الطريق إلى البلدة

335 21 13
                                    


كانت السماء تمطر، تبلل النوافذ برذاذ مائها، تبلل الطرقات وواجهات الأبنية وتتجمع على الطريق بِركًا ترتش كلما مرت فوقها العجلات والأقدام المتعجلة، ابني الصغير على يميني يراقب انزلاق القطرات على نافذة السيارة باندهاش، إنه يندهش من كل شيء، ما زال طفلًا لم يفقد بعد دهشة رؤية الأشياء للمرة الأولى، على يساري تعلقت أنظار شقيقه الأكبر نحو المدى الذي تدفعنا إليه عجلات المركبة، إلى الوجهة التي حكيت له ولشقيقه عنها، البيت القديم الذي يتصوره في مخيلته، والجد، الذي لا ينامان إلا حينما أحكي لهما عنه.

توقف المطر وسكنت القطرات على النوافذ وكأنها تودعها قبل أن تنزلق للمرة الأخيرة، أو هذا ما يتصوره صغيري الذي يخشى هذا الانزلاق الأخير، وابتسمت بشيء من الألم حين أشاح ببصره عن كل النوافذ ودفن رأسه في حضني، نسيت أن أقول بأنه حساس أيضًا، لا يعرف كيف يقول الكلمات الأخيرة قبل الفراق، إنها مجرد قطرات، ولكنها تحمل ذكرى مطرٍ منهمرٍ رافقنا طوال رحلتنا من المدينة إلى بلدتي القديمة.

«أوقف السيارة هنا يا سيدي».

امتثل لي سائق الأجرة على عجل، فهو لا يريد التوغل أكثر في أحياء البلدة، ترجلنا نحن الثلاثة بدءًا بابني الأكبر وانتهاءً بالأصغر الذي سارع بإغلاق الباب وتنفس الصعداء فهو لم يجبر على توديع قطراته التي ما زالت معلقة على النوافذ.

طالبني ابني البكر بتفسير لتوقفنا في هذا المكان، فهو وإن كانت قدماه لم تطآ بلدتي قط، يعلم جيدًا أن بيت جدي لن نبلغه بسرعةٍ على الأقدام، أخذت بيده وتعلق أخوه بيدي الأخرى على الفور وعيناي تحكيان شوقهما أو ربما خوفهما من المكان.

«سأريكما بعض مراتع طفولتي على طريقنا، لن نشعر بالمسافة إن تأملنا المكان جيدًا».

أومأ بإذعانٍ متردد، إنه يفهمني أكثر مما أفهم نفسي، يعلم أنني أخشى الوصول سريعًا لوجهتنا.

تحركنا في صف يتخلخل كلما تقدمنا الصغير أو تسمر في مكانه يراقب الناس والأشياء، أجره برفق ليستقر بجانبي، لأشعر بالتوازن من جديد، فأنا لا أود تكرار عودتي وحيدةً إلى ذلك البيت القديم.

«أنظرا لهذا القط!»

أشار لقط سمين كسول يستريح فوق دكة كساها الوحل بعد المطر، يرمقنا بكسل، ولكن شيئًا ما في عينيه جعلني أستجيب لإلحاح ابني بالاقتراب من القط الرمادي، الغوص في عينيه العميقتين أسفل جفنين أثقلتهما الأعوام، وكأنه يجلس في مكانه حارسًا يتفحص القادمين ويقيس مدى تغيرهم عما كانوا عليه، ليس هذا ما قادني نحوه، بل لأن عينيه الداكنتين تحملان حزنًا مألوفًا، توقًا لما ولى من أيامٍ لن تعود، لأحبة لن يرجعوا، لذكريات نخشى أن نفقدها كلما تقدم بنا العمر، وكأنني أرى عينا جدي، حزنه وألمه، وخوفي من مواجهته قبل سنواتٍ يتجدد.

بيتُ جديحيث تعيش القصص. اكتشف الآن