادة التي علينا ان نستعملها "
وحيث انه كان قادرا تماما على قراءة ما هو مكتوب على الزجاجة كان سؤاله عبارة عن تحايل منه ليحمل الصبى على الحديث معه ويبدو انه نجح فى ذلك جزئيا على الاقل لان بيتر القى نظرة ساخرة وهو يقول " ان الاخرين يعرفون جميعا ذلك فلماذا لا تعرف انت ؟"
واذ شعر بالارتياح لنجاحه فى اخراج الصبى عن تحفظه مرة اخرى منحه شبه ابتسامة جافة " اظن هذا لاننى لم اغسل جسم صبى قط من قبل "
تقبل بيتر هذا القول وبقى لحظة يتفحص وجه جرالد برزانة ولكن الخوف كان قد تبدد من ملامحه وهو يساله " لماذا"
اجاب جيرالد وهو يقابل عينى بيتر الواسعتين باذلا جهده عبثا للظهور بمظهر الاسترخاء اجاب قائلا " ربما لانه لم تحصل لى فرصة لذلك اذ لم يكن لذى ولد قط من قبل "
مضت لحظة اخرى من الصمت المتبادل قال بيتر بعده " وانا ايضا لم يكن لى بابا من قبل " وبعد قليل اضاف يقول " قالت جدتى ..." ثم سكت وقد بدا ان شجاعته خانته
فقال جيرالد يشجعه بعد ان كره ان يخسر ما كان اكتسبه من قبل " اخبرنى يا بيتر ما الذى قالته لك جدتك "
" قالت " وتلاشى صوته وهو يزدرد ريقه وامتلات عيناه فجاة بالدموع وهو ينظر الى جيرالد " قالت لى انها انها ستاخذنى لاعيش مع مع با بابا ولكن "
وارتجفت شفته السفلى بشكل يدعو إلى الرثاء وتدحرجت على خديه دمعتان كبيرتان .
" ولكن ." سكت جيرالد وقد كادت شفته ترتجف هو أيضا , وأخذ يتساءل بنوع من العجز والغضب لماذا كان هو أمضى طفولة شاقة لعينة .
سأل نفسه كيف يمكنه أن يجعل طفولة هذا الصبى أكثر سهولة , ولو لفترة قصيرة على الأقل .
وتجاوبت كلمات روني في ذهنه ( إبدأ في تثبيت علاقتك به ) وكانت من الوضوح وكأن روني معه في الغرفة .
" ولكنك لست .. أنت لست .. " ومع أن بيتر كان يبكي الآن ولم يستطع النطق بالكلمات كما يجب , إلا أن جيرالد لم يكن بحاجة إلى سماعها ليعرف ماهي .
أنت لست أبي .
وكان هذا صحيحا تماما , فهو ليس والده , كما أخذ جيرالد يفكر وقد تجهم وجهه , ولكنه مع ذلك , لم يجد أي سرور في أن يكرر ذلك , بل العكس , فقد انتبه إلى نفسه وهو يتمنى لو أنه كان حقا اب للولد فيضع بذلك حدا لتعاسة الصبى .
وشعر فجأة بألم عميق وهو يرى بيتر يشهق باكيا , ما حطم قلبه , فأخذ يدعك ظهر الصبي الهزيل وهو يحاول أن يقول مؤكدا : " ومن قال إنني لست أباك ؟ " 
كان يرى أن المراوغة ليست كذبة تامة , وفي مثل هذه الحالة , هي أكثر رفقا من قول الحقيقة .
ما لبثت الشهقات أن توقفت : " كلا .. لا .. ليس لي .."
فأمسك جيرالد بذقن الصبي يدير وجهه إليه : " ما الذى تتحدث عنه , إذن ؟ "
فهز بيتر كتفيه وهو يحملق في وجه جيرالد بعينين بدا فيهما نظرة الرجال : " أنا .. إنك لم تقل .. لم تقل أبدا أن بإمكاني أن أناديك ( بابا ) . "
" أحقا لم أقل ؟ حسنا .. قل ذلك ... " واستطاع جيرالد , بشكل ما , أن يرسم على فمه إبتسامة ملتوية وهو يضرب هازلا كتف بيتر الهزيل بقبضته : " كنت أتصور أنك ستدعوني بذلك من تلقاء نفسك , ولكنني أظن أن هذا كان غفلة مني .. هل أقول لك ما .."
أمسك بالمنشفة وأخذ يمسح بها وجه الصبي برفق " دعنا نتفق على شيء , وهو أننا منذ الآن فصاعدا , إذا كان هناك شيء أنت غير واثق منه , أو إذا كان ثمة ما يزعجك , فتعال وتحدث إلي بكل صراحة فنحاول أن نحل المشكلة معا . ما رأيك في ذلك ؟ " 
أجاب الصبي متلعثما : " هذا .. هذا حسن . " وأشرق وجهه بابتسامة بلغت من التألق حدا جعلت عيني جيرالد تغرورقان بالدموع .
********************
بعد ذلك بحوالي الساعة , كان ليو كومينسكي والقاضي يخوضان معركة على لوحة الشطرنج في غرفة الجلوس . والعمة لويزا والسيدة هينكز العجوز كانتا تقومان بشغل الإبرة وتتحدثان عن حكاية وقت النوم , التي قرأتاها لبيتر الليلة الماضية . فالقرءة للصبي قد أصبحت نظاما مستقرا كانت المرأة العجوز توليها اهتماما بالغا وتنتظرها بصبر فارغ . لقد استطاع بيتر , بشكل ما , أن يتسلل إلى قلبها كما استطاع مع الآخرين .
كانت روني جالسة في الارجوحة على الشرفة وقد رفعت ساقيها على المقعد , رافعة شعرها عن رقبتها بيد , وباليد الأخرى تروح بمجلة على وجهها . كانت تفكر في أفضل طريقة تدخل فيها الموضوع الذي في ذهنها , ولكنها لم تجد طريقة مناسبة . 
وهكذا كل ما قالته كان : " الجو شديد الحرارة . "
فقال جيرالد وكان واقفا عند حاجز الشرفة : " نعم . " كان يضع يدا على الحاجز بينما يدس يده الأخرى في جيب الشورت الذي يرتديه . ومع أنه أجابها على تعليقها هذا إلا أنه لم يسمع بالضبط ما قالت . فقد كان مستغرقا في أفكار مزعجة وذلك منذ وضع بيتر في سريره .
لم يسبق له قط أن شعر بعاطفة تجمعه بشخص ما , ولم يشأ ذلك قط . فالعواطف كانت تخيفه للغاية . ومنذ إخفاقه ذاك مع الوالدين الوحيدين اللذين سمح لنفسه بأن يحبهما من كل قلبه , واللذين أحباه هما أيضا وقدما طلبا للسلطات برعايته , لكن السلطات لم تقبل وأبعدته عنهما ..
منذ ذلك الحين لم يسمح لنفسه بأن يبادل أحدا مشاعر المحبة والتقرب حتى ولا مارسي والدة بيتر والتي كانت ضعيفة عاجزة أمام الحياة , كما أنها طيبة حلوة و ودوده , ومع ذلك لم يسمح لها بأن تدخل قلبه الذي كان تحطم ذات يوم .
وها هو ذا الآن لن يسمح قط لاحد بأن يدخل قلبه , مرة أخرى , إنه يتعهد لنفسه بذلك , وقد تجهم وجه ... ولكن بيتر كان الآن يتسلل الى نفسه ويمتزج بمشاعره .
كان هذا أمرا مخيفا ما دام ليس ثمة طريقة تجعله يحتفظ بالصبي . فقد كان عليه أن يبني حياته . إن أمامه سنوات وسنوات لكي يتم له ذلك ولهذا . وتبا لذلك , سواء طالبت به السلطات أم لا , ما أن يعثر على أثر لجدته , وهذا لابد أن يحدث , يخرج الصبي من حياته .
ولكنه سيفتقده بجنون .. 
تنهد بضعف . ووضع جبهته على العامود , وهو يسأل نفسه عما جعل حياته تتعقد مرة أخرى بهذه السرعة ؟ لقد كان يظن انه ما أن يخرج من السجن حتى تصبح حياته سهلة ميسورة . فيأكل وينام , ويعمل ويبتعد عن التدخل في شؤون الغير ولا يهتم إلا بشؤونه الخاصة . تلك هي النصحية التي زوده بها مايك الكبير المحكوم بالسجن المؤبد , وهذا ما صمم عليه .. أن تكون حياته بسيطة غير معقدة .
ما عدا أنها لم يجد البساطة في حياته منذ أن جاء الى هذا المكان . هو الذي عاش وحيدا على الدوام , يجد الآن الناس يقبلون عليه من كل صوب . والأسوأ من ذلك انهم أناس يحبهم ويهتم بأمرهم ولا يريد أن يؤلمهم . من أين جاؤوه كلهم ؟ يا للبؤس , فهو كان يريد أن يتعود على الحرية والحياة الطبيعية , مهما كان الأمر , وعلى العيش حياة منتظمة .
نهض واقفا يضرب العامود بقبضته بخفة ويفكر .. لماذا لا يدع السلطات تأخذ منه الصبي الآن , قبل أن تتوقف العلاقة بينهما , وقبل أن يصبح الأمر مؤلما بالنسبة إليه هو ؟ جيرالد ؟
كان جيرالد يعلم الجواب , وهو أن القسوة ما كانت قط جزءا من شخصيته .
فأين انتهى به كل هذا ؟ انتهى به إلى محاربة نظام أمضي حياته يحاربه دون أن ينتصر ولو مرة واحدة ؟ وليس ثمة طريقة يمكنه أن يهزمهم بها إلا إذا ..
ورفع رأسه ينظر إلى روني وإذا به يدرك أنها كانت تنظر إليه طوال الوقت , وذلك في ضوء الشفق تلاقت نظراتهما فأخذ جيرالد يفكر , إلا إذا وضع مسألة الزواج في الإعتبار.
سألها : " هل تمانعين في جلوسي بجانبك على الأرجوحة ؟ "
فأفسحت روني له مكانا بجانبها دون أن تنطق بكلمة . لقد رأت نفسها في وضع مريح غاية في الإسترخاء , بينما هي في الحقيقة , كتلة من الأعصاب المتوترة .
جلس جيرالد بجانبها على الأرجوحة , مدليا قدميه إلي الأرض , ولكنه مد ذراعه على مسند الكرسي بنفس الطريقة التي فعل فيها ذلك في الزورق . لم ينظر إلي روني ولكن قربه منها حرك مشاعره . أخذ ينظر أمامه , بينما سألته هي : " كيف كان الاستحمام ؟ " وشبكت يديها حول جسمها تغطي بذلك رجفة مفاجئة للمصارحة المتوقعة . ذلك أنها في خلال دقيقة , عليها أن تتحدث عن مقابلتها للضابط تيلمان .
أطلق جيرالد ضحكة قصيرة جافة , دون أن ينظر إليها , ثم قال : " إنني لم أغرق لك الحمام بالمياه . "
فقالت ضاحكة هي أيضا : " مسرورة لسماع ذلك . ولكن ليس هذا ما كنت أعنيه . "
" أعلم هذا . " ومنحها إبتسامة باهتة : " لا تقلقي , فقد تقربت إليه كثيرا . "
" هذا حسن . أما السبب الذي أردت أن اتحدث عنه إليك .. " 
" نعم ؟ "
" أنا .. أنا ذهبت لرؤية ضابط السيد تيلمان , هذا النهار . "
" ماذا تقولين ؟ "
هتف بذلك وهو يندفع واقفا من على الأرجوحة بينما أجفلت روني بشكل ملحوظ . لقد كانت توقعت من احتمال شعور جرالد بالمفاجأة , ولكنها لم تتصور قط أن يحملق جيرالد فيها غاضبا بهذا الشكل .
قال وكأنه ينفث اللهب : " ياللجرأة . "
فاحتدت بالمقابل , وهبت واقفة هي أيضا وهي تقول من بين أسنانها المطبقة : " إذا كان هذا يعني الاحتفاظ بالصبي هنا معنا , فإن لدي الجرأة للقيام بأي شيء , أيها السيد . "
" إن تيلمان يخصني أنا . "
" ليس إذا تعلق الأمر ببيتر . فقد جعلت أنت ذلك الصبي يخصني , أيضا . "
رفع راحتيه معا وهو يقول : " لا بأس لا بأس , أنا آسف . "
فأومأت برأسها , ثم قالت : " بعد أن أتيت على ذكر الزواج الليلة الماضية .."
فحملق جيرالد فيها بذهول وهو يقول : " كلا .. قولي إنك لم تحدثيه عن ذلك . "
" بل حدثته . "
غطى عينيه بيده وهو يئن .
" ليس هذا فقط , بل أخبرته بأننا مخطوبان . "
" آه , ياله من كابوس .."
فتابعت روني متظاهرة بالهدوء , وكأنه لم يقل شيئا : " المسألة هي , إذا نحن تزوجنا , أنا و أنت , فسيبقي بيتر معنا . "
" هذا رائع " وبقى وجهه مدفونا بين يديه وشعر وكأن حبلا يلتف حول عنقه . 
" تبا لذلك , يا فيرونيكا .." وأنزل يده عن وجهه وقابل نظراتها وقد بان العذاب على ملامحه وهو يقول : " لم أكن جادا بالنسبة لما تحدثنا عنه الليلة الماضية . "
" أحقا لم تكن ؟ حسنا .." وكانت تعلم منذ البداية أنه لم يكن جادا , ولكنها تابعت تقول : " بالنسبة إلى هذا الظرف , رأيت أن من المفروض أن أدرس كل الاوضاع . "
" الأوضاع .." هز جيرالد رأسه وهو يقول عابسا : " أتريدين أن تقولي إنك ستقبلين هذا الأمر لأجل بيتر ؟ "
فهزت روني كتفيها وهي تحاول جهدها التظاهر بعدم الاكتراث : " قد أقبل هذا لأجل بيتر . ألا تقبل هذا أنت أيضا ؟ "
حدق في وجهها الهادىء وهو يفكر , وأجابها بقوله : " بكل تأكيد , فأنا أريد أن أقوم بكل ما في إمكاني . " وقال بعد لحظة صمت : " ولكن الزواج .."
فالتهب وجه روني وقالت وهي تدير له ظهرها : " لقد كانت فكرتك أنت . لقد كنت أحاول فقط أن أعثر على الامكانيات المختلفة حيث انها الطريقة الوحيدة التي يمكنني بها وضع قرار ذكي . "
فعاد جيرالد يقول مرة أخرى من خلفها , إنما بصوت ضعيف : " الزواج .. تبا لكل ذلك .."
دس يديه في جيبي الشورت ثم تقدم نحو حاجز الشرفة مرة أخرى ورفع رأسه يحدق في السماء : " هذا شيء ثقيل يا فيرونيكا . "
" أعلم ذلك " وشعرت فجأة بالإرهاق فعادت تجلس في الأرجوحة إنما دون أن تحركها .
عاد جيرالد يقول بعجز : " تبا لذلك .."
فأكملت له الجملة : " .. الارتباط . "
" نعم .. يبدو ذلك وكأنه .. "
" أصبح نهائيا . " ما الذي يفكر فيه يا ترى ؟
فأخذ جيرالد يعب الهواء وهو يرتجف قليلا : " إنها خطوة كبرى في الحقيقة .."
" بل بالغة الضخامة . إنها مخيفة للغاية . "
" لا تمزحي " وساد بعد ذلك صمت عميق كان جيرالد أثناءه ما زال يحدق في السماء وهو يتنفس بمشقة , بينما لم تجرؤ روني على التنفس على الإطلاق وهي تحدق إليه .
وسألها أخيرا : " هل هناك فكرة عن مبلغ المدة التي سيطول فيها هذا الزواج ؟ "
هزت روني كتفيها وهي تحاول أن تبتلع غصة شعرت بها : " إلي متى يدوم وعد الشرف الذي تعهدت به حين إطلاق سراحك ؟ "
" ثلاث سنوات , تنقص أو تزيد نحو شهرين ."
" حسنا .. إذن .. على ذلك أن يدوم ثلاث سنوات .. أو على الأقل حتى نعثر على جدة بيتر ."
عاد جيرالد يزفر الهواء من صدره , بينما عادت هي تقول : " بالمناسبة , هل أنت تقوم بهذا الأمر ؟ "
كانت تتمنى لو يقول : كلا , ولكنه قال نعم : " لقد تحدثت إلى مخبر خاص , وذلك منذ أيام , فأخبرني أنه سيعثر عليها . ذلك لا يعني أن الأمر سهل يسير , فكاليفورنيا ولاية كبرى , كما لا يوجد بلدة تسمي بيستو على الخريطة ."
تنفست روني الصعداء على ذلك , ولكن كل ما قالته هو : " هذا صحيح " وكانت تشعر بتعب بالغ .
أخذ جيرالد يتفرس في يديه . إنه لا يستطيع أن ينكر أن الزواج يبدو في الواقع , السبيل الوحيد للاحتفاظ ببيتر حتى ولو دعا نفسه بالمعتوه لمجرد اتيانه على ذكر تلك الفكرة منذ البداية . الزواج تبا لتلك الخطوة العنيفة المتطرفة .
" ثلاث سنوات .." وأخذ يتأمل عابسا , فالتفكير في ثلاث سنوات من الزواج سبب له ألما جثمانيا . إنه يفضل على ذلك العودة إلى السجن .
وألقى على روني نظرة سريعة ..
ماذا عن العاطفة والاخلاص ؟
إنها لن تتوقع منه أن يكون .. مخلصا لها إلا إذا , طبعا , كانت هناك اتفاقية بينهما في هذا الخصوص ..
حول نظراته عنها بسرعة .. إن هذا لن يكون بطبيعة الحال .. فما المفروض أن يفعله بالنسبة لهذا الأمر .
قالت روني :" إن ثلاث سنوات زمن طويل "
" هذا مؤكد "
وهو مؤبد ’ إذا كانت حرية المرء مكبوتة وكذلك مشاعره . 
" قد تحدث أشياء كثيرة في تلك الأثناء . "
" نعم " وأطلق ضحكة قصيرة ساخرة , وهو يتابع قائلا : " فالناس في ثلاث سنوات يتعودون على كراهية بعضهم البعض . "
فقالت تضحك , هي أيضا , ضحكة قصيرة متوترة : " أو , وهذا يماثل ذلك سوءا , يمكن أن يقع العكس فيحبون بعضهم بعضا . "
وتلا ذلك صمت تام كان يمكن اثناءه سماع صوت الإبرة الواقعة على الأرض . وبتمهل بالغ , استدار جيرالد ليواجه روني و أخذ الواحد منهما يتأمل الآخر دون كلام وبقيا كذلك لحظة بدت طويلة جدا . كانت روني تنتظر أن يقول جيرالد شيئا , بينما كان هو يتساءل عما عسى أن يقول .
هل يسألها ؟ هل يقوم بهذا العمل الجنوني ويسألها ؟
هل سيسألها ؟ وهل ستقوم هي بهذا العمل الجنوني , إذا سألها , فتجيبه بنعم ؟
لكنه لم يسأل . وإنما وقف يحدق إليها وقتا طويلا وذلك دون أن يلقي ذلك السؤال .
خنقتها مشاعر لم تستطع تمييزها ولكنها كانت حتما تتضمن تقريعا للنفس بالغ المرارة لايقاع نفسها في هذا الموقف الحرج .
وأخيرا , وقفت مستقيمة الجسم , ثم استدارت داخلة إلي المنزل .

أب بالصدفة_آن بيتزر_ روايات عبير دار النحاس  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن