4- اين المفر؟

18.1K 352 34
                                    

بدت مكاتب مصرف هيريرا في مدريد بالغة الضخامة . لكن غرايس بدأت تتململ من الانتظار.

-آنسة بيريسفورد تود أن تعلم ان كنت تتوقع منها الجلوس في صالة الاستقبال طيلة النهار؟
لم تستطع ايزايبل سانشير ، سكرتيرة خافيير ، أن تخفي لمحة الاحراج البادية في صوتها حين اوصلت استفهام غرايس الى رئيسها . تكلم خافيير عبر الهاتف الداخلي الموضوع على مكتبه من دون ان يرفع عينيه عن شاشة الكمبيوتر الموضوع أمامه ، فقال :" قولي لها انها ستظل مكانها بقدر ما احتاج من وقت لإنهاء هذا التقرير ".
اطلق خافيير كلماته اللاذعة مقاوما رغبته بتذكير غرايس بأنها لو كانت تشعر بالضجر الى هذا الحد فهي حرة لتغادر ، وسوف يقابلها مع والدها في قاعة المحكمة . إنه يسدي لهذه المرأة خدمة هائلة عبر إعفاء أنغوس بيريسفورد من ديونه ، وأقل ما يمكنها فعله هو التعبير عن امتنانها ولو قليلا! عوضا عن ذلك امضت غرايس طيلة الخمسين دقيقة التي استغرقتها  الرحلة بالطائرة نحو مدريد بالتذمر ، معبرة عن رغبتها بالعودة الى ديارها . عندها اخذت تنتاب خافيير شكوك جدية حيال رغبته بالزواج منها . فكر بتشاؤم انها شرسة حقا حتى لو بدت امرأة جميلة .

نقح عدة تفاصيل ملائمة للتقرير ، ثم عاد الى الوثيقة الموجودة على شاشة الكمبيوتر ، فقرأها من جديد قبل ان ان ينقل المعلومات المطبوعة على قرص مدمج . لكن حتى وهو يعمل ، لم يستطع ان يصرف من ذهنه صورة ملامح وجه غرايس الرقيقة ، وتينك العينين الكبيرتين الممتلئتين بالدموع . اطلق شتيمة بصوت خافت وقفز واقفا على قدميه فعبر مكتبه نحو النافذة ليحدق الى الخارج.
بدت مدينة مدريد في الاسفل مختنقة من شدة حرارة الشمس الربيعية . يحب خافيير هذه العاصمة العالمية ، ومن المنطقي ان يجعل المكاتب الرئيسية لمصرف هيريرا في قلب اهم مدينة اسبانية ، كما يسعد بتمضية وقته في شقته المترفة التي تقع على سطح احد اجمل المباني في افخم ضواحي العاصمة. لكن قلبه يقبع في الاندلس ، وقصر الاسد هو مرجعه ودياره .
امضى خافيير السنوات العشر الاولى من عمره في عربة قذرة تستخدم كمسكن، لذلك أذهله حجم هذا القصر المهيب وفخامته في بداية الامر. تشكل هذه القلعة مثالا رائعا للفن المعماري المراكشي . لكن حين كان فتيا اهتم بأستكشاف الغرف الكبيرة الفسيحة للقصر واراضيه الواسعة الامتداد ، اكثر من اهتمامه بالتعرف الى تاريخه . ما زال يذكر حتى الان الشعور الجميل الذي احس به حين شعر اخيرا بأنتمائه الى مكان ما، بعد ان اخبره كارلوس بأن القصر هو منزله وميراثه. علم عندئذ انه لن يضطر الى البحث عن الطعام بين النفايات كما تفعل الكلاب الشاردة ، او الى تمضية ساعات وهو رابض على درج العربة فيما تقوم والدته بالترفيه عن عشاقها . اما والده فكان يختفي لأيام وأيام بحثا عن ورطته التالية .

تصلب فك خافيير حين تذكر قول غرايس له ان ثروته تحميه وتقيه كالدرع من العالم الحقيقي . ما الذي تعرفه هي عن طفولته البائسة المروعة ، حين كان يعيش في اماكن حقيرة لا يمكن ان تتصورها؟ لقد واجه مواقف حيث كان الاقوى هو الغالب فكان يحكم بقوة قبضته. عرف خافيير خلال السنوات العشر الاولى من حياته معنى الفقر والجوع ، كما عرف الاحساس بالخوف والوحدة اللذين ما يزالان يلطخان احلامه، حتى بعد مرور خمس وعشرين سنة. النعمة الوحيدة التي حظي بها هي تمتعه بغريزة عنيدة للصمود والحياة ، بالاضافة الى تصميمه وعزمه على النجاح بالرغم من كل العقبات . هذه هي الصفات والميزات التي كونت الرجل الذي اصبح عليه اليوم . انه ليس بحاجة الى انسة بريطانية مدللة مبذرة ، تجعله يشعر بالسوء حيال نفسه . من ناحية اخرى، ها هي غرايس جالسة في مكتب سكرتيرته منذ ساعتين ، وذلك بعد ان اخرجها من القصر ، ثم سمح لها بدقائق قليلة فقط لتجمع مقتنياتها من الفندق في غرناطة ، قبل ان ينقلها بسرعة الى الطائرة النفاثة الخاصة به . اقر خافيير بصدق ان الصبر ليس احدى ميزاته . عبر نحو مكتبه ، وبعد ان اطلق شتيمة اخرى تحدث عبر الهاتف الداخلي قائلا :" إيزابيل، اطلبي من الانسة بيريسفورد الدخول ، ارجوك ".
بقي خافيير جالسا خلف مكتبه عندما دخلت غرايس الى الغرفة . نظر اليها بشكل عابر حين مشت نحوه مترددة . بادرها قائلا بنبرة لاذعة :" ما الخطب؟ اخبرتك أنه يجدر بي حضور اجتماع مهم ، ثم تدوين التقرير وحفظه في ملف . هل انت دوما نافذة الصبر الى هذا الحد؟"
أحست غرايس بالرعب لبضع ثوان، ثم اقرت لنفسها بصمت انه رجل مغرور جدا. راح قلبها يتمايل في صدرها وتناست انزعاجها لأنه هجرها في المكتب الخارجي كما لو انها طرد ما ، هذا الرجل يمسك بين يديه مصير والدها ، وجل ماتستطيع فعله هو التحديق فيه كما لو انها مراهقة واقعة تحت تأثير اول انجذاب تشعر به تجاه رجل.
حالما وصل خافيير برفقة غرايس الى المكتب الرئيسي للمصرف ، توجه مباشرة الى مقره الخاص ، ولابد انه اخذ حماما وبدل ملابسه قبل بدء اجتماعه. طمأنت غرايس نفسها بأن سبب احساسها هو رؤية مظهره في البذلة الرسمية. منحه لباسه الرسمي روحا من التميز والتألق . لكن غرايس استشعرت ان خافيير هيريرا يمتلك اثرا جامحا في شخصيته ، وهو يقبع تحت هذه القشرة الظاهرية المتحضرة ، ففي الواقع هو رجل بالكاد يعطي اي اعتبار للقوانين .

شبح من الماضي "شانتيل شاو"... (روايات احلام )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن