"الفصل الأول "🥀

162 2 1
                                    

إلى ذلك القريب البعيد
وبعد :
ها قد مر عام ...وأسبوع ...وثلاث ساعات على فراقنا
أجبني بربك ...ألا يكفيك كل هذا الخصام ؟
ألا ترحم قلبي المتيم بك يا قاسي الفؤاد ؟
ألا تشعر إنك تماديت في قسوتك ...وفي بعدك المتعمد هذا ؟
ذات يوم وضعتك في ودائع الرحمن خوفاً أن أعيش يوماً بدونك
وها أنا اليوم أعيش العذاب بحياه لم اعتد بها على فقدانك
لا أعلم كيف خطفك الرحيل مني بغته  دون وداع ودون إنذار مسبق
أعلم أنك تهرب مني ...لكنني لا استطيع أن أهرب منك ...
لا استطيع أن أهرب من حقيقة مشاعري تجاهك
كلما أحاول أجد نفسي أعكف الطريق نحوك بإصرار
أعلم أن هذا يزعجك لكنني حقاً لا استطيع  ...ولا زلت لا استحي رغم كل محاولاتك لإبعادي
مازلت أختار أن أحبك دائما رغم أنك اخترت البعد
رغم قسوتك مازلت أختار أن أحبك دون تردد
مازلت أحملك بداخلي دائماً ،في أفكاري ...في أوراقي ...في خلواتي ...في قلبي ...في أحاديثي العفوية ...في دعائي وصلاتي
حتى وانت لست هنا ،انت معي دائماً ...
كيف لي أن أنساك وهنا في كل زاوية من زوايا هذا المنزل ...يحمل ذكرى لك
انت لا تُنسى عز ...نور لا يمكن أن تنساك
هل تذكر أول مرة أتيت بها إلى هذا المنزل ؟ كنت شبح طفلة ...طفلة لم تتعدى الخامسة من عمرها كانت ضحية لزواج فاشل ...ضحية أم أنانية ...وأب قاسي لم يعرف للرحمة طريق
في وسط إنعزالي عن العالم وقتها وزد عليه إهمال أمي لي بعد إنفصالها عن أبي  ...كنت أشعر إنني في دوامة لا نهاية لها
لتأتي انت وتنتشلني من الضياع
أول مرة حاولت فيها التحدث معي كنت ما زلت أعاني من تبعات ما حصل معي ...أخاف الجميع ولا أحبذ أن يقترب أحد مني ...كنت شاردة دائماً لا أسمع أحداً ولا أرى أمامي سوى معاناتي ...لكنك لم تيأس ...ظللت تحاول أن تخرجني من حالتي تلك مراراً
تسللت إلى روحي رويداً رويداً حتى استحوذت على عقل تلك الطفلة البائسة
انت الوحيد الذي لم أحصن نفسي منه ولم أحصر علاقتي بك بأي حد من الحدود ...لم أخشاك ولم أكره إقترابك مني على عكس الجميع
كنت دائماً الأقرب والأحب إلى قلبي ...دائماً أراك الأكثر ...صاحبي الأكثر ...قريبي الأكثر ...حبيبي الأكثر
كنت سبب ضحكتي وعافيتي وسعادتي ...
أَتذكُر حين تزوجت أمي وأخرجتني من حساباتها كما فعل أبي قبلها حين تزوج أيضاً؟
في الصباح التالي قامت القيامة وكنت أنا الضحية أيضاً كما العادة
أخبرتك سابقاً عن مدى كرهي لبيت أبي ولكل من يعيش فيه ...
حين حاول عمي إرجاعي إلى بيت العائلة شعرت بأنني سأنهار ...بكيت وتوسلت أن يدعني لأظل بينكم لكنه كان قاسياً تماماً كوالدي ...على الأغلب القسوة وانعدام الرحمة شئ متوارث لدى هذه العائلة
ومع كثرة مقاومتي له وقتها نزلت صفعة منه على خدي حتى أرضخ له لكن ظهرت انت من العدم ...رغم صغر سنك وقتها ...ألا أنك كنت بمثابة طوق النجاه بالنسبة إلي ...
لم أتردد لثانية وقتها أن أرتمي بأحضانك وأتشبث بك لتحميني منهم ...لتحميني من كل شئ
كنت ومازلت أراك مصدر أماني واطمئناني ولم تخيب ظني بك يوماً
ملجأي وملاذي ...انت عائلتي الوحيدة التي لم أعرف غيرها
صدقني أنا لا أعرف شعور العائلة إلا معك
لا أعرف الحنان إلا معك ...ولا أعرف الحب أيضاً إلا معك
انت وحدك من تستحق الإستثناء ...تستحق أن أضع العالم كله في كفة وانت في وسط قلبي
...............
توقفت عن الكتابة وهي تقاوم موجة البكاء الثانية التي باغتتها بنفس الليلة ...بكت بصمت ...بكت بتعب ...بقهر
لا تستطيع فعل شئ سوى البكاء ...والكتابة
تكتب وتكتب ...يشكو قلمها فراق ذلك الحبيب الذي لم تتخيل يوماً أن تفارقه
ليلة ثقيلة أخرى مرت عليها ككل ليالي هذا العام منذ فراقه...كل ليلة تبدو كمصير أبدي ...إلى متى ينتهي هذا الفراق ...متى سيعود ...لقد إشتاقت له إلى الحد الذي يوقظها كل ليلة شوقاً له
لقد أهلكها الإشتياق ...متى سيرحمها ويعود
لا أحد بإمكانه أن يملئ فراغه فرحيله كان بمثابة فاجعة لا يمكن تجاوزها
منذ رحيله والحياه قد توقفت ...مازالت عالقة في تلك الليلة التي هجرها بها وغادرها دون سابق إنذار
الكون لم ولن يتوقف ...لكن هي من توقفت
مازالت عالقة هناك ...واقفة كعصفور نسي كيف يطير !
وجدت نفسها رغماً عنها تتجه نحو غرفته ...تنظر في كل زاوية من زواياها وهي تتذكره
تتذكر وجهه الذي تحبه ...عينيه التي تهيم بها عشقاً ...شعره المبعثر وابتسامته الجميلة
اشتاقت لكل تفاصيله ...لصوته ورائحته ...لأسلوبه وحماسه في الحديث عن أشيائه المفضلة
اشتاقت لحنانه واهتمامه بها ...اشتاقت لتأنيبه لها عند تقصيرها في دراستها رولسهره بجانبها عند مرضها وتعبها
حملت عطره الذي تعشقه لتنثره في أنحاء الغرفة ثم سحبت نفساً عميقاً لتدخله في ثنايا صدرها وهي تغمض عينيها وتتخيله أمامه بطلته البهية وطوله الفارع ...يبتسم لها بحنان كعادته
فتحت عينيها لتنظر ناحية مكتبه حيث كان يقضي معظم وقته بالدراسة
ابتسمت بمرارة ما إن لاحت بعقلها تلك الذكرى
*****
كان جالساً خلف مكتبه الدراسي يذاكر دروسه فهذه هي آخر سنة دراسية له وعليه أن يجتهد بحق حتى ينهيها ويحصل على مجموع عالي ليلتحق بكلية الهندسة
كان مركز كل حواسه على الأوراق التي بين يديه لدرجه أنه لم يلحظ دخول تلك الصغيرة ووقوفها أمامه بخصلات شعرها المبتلة  ثم محاولاتها للفت انتباهه لها عند طريق شد كم قميصه عدة مرات لينتبه لها فورا ليشعر بالاستغراب من تواجدها في غرفته بهذا الوقت
تساءل بقلق وهو يتفحصها بتمعن
-في حاجة ...عايزة حاجة يا نورا ؟
أومأت له بالايجاب لتمسك يده تشده منها بإلحاح حتى تجعله يستقيم ليستجيب هو فورا لها وينهض معها تاركاً إياها تقوده إلى حيث شاءت متجاهلاً دروسه فراحتها وامانها هما أهم أولوياته فهو منذ ذلك اليوم الذي قطع فيه عهداً على نفسه بأنه لن يتخلى عنها وهو لا يتوانى للحظة عن فعل ما تريده وما يسعدها ...كما  لو أنها قطعة منه ...كما لو أنها ابنته !
تساءل مجدداً حين رآها تقوده حيث غرفتها
-في حاجة مخوفاكي في الأوضة ...عايزاني أفضل جنبك لغاية ما تنامي ؟
لكنها لم تجبه إلا حين أصبحو بداخل الغرفة
لتتركه واقفاً بمنتصف الغرفة يطالع تحركاتها باستغراب ليراها تتوجه ناحية طاولة الزينة خاصتها لتمسك بفرشاة الشعر وتتجه ناحيته لتضعها بيده ،ثم سحبته مجدداً ناحية سريرها لتجلس على طرفه وهي تطالعه برجاء فهمه هو لكنه لم يمنع نفسه من سؤالها
-ليه مقولتيش لخالتو مريم تسرحهولك  أو لأي واحدة من الخدامات ؟
طالعته ببراءه هزت قلبه وهي تقول بخفوت بينما تحرك ساقيها التي تتدلى من السرير برتابة
-مش بحب حد منهم يلمسه شعري
قهقه بخفوت وهو ينظر لها بتمعن وعلى وجهه ابتسامة حنونة
-طب منا كدا همسك شعرك وانا بسرحه ...اشمعنى انا عادي ألمسه !
طالعته ببراءة ورجاء ولم تجب ليتنهد هو ويتحرك ليجلس خلفها على السرير ...ثم أخذ يمشط خصلاتها برفق ولمساته الحنونة تمسح على رأسها مع تحرك المشط عليه بينما هي تجلس بكل هدوء تنظر أمامها
-تعرفي إن شعرك جميل أوي يا نونا
ابتسامه دافئة ارتسمت على وجهها وهي تشعر بكل هذا الامان والاحتواء من ناحيته تجاهها
ظل يمشط شعرها  دون ملل أو تذمر ...وسط صمت تام منها فقط تناظر أمامها بشرود لاحظه هو لكنه لم يرد أن يقطع عليها حتى تبادر هي بالحديث
لكن فجأة همست بما جعل قلبه ينقبض بألم من سؤالها المباغت
-هو ليه ماما وبابا مكانوش عايزيني بحياتهم ؟ للدرجادي انا وحشة ؟
نظر لها بصدمة من حالتها ...فرآها تنظر إلى نقطة وهمية بشرود وكتفيها متهدلان بانهزام قهره
ليستقيم من جلسته متحركاً ليجلس على عقبيه أمامها ،لتتحاشى هي النظر إلى وجهه وتنكس وجهها أرضاً باتجاه قدميها بينما عينيها لمعت بدموع متحجرة
حرك مظهرها هذا بداخله مشاعر أبوية تجعله يرغب باحتوائها وضمها إلى صدره ،يخبئها به حتى يحميها ويمتص آلامها تلك
-ليه بتقولي كدا ؟انتي شايفة نفسك وحشة ؟
لم تجبه بل اكتفت بتحرير دموعها لتهبط على خدها ...ليرفع هو كفه ليمسح على خدها برفق محاولاً إزالة تلك الدموع التي تؤلمه بقسوة
-بصيلي يا نور...
فعلت ما طلبه ورفعت مقلتيها لتطالعه بانكسار وقهر قتله وجعله يفكر كيف يمكن لكل هذا القهر أن تظهر آثاره جلية على ملامح تلك الطفلة التي لم تتعدى الخمس سنوات...أو بمعنى أصح ...شبح هذه الطفلة ...فمن أمامه ليست سوى بقايا طفلة ...أعدمت برائتها على يد أقرب الناس إلى أي طفل بسنها ...والديها
-انتي مش وحشة ...ولا عمرك هتكوني وحشة ...الناس هي اللي وحشة يا نور ومتساهلش ملاك زيك ...انا لو عندي بنت زيك عمري ما هفكر أسيبها ...هما ميستحقوكيش ...ميستحقوش ان نونا تبقى بنتهم
نظرت له بشك ومازالت تذرف الدموع بلا توقف ليدرك هو انها قد فقدت ثقتها بنفسها وبمن حولها ليكمل بتأكيد محاولاً بث الأمان الى قلبها المنكسر الذي لن يتحمل كل هذه المعاناة
-انتي كتير عليهم أوي ...انتي كتير على أي حد ...انتي اغلى واعظم هدية ممكن حد ينالها في يوم
انتي احلى واجمل وارق بنت في الدنيا
حطي الكلام دا في دماغك واوعي تنسيه
لو في حد خسر هنا يبقى هما اللي خسرو مش انتي ...انتي أكبر خسارة لأي حد...
ظلت تنظر له  بعينيها الداميتان فلم يتحمل أكثر من ذلك ...فرؤيتها بكل ذلك لانكسار أدمى قلبه وفاق قدرته على التحمل ...ليسحبها محتوياً إياها بين ضلوعه
ضمها بقوة حانية خائفاً من إيلامها ...لتعانقه هي بدورها بقوة ...بقوة شديدة مودعة بهذا الحضن كل ألمها وانكسارها ...وهي تحاول كتم شهقاتها دافنة وجهها بعنقه بقوة ليشعر هو بدموعها تبلل قميصه لكنه لم يهتم ...فهو يعلم أنها بحاجة إلى هذا الحضن ولم يبخل عليها أبداً
*******
استفاقت من أحب الذكريات على قلبها وهي تمسك بين يديها صورته ثم أخذت تحدثه بعتاب كما لو كان أمامها وعينيها تلتمع بالدموع التي تهدد بالإنهيار
-سيبتني ومشيت يا عز ...ارتحت كدا ...مبسوط وانت بعيد؟
فاكر إن ببعدك عني مصلحتي ...بس متعرفش إنك دمرتني يا عز
انت مش عارف قد إيه انت قسيت عليا باللي عملته
أنا لغاية دلوقتي مش مصدقة إنك سيبتيني ...إزاي هنت عليك تسيبني حتى من غير وداع
كل دا عشان بحبك يا عز ...للدرجادي دي غلطة لا تغتفر بالنسبالك
لسا شايف إن حبي ليك حب مراهقة ...لسا شايف إن حبي ليك غلط ومينفعش
فاكر لما مرضت مرة وانت سهرت جنبي قلتلي إنك مش هتسيبني وهتفضل جنبي
طب أنا دلوقتي مريضة يا عز ...مريضة أوي وقلبي واجعني بس انت مش جنبي
بنادي عليك بس مش بتسمعني
أنا بقيت بهمل دراستي أوي بسببك بس انت دلوقتي مش موجود عشان تعاتبني
بقيت مباكلش بالأيام بس انت مش موجود عشان تهتم بأكلي
عينيا مبتوقفش بكى من ساعة ما سبتني ...بس انت مش هنا عشان تمسحلي دموعي ...انت مش هنا عشان تاخدني بحضنك وتمسح على شعري وتقولي إنك مش هتسيبني وانك معايا وهتفضل معايا ...انت مش هنا يا عز
انت فين إرجع أبوس إيدك ...مش انت وعدتني إنك عمرك ما هتسيبني ...ليه بقيت زيهم وسيبتني
أنا وحيدة أوي يا عز ...انا وحيدة بسببك عشان مش عايزة غيرك ...بس انت خذلتني أوي
كنت عارف إني بخاف من الفراق ومع ذلك فارقتني
أكملت وهي تمسح تلك الدمعة التي سقطت على الصورة لتلطخها :بس أنا مش غضبانة عليك عشان انت استثناء يا عز ...انا عارفة إنك غيرهم كلهم
شهقت وهي تقاوم تلك الغصة التي تصعب عليها الحديث :بس زعلانة منك أوي يا عز ...هترجع إيمتى أنا حاسة إن الوقت مش بيمشي أبدا
إرجع عشاني ...قلبي واجعني أوي ...عشان خاطري متعذبنيش أكتر من كدا
ظلت تحدث صورته لساعات حتى شعرت بالنعاس فاتجهت نحو سريره لترتمي عليه بجسدها الذي أثقلته الهموم ...ثم نامت من شدة التعب ...نامت وهي تحتضن صورته وتضمها إلى صدرها باشتياق العالم أجمع
....................................
صباح اليوم التالي
استيقظت نور وهي تشعر بأن جسدها يئن من فرط الألم ،كل ذرة فيه تؤلمها وليس عليها أي من بوادر الحمى ...هذا هو حالها بعد كل ليلة تقضيها في البكاء وتعاني فيها من النوم المتقطع
تشعر كأنها سقطت من قمة جبل ولم تجد يده هذه المرة لتنقذها لينتهي بها الأمر على يابسة صلبه وقاسية حطمت ضلوعها
جسدها يؤلمها تماما كألم ذلك الصباح حين علمت بسفره وابتعاده عنها
اتجهت إلى المطبخ لتقابل زوجة خالها (مريم ) تعد الفطور كعادتها كل صباح
-صباح الخير
قالتها نور بهدوء لتلتفت لها مريم لترد عليها ولكن ما إن رأت وجهها الشاحب وعينيها الحمراء كالدماء لتعلم أنها قضت ليلتها بالبكاء لتقول باستياء وهي تقطب حاجبيها
-برضه يا نور ...مش عايزة تبطلي اللي بتعمليه دا ...يا بنتي ارحمي نفسك ...عنيكي ورمت من كتر البكى
ردت عليها نور ببرود وهي تتجه نحو طاولة الطعام وتسحب إحدى المقاعد لتجلس عليها
-وأنا بعمل إيه يا خالتو
ردت عليها مريم بعتاب ولم يعجبها حالها هذا فهي منذ رحيل عز وهي تبكي كل ليلة حزنا على فراقه
-انتي كدا بتدمري نفسك يا نور...صدقيني اللي بتعمليه دا مش هينفع ...عز قال فترة وهيرجع وسفره لو مكنش ضروري مكنش سافر أساساً
ابتسمت نور بسخرية ولم ترد بل أخذت تعبث بطبق الحساء الموضوع أمامها دون أن تتناول منه ملعقة واحدة
أكملت مريم بعتاب حنون وهي تمسح على رأسها
-متوجعيش قلبي عليكي يا نور ...انتي أمانة عز ...لو رجع وشافك بالحالة دي هيتعصب أوي
لم تحتمل نور أن تسكت أكثر من هذا لذا ردت بصوت حاولت إصباغه بالبرود لكنه خرج حاداً دون إرادتها :لو كنت أهمه مكنش سابني سنة كاملة من غير ما يسأل عني وهو عارف إن اللي عمله وجعني أوي وحرق روحي
بلاش تضحكي عليا يا مريم ...عشان أنا مش غبية
انا بس زعلانة على نفسي ...تحملت خسارات كتير أوي ...واتخذلت بدل المرة مليون بس متوقعتش إن عز يخذلني
متوقعتش هو بالذات يسيبني بعد ما وعدني إن عمره ما يعملها
كتمت دموعها بصعوبة ...فهي لا تود أن تشهد مريم ضعفها للمرة المليون ،ثم نهضت من مكانها بعد أن فقدت شهيتها للطعام
-هقوم أجهز نفسي عشان أروح الدوام
هتفت مريم باعتراض بعد أن رأتها تنهض من مكانها وتوليها ظهرها
-والفطار يا نور ؟
ردت نور بصوت لا حياة فيه :مليش نفس يا مريم ...
خرجت نور من المطبخ وفي طريقها صادفت خالها مهاب الذي رأى حالتها تلك ولاحظ شرودها أيضاً فهي لم تنتبه له بل تابعت سيرها دون أن تراه ليستغرب هو حالتها ويتوجه ناحية المطبخ ليستفسر من مريم عن سبب حالة نور رغم أنه يعلم جيداً ما السبب لكنه مع ذلك لم يمنع نفسه من السؤال ...ثم أخذت مريم تشرح له سبب حالتها ليشعر بالغضب لما تفعله تلك الفتاه بنفسها بسبب ابنه الأحمق
-برضه ...هي مبتحرمش ...البنت دي لو معقلتش هيكون ليا تصرف تاني معاها يا مريم
مريم بيأس :والله منا عارفة اعمل ايه يا مهاب ...بقالي سنة بحاول معاها بس مفيش ...
مهاب بغضب :طب والحل...هتفضل على الحال دا لغاية ايمتى ... لا والغبي ابني رافض إنه يرجع
أكمل بانفعال :انا بس عايز افهم اي اللي حصل وخلاه يسافر فجأة !
مريم بشرود وأخذت تفكر بشئ ما:ربنا وحده اللي عالم يا مهاب ...ربنا وحده اللي عالم
-انا هقعد معاها لما ارجع من الشغل ...يم...
قاطعته مريم قائلة :بلاش يا مهاب ...صدقني الكلام مع اي حد فينا مش هيجيب نتيجة معاها ...هي لو عايزة تتكلم هتتكلم ...سيبها على راحتها
مهاب بغضب :انتي مش شايفة حالتها ...دي لسا في أول عمرها
حاولت مريم تهدئته ثم قالت بعقلانية :انت عارف حالة نور من اول يوم جات فيه عندنا ...وعارف ان البنت عندها عقدة من الفراق ...عاشت عمرها كله من غير لا ام ولا اب ...مكنش ليها حد يفهمها غير عز ...وحالتها دي عشان مكسورة منه ...وصدقني محدش فينا هيعرف يداويها غيره ...عز ان طالت غيبته مش هيبعد اكتر من كدا ...نور مش هتهون عليه ولا احنا هنهون عليه  كمان
مهاب بعدم اقتناع :طب ليه بعد ...ليه والبنت متعلقة فيه للدرجادي ؟
مريم :مهما كان السبب هيجي يوم ويرجع يا مهاب صدقني ...اكيد عنده سبب مقنع عشان يعمل كدا ...عز لا يمكن يجرح نور عن قصد
أشاح مهاب بيده قائلاً بحدة :سبب مقنع اي انتي كمان ...ولا عشان ابنك هتقعدي تدافعي عنه ...يكون في علمك ان نور أعز عندي من ابني ...وانا مش راضي عن اللي عمله فيها ولما يرجع هربيه من أول وجديد
أكمل وهو يتجه نحو الخارج حتى يذهب إلى عمله :انا ماشي ...يلا مع السلامة
شردت مريم بأثره ورددت بحزن :مع السلامة
....................................
ها أنا أجلس في آخر اليوم منهزمة وسط خيباتي ...يوم آخر يمضي بدونك وانت لا تبالي ...يبدو أنني لا أملك سوى يوماً واحداً يعاد يومياً بنفس القهر وبنفس الحزن وبنفس الألم
جلست أتأمل سقف الغرفة ...ويمر ببالي شريط الذكريات وانا لا أعلم كيف يكون في غيابك كل هذا الحضور  ...لا أعلم كم مر من الوقت علي وأنا فقط أحدق وأشعر أن الزمن لا يمر ...
لماذا ذهبت ؟
ذلك السؤال لا ينفك يفتك بروحي منذ رحيلك
هل أنا سيئة إلى هذا الحد ؟ هل البقاء معي صعب للغاية ؟هل أنا الطرف السئ لهذا يتخلى الجميع عني ومن بينهم انت
خيالات مرعبة تراودني وانت لست هنا لتمحيها ...لست هنا لتخبرني بأنني استحق الأفضل دائماً
لكنني لا أريد الأفضل ...أريدك انت
لم أبتغى شيئاً من الدنيا سواك
الجميع يخبرني أن غداً سأعتاد وسأنسى ...لكن غداً لا يأتي ولا أريد أن يأتي وانت لست فيه
لا احد يدرك معنى أن تكون ضال المسير
لا أحد يعرف شيئاً عن ضياعي وبكائي المتكرر كل ليلة
أفكاري التي لا تتوقف ...خوفي وهروبي من كل شئ
أصبحت وحيدة جداً كما كنت أول مرة ...ولا أحد يشعر بي ...لا أحد يحتمل مزاجي السئ كما كنت تفعل أنت ...
ألا يوجد لديك حل لكل هذا ؟
لا لا أريد حلول ...لأن آخر الحلول سيكون النسيان والتخطي ...وأنا لا أريد أن أنسى
لا أريد أن أمضي محاولة تجاهل حنيني لك وحاجتي إليك ولمعرفة أخبارك
لا أستطيع أن أمضي ...دون حبك
ولا أريد الحلول
أريدك انت
....................................
مرت عدة أيام وكل يوم لا يفرق عن الآخر بنظرها ،وفي ازدحام يومها ووجود الآخرين حولها لا تفكر في أحدٍ سواه،فخياله لا يرحمها لا في نومها ولا في يقظتها
حتى في أوقات دروسها تظل شاردة الذهن لا تسمع أي كلمة تقال خلال الشرح
عادت إلى المنزل وتجنبت الحديث مع أي أحد حتى مع مريم فطاقتها قد نفذت لليوم
تمددت على السرير وهي تشعر بألم حاد يصيب بطنها فعلمت أنها في ذلك الوقت من الشهر
ومع ألم بطنها وتضارب الهرمونات لديها بكت بشدة ...على كل حال هي تبكي كل يوم ليس بالشئ الجديد
نهضت بصعوبة لتتجه إلى الحمام بخطوات بطيئة لتأخذ حماماً دافئاً لعله يريحها
خرجت بعد لحظت وهي تمسك بين يديها المنشفة لتجفف خصلاتها المبتلة ثم جلست على السرير ورغماً عنها شردت مرة أخرى
حنينها إليه جعل خياله يتجسد أمامها للمرة المليون
تخيلته يجلس أمامها على تلك الكنبة كعادته حين كان يأتي إلى غرفتها كل يوم ليحادثها عن إنجازاته وأحداث يومه ...عن أمنياته ورغباته ...عن كل شئ ...كانت تفرح لفرحه وتحزن أضعاف حزنه
كانت تكره له الأذى أكثر مما تكرهه لنفسها ...
تذكرت كل ليلة كان يقضي ليله كله ساهراً إلى جوارها يحدثها بعشوائية دون ملل حتى يأخذها التعب وتنام...ثم يتلو القرآن وينهيه بدعائه لها وهو يمسح على رأسها ما إن تدعي هي النوم ليظن هو أنها قد غفت حقاً
تذكرت حين علمها الصلاه أول مرة كيف وقفت إلى جانبه بتخبط لا تعلم كيف تبدأ ليضحك هو عليها ثم أمرها أن تقلده في خطواته ...وكم كانت خرقاء في بدايتها وكم كان يضحك عليها فهي حتى كانت لا تتقن السجود
تذكرت أول يوم دراسي لها ...حين هربت منه رافضة ارتداء حذائها ليجري خلفها وهو يضحك وحين أوصلها إلى المدرسة انفجرت في البكاء وتشبثت به رافضة تركه ليضطر الأخير قضاء اليوم معها في المدرسة جالساً إلى جانبها بين باقي الأطفال وعلى الرغم من الحرج الذي أصابه إلا أنه لم يتركها لحظة واحدة
تذكرت حين كانت تعترض على أسلوبه الصارم في التدريس وكيف كان يرغمها على حل الواجب
وفي النهاية يضعف أمامها حين يشعر أنه ضغط عليها أكثر من اللازم ويعوضها بإعداده لوجبتها المفضلة
لم يكن يتحمل أن يجرحها أحد ولو بكلمة حتى عندما كان خالها يعاقبها  كان يدافع عنها بكل قوة على الرغم من إدراكه بأنها هي المخطئة
كان لها أماناً يحميها من كل شئ...كان لها أباً يمنحها المحبة والعطف ،أماً تحنو عليها حين تقسو الأيام ،كان لها أخاً وصديقاً وحبيباً
اغتنت به عن كل العلاقات عن كل الأقرباء واكتفت به
منذ أن توقفت عن مشاركته حزنها وفرحها وكل تفاصيل حياتها لم يعد بالعالم شئ حقيقي يلمس
"كنت حين أراك أشعر أن العالم كله قد هدأ ...مر عام والعالم كله في دمار "
معك أنا تجاوزت مرحلة الهاوية التي كنت بها ...لكن منذ غيابك وأنا في مكان أسوأ وأشد عتمة من الهاوية ...أنا في العدم ...
لو أن معجزة تحدث الآن ! ...لو أراك أمامي وأشبع ناظري من وجهك الذي لا أعشق سواه
لو يتحرك مقبض هذا الباب لأراك تدخل إلى هنا وتناظرني بابتسامتك الحلوة
غيابك يقتلني ...حتى حين استحضرت وجهك وسط هذا الفراغ ...شعرت أن وحدتي تزداد لا تقل وأن ذكرياتك لم تعد تداوي بل تجرح أكثر
أخرجها من شرودها رنين الهاتف برقم لا تعرفه ...وهذه ليست أول مرة يظهر هذا الرقم على شاشة هاتفها لكنها دائماً تتجاهل الرد ...
جاءت لتضغط على زر الرفض لكن رغبة ملحة مسكونة بالفضول دفعتها بألا تفعل ورغماً عنها وجدت نفسها تضغط على زر الإجابة وتضع الهاتف على أذنها منتظرة الرد لكن لا شئ سوى الصمت
هل هذا كل شئ ...هل يتصل عليها مراراً لتتلقى الصمت من الطرف المقابل
-ممكن أعرف مين معايا
لا رد ...أرادت أن تنهي الإتصال لكن شئ ما بداخلها جعل ذلك الشعور يتسرب إلى قلبها ليخبرها أن المتصل هو عز
ارتعش جسدها من الفكرة وتزايد معها نبضات قلبها لتهتف بتساؤل وصوت مرتعش
-انت مبتردش ليه؟
لا رد أيضاً وهذا ما أجج الشعور بداخلها لذا أردفت بإصرار
-لو مردتش انا ...انا هقفل ...
طال الصمت بشكل قاتل أوشك على أن يقطع أي ذرة أمل بداخلها
همست بدون وعي وقلب يتقطع ألما من فرط الشوق
-عز...
وحين زاد يأسها وإحباطها من ذلك الصمت أرادت أن تنهي المكالمة حتى لا يفضحها صوت بكائها وشهقاتها ولكن باللحظة الأخيرة سمعت ما جعل دقات قلبها تتباطئ حتى شعرت أن قلبها قد توقف عن النبض
-ناري ...
نزلت الدموع من عينيها بغزارة ما إن سمعت صوته الذي تحفظه عن ظهر قلب وذلك اللقب الذي لا أحد سواه يناديها به
هل تحلم أم أها قد جنت ...هل هو من يناديها الآن ...
ارتجفت شفتيها بقوة لتهمس بعدم تصديق وكأنها ليست بوعيها
-عز ...
ليعود ويناديها من جديد بنفس اللقب لكن بصوت متحشرج هذه المرة
ارتعشت يديها وتعرقت حتى أوشك الهاتف أن ينزلق منها لكنها تمسكت به كما لو أنه طوق النجاه بالنسبة لها ثم هتفت بصوت مرتعش مسكون باللهفة
-عز ...عز دا صوتك أنا مش بحلم صح
لم يأتيها رد منه لتصيح بألم وإصرار كمن أوشكت أن تصاب بالجنون
-عز متعذبنيش أكتر من كدا أبوس إيدك ارحمني ...عز أنا عارفة إنه انت رد عليا متسيبنيش كدا
صمت مريب من طرفه قطع قلبها وحشه حشاً باليأس ،ليخرج منها نشيج متألم وهي تناديه بصوت مزقه الشوق والألم
بكت وتعالت شهقاتها بقوة حين لم يأتيها أي إجابة تشفي داء قلبها المعذب لتكمل بكلمات متقطعة وألم صدرها يزداد مع كل دقيقة صمت بينهم لتشعر هي أنها تحدث الفراغ ولا أحد يسمعها
-رد عليا يا عز
صرخت بطريقة هستيرية بصوت مزقه الألم
-رد ...رد ...رد يا عز ...انا عارفة إنك سامعني
سمعت صوت تنفسه المرتجف لتكمل برجاء وتوسل
-عز رد عليا طيب ...سكت ليه ...طب ليه بتعذبني كدا ...اتصلت ليه بعد كل الوقت دا عشان بالاخر تسكت ...ليه يا عز ليه
-انا آسف ...
سمعته يقولها بصوت مرتجف لتعاتبه وهي تشعر وكأنها على حافة الإنهيار  لتخرج منها الكلمات بطريقة عشوائية غير مرتبة من شدة تخبط مشاعرها بتلك اللحظة ما بين السعادة والألم
-سيبتني ليه يا عز ...إزاي هنت عليك ؟ طب قول حاجة انت كويس ليه صوتك موجوع أوي كدا ؟
لسا زعلان مني ...أرجع وانا والله ما هزعلك تاني وهسمع كلامك دايماً صدقني بس ارجع العالم وحش أوي من غيرك
ارجع ومش هتكلم بأي حاجة تدايقك ...
مسحت دموعها التي لطخت وجهها وأعمت رؤيتها لتكمل بلهفة
-ارجع ومش هزعل منك ولا هعاتبك إنك سيبتني وانت عارف إن مليش غيرك وإنك كل دنيتي
هرضى بأي حاجة بس تكون جنبي وقدام عيني أرجوك يا عز 
لم يرد عليها لتكمل هي بصوت مبحوح من كثرة البكاء
-طب قولي انت كويس ...قلبي حاسس إنك مش تمام ...انت اه غايب عن عيني بس مغبتش عن قلبي يا عز ...انا مربوطة بيك وبتعذب والله بكل ثانية بتمر وانت مش هنا
ليه عملت فينا كدا يا عز ؟
إزاي هان عليك تسيب نور وانت كل الأمان بالنسبة ليها ...انت كل حياتي يا عز أرجوك ارجع
توجس قلبها من صمته الذي طال
-عز...عز رد عليا بالله عليك متسكتش
سمعت تأسفه للمرة الثانية ولكن بنبرة أشد وجعاً من سابقتها ثم أنهى المكالمة دون أي سابق إنذار ودون أن يعطيها الفرصة لتوديعه  لتشعر أنه نحر قلبها بفعلته
تجمدت نظراتها بالفراغ وتساقطت دموعها لتحرق خدها بينما شعرت أن العالم كله قد حشر في حلقها
انهارت وانهار تماسكها وصرخت تناديه باسمه لعله يسمعها ويأتي ...لعله يداوى جرحها الذي افتعله للمرة الثانية لكنه لم يأتِ
-عز انت بتتأسف على إيه ... عز لا متعملش فيا كدا تاني ارجوك ...عز لاااا
صرخت بكل ما تحمله من قوة حتى اجتمع على صوتها كل من في البيت ...ليكون آخر شئ تراه قبل أن تفقد وعيها هو خياله متجسداً أمامها يمد يده ليتلقفها قبل أن يسقط جسدها مرتطماً بالأرض بطريقة مرعبة أثارت فزع مريم التي احتضنتها بين يديها محاولة إفاقتها عدة مرات دون جدوى

ظننته وطناًحيث تعيش القصص. اكتشف الآن