لوحدي

356 20 7
                                    

حينما رفعت رأسي صوب الستائر البيضاء ورأيته أول مرة... كنت في الثامنة من عمري... كانت الغرفة خافتة بالضوء غير شيء من النور يأتي من فوق رأسي، لا أعرف من الذي أبتدع اضاءةَ الغرفة ليلًا لكنه لم يكن ابتكارًا من الأساس... من ينظر السماء فينسخ تفاصيلها ليس إلا سارقًا نزق... وهذا الذي لا يتوقف عن زيارتي كُلما هدأت النفوس، ليس بعيدًا عنها...

لم يقدم على فعل أي شيء مذ عرفته... لا يتعدى الشرفة التي رأيته فيها أول مرة ولا يتحرك إلا حينما أحرك أنا جسدي يبتغي بذلك أن يتبعني... ولا يفعل، بل يبقى خلف تلك الستائر... واللعنة عليها... وعلى من أبتدعها أيضًا، فمن فعلها لم يكن إلا أحد أثنين... أما كسول لا يريد أن توقظه الشمس... أو ظالع متلصص... خشي أن ينظر الناس سوأته كما يفعل هو مع الناس... أو كما يفعل هذا الأن؟ هذا وارد.

كنت في السابعة عشرة حينما حادثته أول مرة... متأخر جدًا أعرف ذلك، لكني لم أملك سببًا يجعلني أرغب بذلك قبلها... فقد ظننته شبحًا في صغري، فشرعت كل يوم أقرأ من القرآن ما استطعت... ولم يذهب... وكنت أعرف أنه إما إنسي أو جنٌ مؤمن، والمؤمن منهم لا يؤذي المؤمنين منا لذا لا بد أن هذا فاسقٌ من ربعنا...

أقول ربعنا بثقة... ليس لي ربع من الأساس، لا يوجد أحد يستحق أن يكون من "ربعي" وأنا لم أعرف أحدًا بمثلما طبعي، لا أحد يصبر علي من بني جنسي، ولا الجنس الأخر ولا الرابع ولا الخامس... لقد حاولت أن أستدعي خلق ربي كُله... ولم يرد علي أحد، أيكون هذا منهــــم حــقًا ويقـــف في طريقي؟

ولهذا سألته يومًا، يا ظليل الوجه يا بجيح الخلق -ولم أقصد هنا بجح بعظمته، بل بقل ماء وجهه كما تدرج على لساني- يا أرعن لم تربه أمه، يا خنى لم ترده سياق أبيه... ودرجت له بالسباب درجًا ورحت أناديه بشيء عرفت معناه وشيء لم أعرفه، وهو في مكانه ظال لم يقدم على أي حركة حتى غادر ما أن شعشع الصباح وبقيت أنا في حيرة... لما يغادر قُبيل النور أن كان يسهر معي طول الليل... ألم يكن من ربعنا الفاسقين؟ هاهاها، أم أنه فاسق ويصلي؟ يكثرون هذه الأيام، بل يكادون يملؤون حياتي حتى صرت أصدق أنه لا صلح إسلام أحدٍ منهم، كأنما العبادة كانت لهم أشهد ألا إله إلا الله ونصفهم لم يعرف أن ينطقها وثلةٌ منهم ينسون اتباعها بأن محمدًا عبده ورسوله... قومٌ ينسون نبيهم ويُذكر ولا يصلون عليه، ويموت... فينسونه... ولا يبكون عليه، كما الفاسق الذي عاد ما أن أظلمت الدنيا من حولي!

لم ينفع معه الصراخ، فرحت أحادثه بمعسول الكلام، قلت له أني لن أؤذيه، ولم يرد وقلت أني لن أخبر ربعي -أهلي- عنه فما رد، ومعه الحق... أذ صبرت تسعة من الأحوال حوله، ولم أنادِ أحد فسيصدق أني في الحول العاشر سأدعوا ربعي ليمسكوا به؟ لم أتعد طوق الشرفة مذ عرفته، فلا أنسى في عامي العاشر حينما حاولت الأقتراب منه كيف غضب! كبر حجمه، وأتسع قُطره، وصرت أسمع عواء الكلاب يرتفع ونعيق الغِربان ينتشر، وهو يهتز شدة العتاب، فرجعت فراشي ورحت أكرر قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق... من شر ما خلق، وحينما لم يغادر سألت نفسي أن كان حقًا من الذين نتف حين نذكرهم أم كان فقط عابثًا من بني أدم وحواء... أجل حواء أيضًا فهي أمه، في صغري تسائلت لما تركت حواء قابيل وهابيل لوحدهم؟ ولما لم يطل عليهم آدم بين الحين والحين يتفقدهم؟ هذه القصة علقت معي حتى كبرت وفهمت... لما قتل قابيل هابيل... بكيت أنا عليهما سويًا... لم يقبل عقلي أن يعيش أخٌ دون أخيه... حتى في صغري... أنا كُنت... لا علينا، ألوذ اليك يا رب وأعوذ بك من هذا الإبليس الذي لا يتوقف عن التحديق في روحي!

لوحديWhere stories live. Discover now