|حــور|

54 10 21
                                    

في زاوية غرفة موحشة بظلامها الكئيب فتاة صدأت حنجرتها لكثرة صراخها الذي احتضنت الجدران صداه اليائس.
وفي غرفةٍ مجاورة أمٌّ تندب حظها بدموع تسقي الوجنتين وزوجها أسير أشجانه بجوارها يواسيها.
هكذا كانت حياتي العائلية.. أنجبتُ ابنتي العزيزة
"حور" بعد خمس سنوات من زواجي بـ "إحسان".
وبذلك فقد كان قدومها شيء كبير بالنسبة لنا فغمرت السعادة بيتنا
لن تتصوّروا مدى فرحتي عندما أحضروها لي وأنا في سرير المشفى الأبيض لأراها وأضمها إليّ بحنان وحب.
هجمت عليها أضمها أدفنها بين ذراعي الدافئان أقبلها في كل مكانٍ من وجهها ثم أتأملها وأقول سبحان الخالق!
كان جمالها بَهيْ! ظننتها للوهلة الأولى ملاك، لم أرَ طفلاً بجمالها قط وأعتقد أنّي لن أرى..
براءتها التي انهمرت من عينيها الحوْراء فور فتحهما، كانتا واسعتين ذواتا  رموش سوداء طويلة..
وشعرها الكستنائي! منسدلةً خصله الحريرية على أذنيها الناعمتين، كان يبرق تحت أشعة الشمس التي تسللت من النافذة لترى حُسن صغيرتي .
ووجهها.. وجهها كان كالبدر حين يتلألأ في وسط السماء بين بنات نعش وأنفها كان صغيراً وحاداً والذي كانت تعلوه وحمة حمراء صغيرة في جانبه الأيسر وياللطافة فمها المرسوم بدقة، صغيرٌ وردي اللون.
أحببناها بكل جوارحنا وعلّقنا كلَّ آمالنا عليها، في كل شهر تكبره نقول أنا وإحسان: يا مقطوعة النظير يا جميلة! بإذن الله ستحملين اسمنا وترفيعه إلى أعلى الأمجاد فنفخر بك.
قضي من عمرها سنتان لاحظت أنا و"احسان" أن هناك شيء غريب في طفلتنا على الرغم أن الأطباء حين ولادتها أعلمونا بأنها بصحة جيدة.
كانت غاليتي "حور" تخاف من الدمى فكلما أتيت لألاعبها بدميتها ترجع للوراء وتشعر بالرهبة، وعندما آخذها معي إلى بيت الجدة لا تبدي أي استجابة مع مناغاة جدتها أبداً بل تشيح بوجهها وتدفنه في عباءتي السوداء.
-قرأت عليها القرآن كثيراً لظني بأن حسداً ما قد أصابها وبإذن الله سيزول ولكن الله لم يرد هذا وظلّ حالها كما هو.
هكذا وصفت حال" حور" للطبيب بعدما اعتلاني شعور القلق والخوف على طفلتي، وما لم يكن في الحسبان أبداً هو ردُّ الدكتور، حيث قال بصوتٍ متقطع: أنا آسفٌ يا سيدتي.. ولكن طفلتك الجميلة ... لديها طيف التوحد.
أتذكرعندما قال الدكتور هذه الكلمات المليئة بالأسى والشفقة أنني لم أستوعب الأمر في المرة الأولى فقلت وأنا أحملق عيني بشدة من أسفل النقاب والدهشة تنتابني وصوتي يرتعش قائلاً: ماذا؟ فصمتُّ لبرهة ثم قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
أخذت التقرير وغادرت المشفى وعيناي تغرورق بالدموع، صرتُ مشتتة لا أدري ما الذي سأفعله.. كيف سأخبر "إحسان" والكثير من الأسئلة التي جالت في فكري.




وصلت إلى المنزل.. بدّلت ملابسي واخلدْتُ "حور" إلى النوم وطهوت الغداء إلى حين مجيء "إحسان" من شركته. بعد ساعة عاد "إحسان" فسكبت الطعام وجلسنا على المائدة وشرعنا في تناول الغداء بصمتٍ تام، قطعه زوجي بسؤاله: لقد ذهبتِ إلى الطبيب، أليس كذلك؟
- أ. أجل لقد فعلت.. كما قلت لك البارحة.
-هل حدث شيء سيء ل "حور"؟
همست: كلا.. ثم أردفت بنبرة أوضح:كلا، لماذا تسأل؟   
-لماذا أسال؟! إنها ابنتي الوحيدة ثم إنك لست على عادتك فأنا أرى الحزن والقلق في عينيك الرماديتين، وأنا زوجك ولا يجب عليك أن تخفي شيء عني فما يحزنك يحزنني وما يقلقك يقلقني ولا تحملي العبء لوحدك أبداً.
استسلمت للأمر الواقع وكانت كلماتي متقطعة وغير مسموعة تقول: إنَّ.. إنَّ صغيرتي مصابة بطيف التوحد.
ثم انفجرت دموعي كالسيل الجارف، كان موقف "إحسان" مني غريباً حقاً لم استوعب أنّه تقبل الأمر هكذا فلقد عهدته جزوعاً لا يحتمل المصائب إلا أن ما بدر منه عكس ما توقعته تماماً. جفّف لي دموعي وقال لي بصوت رقيق: لا تحزني، قدر الله وما شاء فعل وبإذنه تعالى سنتغلب على هذا الاختبار الذي وكّلنا الله به، فالله عز وجل لا يبتلي إلا العباد المحببين إليه.
ارتاح قلبي عند سماع تلك الكلمات المليئة بالإيمان والطمأنينة، بالتأكيد سأترك أثراً فيه طوال مدة زواجنا.
ومن هنا بدأنا بالتفكير عمّا سنفعله بشأن "حور" لنصرتها على تلك السلاسل البيضاء التي تقيدها عن رؤية العالم كما يراه كل الأطفال ولأجل هذا توجهنا لمختص أطفال طيف التوحد وأسدى لنا الكثير من النصائح النافعة التي تساعد الأطفال المتوحدين في التخفيف من حالتهم، ولكن مع الأسف الشديد عانينا كثيراً مع "حور" كانت كثيرة البكاء والصراخ متقلبة المزاج تحمل مخاوف جمة في قلبها الصغير، تأبى محاولاتي في جعلها تتخالط مع أقرانها وذلك لأنها تخاف من الضوضاء وكما تعلمون الصغار هم أصحاب الضوضاء وليست أي ضوضاء إنها ضوضاء البراءة والفرح والمرح.
أخبرت "إحسان" بما لاحظته لأنها نقطة مهمة يجب أن تتغلب عليها كي تستطيع التأقلم مع المحيط وهي المشكلة التي منعتها من الذهاب إلى رياض الأطفال، حيث في أول يوم رافقتها فيه إلى الروضة بكت وصرخت صراخاً لم يشهده أحد من قبل كان عويلاً عالياً صدر فجأة دون سابق انذار..
كان ذلك الصراخ قد أثار الرعب في نفوس الأطفال الذين كانوا متواجدين وإثر ذلك رفضت الإدارة استقبالنا بقولها: نحن آسفون لا نستطيع استقبالكم هنا لأن هذه الطفلة ستقلل من الطلاب إذا علم الأهالي أن طفلة مثلها بين أولادهم.
لذلك قررت أن أدرسها في البيت، غاب عن بالي في السنة الرابعة من عمرها جميع المؤسسات التي تضم ذوي الاحتياجات الخاصة حتى تذكرتها عندما قضي ست سنوات من عمرها، كلا.. بل أعتقد أنّ "إحسان" رفض فكرة المؤسسات تلك لا أعلم ما الشيء الذي سيطر على دماغه وصار يجول فكره آن ذاك ولكنني أظن أنه كان يخاف من قول الناس، لا يريد في المستقبل أن ينفر الناس من ابنته، كان الخوف على "حور" قد أعمى نظرته الإيجابية للأمور.
أكثرت من دعائي لربي في سجودي وركوعي وكثرت معهما دموعي على صغيرتي، كنت دائماً ما أردد قول نبينا يونس -عليه السلام- لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وأدعو خلفها مباشرة قولي: يا الله يا من سميت نفسك بالأسماء الحسنى أسالك أن تخفف من عبئنا وتجعلنا من عبادك الصالحين الصابرين وأنر بصيرة زوجي العزيز يا الله وازرع الصبر والسلوان في قلبه يا رب إنك أنت الغفور الرحيم.
وفي يوم وبالتحديد يوم السبت، أتذكره جيداً لأن "إحسان" كان لديه عمل متراكم في الشركة فآثر أن يداوم في يوم أجازته حتى ينهي ما عليه، وعندما عاد من عمله كالعادة جهزت له الغداء بعدما استحم وما إن جلسنا على السفرة حتى قال: غداً سوف تذهبين مع "حور" إلى المؤسسة التي سجلتها بها اليوم. وصمت
كانت هذه الجملة أجمل ما وقع على مسمعي في حياتي بأسرها شكرت "إحسان" من أعماق قلبي كثيراً بعدما حمدت ربي ألف مرة.
بدأت "حور" دوامها بشكل منتظم ... كالعادة طبعاً ملأت أرجاء المكان بالعويل والصراخ في أول يوم.. وبينما هي كذلك جاءت آنسة طويلة القامة سمحة الوجه في ريعان شبابها وركضت بجانبها وسيطرت على الوضع بسهولة ومهارة كأنه تهدئة حمامة صغيرة بيضاء بينما كان الأمر في نظري هو ثور ضخم اسود ذو قرون حادة بارزة لا يستطيع صاحبه تهدئته ابداً. كانت تلك المعلمة رائعة أحبّت "حور" كثيراً واعتنت بها جيداً وكل يوم كانت تنصحني نصائح جيدة تساعدني على فهم ابنتي أكثر.
إنني مدينة لها حقاً وكثيراً على ما قدمته لنا، حيث استطاعت تغيير "حور" من شخص انطوائي يريد العزلة عن العالم ويخاف من المحيط إلى شخص طبيعي نوعاً ما يستطيع التواصل مع الآخرين ولكن بشكل خجول جداً والحمد لله على كل شيء.
بقيت تتلقى التعليم على يد تلك المعلمة المذهلة في المؤسسة حتى وصلت للمرحلة الرابعة من الدراسة، في تلك الفترة كنا ننظر أنا و"إحسان" أنه يجب أن نرسلها إلى مدرسة عامة كي تتخالط مع أطفال مختلفين ليسوا كمثلها وبذلك قررنا أن تكمل السنة الرابعة في المؤسسة وعند بداية السنة الجديدة سنرسلها إلى هناك.
مرت تلك السنة على خير وشعرنا بالسعادة لهذا، ثم سجلناها في إحدى المدارس، أذكر في اليوم الأول لدوام "حور" عندما كنت أربط حزام نقابي الأسود القطني بحزم كي نخرج ونذهب الى المدرسة أنّ "حور" همست بصوت رقيق قائلة:
ماما.. إني خائفة لا أريد أن أذهب إلى هناك.
هنا كانت مشاعري متخالطة أَ أشعر بالسعادة لأن ابنتي لأول مرة تفصح لي عن مشاعرها أم أقلق لإن صغيرتي خائفة من مكان سوف تقيم فيه سنين معدودة؟! استجمعت مشاعري وقلت لها بصوت هادئ: كلا يا عزيزتي فالمدرسة مكان جميل فيها معلمات طيبات وأصدقاء كثر سوف تتعلمين الكثير من الأشياء المفيدة والمسلية فيها.
ردت علي بابتسامة مطمئنة ثم اتجهت نحو غرفتها الخاصة وعادت واضعة قبعة سوداء تغطي ملامح وجهها الجميل، لم أحدّثها بهذا الموضوع لأنها ستفجّر صندوق عويلها كما فعلت في أحد المرات، لكن عندما نظرت إلى وجهها الحازم وعيناها اللتان كانتا تبرقان بقوة أحسست بأنه يوجد حبل غليظ قد عقد على قلبها يمنع خروج خوفها ورعبها إلى الخارج..
والحمدلله سار كل شيء على ما يرام، ذهبنا إلى الإدارة رحبت بنا وأخبرتنا عن صف "حور" دخلت "حور" الصف بالقبعة وعرّفت عن نفسها وجلست في المقعد الأخير.
كان بودّي أن أبقى معها إلى آخر الدوام لكن للأسف كانت المستشفى بانتظاري فأنا أدير كل الأمور فيها، لذا اضطررت إلى تركها لتدير شؤونها لوحدها ولأول مرة تعتمد على نفسها.
راودتني الكثير من الامور السلبية عندما كنت احوار نفسي مثل: هل ستبكي فجأة، لن يصادقها أحد، ستكون وحيدة لمدى الحياة، سيتنمرون عليها.. كلا ستكون برعاية الله

والمفاجأة كانت عندما عادت من المدرسة!
ليست بحور الاي أعرفها، مختلفة جداً وجنتاها تتوهج بحمرة ومبتسمةً تحمل القبعة بيدها.
رحبت بها وجلسنا على المائدة بانتظار "إحسان" أذكر بينما كنا كذلك كانت شاردة الذهن تبتسم بين الحين والأخر، كنت سعيدة جداً بهذا فلقد حدث تغير جذري من اليوم الأول .
وعندما جلس "إحسان" على المائدة، انطلقت "حور" تتحدث عمّا جرى معها بحماس وحيوية بينما أنا و"إحسان" متعجبين مدهوشين وسعيدين بنفس الوقت.
فقد عرفنا ما هو سبب تغيرها، قالت لنا بصوتها الرقيق أنه في الفسحة وبينما كانت تسير في وحدها اصطدمت بفتاة أسقطت قبعتها وأضافت أيضاً انها كانت خائفة مما جرى وكانت تهلع لأخذ القبعة إلى ان صدر صوت شجي دخل إلى قلبها يقول: أنت جميلة.
وصفت "حور" الحدث بدقة كبيرة وبالتفاصيل المملة فقالت آن ذاك: رفعتُ رأسي ببطيء وكنت ما زلت خائفة فوجدتها زميلتي في الفصل مادة يدها لي كي انهض.
نهضت بمساعدتها ووقفت دون حراك متعجبة من الذي حدث وكنت في  تلك اللحظة على وشك أن أهرب برجوعي للوراء وبينما كنت كذلك قالت لي وهي تنظر الي بعينيها البنيتان الواسعتان وخصل شعرها الخروبي القصير تتشاكس على خديها مع هبات نسمات الهواء اللطيف: ما رأيك أن نصبح أصدقاء؟
أتدري يا أمي لم أعرف ما الذي أقوله في تلك اللحظة أبداً. مرّت لحظة صمت مليئة بالرعب والخوف بالنسبة لي بينما هي كانت تنتظر اجابتي على أحر من الجمر فهتفت فجأة بحماس
قائلة: إن الصمت علامة الرضا وجرّتني من ساعدي وبدأت تركض وانا كنت خلفها كالبلهاء وتناولنا الغداء معاً وقضيت وقتاً مليئا بالحكايات التي صدرت من قبلها وعند آخر الدوام
ودعتني وقالت: أراكِ غداً يا صديقتي العزيزة.
أيضاً لم أستطع الإجابة للأسف ولم استوعب الأمر إلا وأنا في الباص، قلت لنفسي حينها: لقد أصبح لدي صديقة، يا إلهي!
وها أنا أجلس وأحدثكم بما حدث، أنا متحمسة للغد حقاً.
وهكذا ابنتي "حور" تغيرت مئة وثمانون درجة وكانت كل يوم تتحسن وتصبح أفضل وأكثر طبيعية في تصرفاتها وكان دائماً ما يقتصر حديثها على الطيبة "ماريا" وفتاة أخرى كانت تصفها بالمتسلطة وتزعجها، كان اسم الفتاة ريم...

كنّا أنا و"إحسان" نتغاضى عن هذا الموضوع فنحن لا نريد أن نكبّر الأمر ونريد الحفاظ على سمعتنا ولربما تريد الفتاة أن تعرض صداقتها بطريقتها الخاصة
وفي يوم أعلنت المدرسة عن رحلة ميدانية إلى مختبر علوم في إحدى الجامعات التعليمية للمتفوقين في تلك المادة و الحمد لله كانت "حور" منهم وأيضا صديقتها كذلك 
كانت السعادة والحماس الشديدان يغمران "حور" بصراحة كنت نصف سعيدة لسعادتها والنصف الآخر قلق من أن يُحدث ذلك الحماس شيء كارثي، وصدق حدسي...

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jun 01, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

حورWhere stories live. Discover now