12-سيدة القصر

19.2K 622 91
                                    

وقف خافيير أمام باب غرفة نوم غرايس ، فاصغى الى صوت نحيبها المكبوت . فكر بوحشية ان هذا الوضع لا يمكن ان يستمر . مضت ستة أسابيع منذ ان اعادها من المستشفى الى المنزل وما زال الأمرعلى حاله : هو يتربص في الممر خائفا من الدخول والمجازفة برفضها ، بينما تقبع هي وحيدة باكية .
إنه مستعد لفعل اي شيء حتى يراها تبتسم مجددا. ان تعاستها تمزقه إربا ، والاسوأ من ذلك معرفته انه هو المسؤول عن دموعها . قال لنفسه بكآبة إنه ما كان يجدر به ان يتزوجها . كان يجدر به ان يتبع غريزته الأولية فيطردها من القصر حين زارته لأول مرة لتدافع عن قضية والدها ، لا ان يقع تحت إغراء ابتسامتها الخجولة المحيرة .
إدراكه للسهولة التي سحرته بها جعله يشعر بالرعب . لطالما تمكن خلال سنوات عمره الستة والثلاثين من فرض سيطرة حديدية فولاذية على مشاعره ،ولطالما تفاخر بكونه محصنا ضد الحيل الأنثوية . لكن بشكل ما ، ومن دون ان يدرك ذلك ، تسللت غرايس خلف دفاعاته الى ان اصبحت كل ما يهمه في حياته . ان السماح لها بالرحيل قد ينتزع قلبه من مكانه . تقبل خافيير ذلك وهو يمسك بمقبض الباب .
لكنه لا يستطيع الابقاء على حمامته الرمادية اسيرة قصره لفترة أطول .
خرجت غرايس من الحمام المتصل بغرفة النوم ، فتوقفت فجأة لدى رؤيتها لخافيير واقفا عند طرف سريرها . لاحظت بعبوس انه فقد بعض الوزن ، أصبح وجهه نحيلا ذا فجوات عميقة عند جانبي فمه ، لكنه ما زال أروع رجل رأته في حياتها ، فأحست بذاك الألم المعهود حول قلبها .
عاملها خافيير بلطف خلال الاسابيع الماضية ، فتحت تحفظه البارد ايقنت غرايس انه يمتلك قلبا حنونا . بالرغم من معاملتها الفظة له حين لم تثق به ، لم يلمها يوما على خسارة طفلهما . لعله لم ير أي داع لذلك في حين انها تلوم نفسها بنفسها .
إدراكها لحملها كان أمرا جديدا عليها . بالكاد تسنى لها الوقت لقبول ذلك حتى انتزعت منها سعادتها . بكت غرايس الى ان أحست كما لو ان قلبها سينفجر على خسارة هذه الحياة الصغيرة التي حملتها لفترة وجيزة . أما خلال الليالي القليلة الماضية ، فانهمرت دموعها بدافع اليأس ، لأنها واجهت حقيقة ان خافيير لن يحبها أبدا .
وجه خافيير لغرايس نظرة وجيزة ذابلة ، فيما تحركت هي متجهة نحوه . أعاد انتباهه الى الصور المنثورة على السرير ، وقال :" أستنتج أن المرأة في الكرسي ذي العجلات هي والدتك؟!"
تكلم بهدوء وهو يحدق بالابتسامة الساكنة البادية على وجه المرأة التي انعمت على غرايس بجمالها الرقيق ، ثم تابع :" لم أدرك أنها لم تكن قادرة على السير ".
أومأت غرايس ثم التقطت إحدى الصور الفوتوغرافية وقالت :" لسوء الحظ ، فقدت والدتي القدرة على استخدام رجليها خلال المراحل الاولى لمرضها . لكن حتى خلال أسوأ لحظاتها لم تتوقف عن الابتسام".
أخبرته غرايس بذلك وصوتها يرن والفخر تجاه والدتها .
-هل اعتنيت بها في المنزل؟
-نعم . في بادئ الأمر تدبرنا والدي وانا الأمر بنفسينا ، لكن عندما أصبحت تتألم كثيرا ، أمن لها والدي ممرضات مختصات للعناية بها على مدار الساعة . كان ذلك مكلفا بالطبع ، كذلك كانت الرحلات الى لورد الفرنسية والاماكن الأخرى ، حيث كانوا يعدونه بالعلاجات العجائبية . ذلك كل ما تبقى لوالدي ان يأمل فيه .... وبالطبع لم ينفع اي منها .
أطلعته غرايس على ذلك بحزن ، وتابعت :" لكنه احبها إلى درجة جعلته مستعدا لأن يفعل أي شيء لإنقاذها .... حتى سرقة الاموال منك".
أضافت غرايس جملتها الأخيرة بصوت ابح ، قبل ان تضيف :" بالرغم من كل ما حدث ، أنا لا استطيع لومه . إنها حب حياته .... لكنني لا اتوقع منك ان تفهم ".
سألها خافيير بخشونة :" هل تظنين ذلك لأنني لم اختبر الحب من قبل ولا أعترف به ، كما انني لا احترمه لدى الآخرين؟"
وجهت غرايس له نظرة مدهوشة :"انت اخبرتني بنفسك أنك لا تؤمن بالحب ".
قال :" يا إلهي! تفوهت بالعديد من الاشياء اللعينة الغبية . هل سترمينها كلها في وجهي من جديد؟ ان اي شخص ينظر الى صور والديك لا يمكن إلا ان يلاحظ الحب الذي تشاركا به . لا بد ان موت والدتك دمر والدك . لو انني اصغيت إليك عندما جئت إلي ، لعلني كنت سأفهم اسباب تصرفه ، وسأشعر بالتعاطف معه ، عوضا عن إصدار الحكم الصارم وإجبارك على الزواج مني ".
أدار خافيير وجهه ، فكادت غرايس تبكي بسبب قوة المشاعر البادية في عينيه .
همست برقة :" لم يكن الأمر هكذا . كان الخيار بيدي، وأنا أخترت الزواج بك ".
حدق خافيير بالصورة ، ثم دفعها نحوها قائلا :" انت وافقت على عرضي فقط بدافع الحب لوالدك . لم يكن ذلك ما تريدينه . انت اعتبرت زواج والديك السعيد نموذجا ترغبين به لمستقبلك ، لكن ما الذي أعطيتك إياه أنا؟ إنه عقد عمل خال من المشاعر ، وتوقعي منك بان تقسمي بعهود مهمة جدا بالنسبة إليك ، وانت تعرفين أنها أكاذيب . أنا راقبت وجهك في الكنيسة غرايس ".
قال خافيير ذلك بصوت ابح قبل ان يتابع :" أدركت كم آلمك ان تقولي هذه الكلمات لي انا عوضا عن قولها للرجل الذي تحبينه وتأملين بتمضية بقية حياته معه ".
تمشى نحو الموقد الحجري الضخم ، فحدق نحو اللهب المتراقص في داخله . وفجأة شتت الصمت بينهما ، فقال :" يجدر بك العودة الى انكلترا . أنت حزينة وبشرتك باهتة وشاحبة جدا ، لذا انت بحاجة الى تمضية بعض الوقت مع الاشخاص الذين يحبونك".
-فهمت!
أحست غرايس بشق من الألم يقطع جسدها ، لكنها رفضت ان تسمح له رؤية ألمها . ليس بمقدوره ان يوضح لها بشكل أبسط وأوضح أنه لا يحمل أية مشاعر تجاهها . فكرت بذلك وهي تمسح دموعها عن وجهها بنفاد صبر . لعله سئم من رؤيتها تبكي على الدوام . عضت على شفتها السفلى حتى شعرت بطعم الدم . أجبرت صوتها على ان يبدو خاليا من المشاعر، فسألت :" متى ..... تريدني أن .... أغادر؟"
أجابها خافيير وهو يهز كتفيه :" حين يلائمك الأمر. غدا ، اذا أحببت ".
أحست بلا مبالاة كالسكين المغروز في صدرها ، فخنقت تنهيدة كادت تخرج منها . وفيما وقفت بصمت متمنية أن يذهب ويتركها وحيدة مع بؤسها ، تكلم خافيير مجددا قائلا :" غرايس .... اريدك ان تعلمي أن الاشهر القليلة المنصرمة التي عشت فيها هنا في القصر كانت الأسعد في حياتي .... باستثناء الاسابيع القليلة الأخيرة ، التي كانت كالجحيم ".
أضاف ذلك بنبرة هامسة غير مصطنعة .
كان خافيير ما يزال يحدق بالنار ، فيما أدار وجهه بعيدا عن وجهها كما لو انه يتعمد تجنب نظراتها ، لكن اعترافه المفاجئ عنى كثيرا بالنسبة الى غرايس. فطالبته وهي تسير نحوه :" في هذه الحالة ، لماذا ترسلني بعيدا؟"
تعثرت وهي تستعجل للاقتراب منه فوطأت على ذيل قميص نومها . تمتمت لعنة وهي تجمع القماش بيدها ثم تقف أمامه .
قالت بحدة :" ما زال هنالك ما يزيد عن الاربعة اشهر من عقد زواجنا ، وأنا مستعدة تماما لاحترامها . اعتقدت انك تحتاجني هنا حتى تقنع أفراد مجلس إدارة المصرف أنك ما عدت تعيش حياة الرجل الماجن اللعوب ، بل انت رجل متزوج سعيد ".
للحظة لم يقل خافيير شيئا   بل ببساطة أزلق انامله داخل شعر غرايس فداعب الخصل الحريرية وصولا الى خصرها ، ثم قال :" انا استقلت من منصبي في مصرف هيريرا ، وتخليت عن كل حقوقي به . من الآن فصاعدا سيحصل نسيبي لورنزو على السيطرة التامة ".
-لكن .... ! المصرف هو كل شيء بالنسبة إليك .... اهم شيء في الدنيا . من فرط اهتمامها لأن تفهم ما يجري ، قبضت غرايس على مقدمة قميصه فحدقت الى الاعلى نحوه ، وتابعت تقول :" لست مضطرا الى التخلي عنه الآن ، في حين انك اوشكت على ربح مكانك ".
اغمضت عينيها وقد اشرق عليها فجأة الفهم ، ثم قالت وقد تجمعت الدموع في حلقها :" لهذا السبب ستعيدني الى انكلترا . أليس كذلك؟ لا يمكنك ان تنتظر أربعة اشهر أضافية لتفسخ زواجك بي . لا بد انك تكرهني كثيرا بما أنك مستعد لخسارة حقك بالولادة ، عوضا عن البقاء متزوجا مني لأشهر قليلة قصيرة".
انفجر خافيير نافيا :" بالطبع انا لا اكرهك!"
قبض على كتفيها واجبرها على النظر إليه ، وقد رقت نظراته لدى رؤية البؤس المذل في عينيها ، فتابع :" كيف يمكنك ان تظني ذلك أبدا؟"
قالت غرايس من بين دموعها :" الذنب يقع علي لخسارة الطفل . لو انني وثقت بك اكثر ، عوضا عن الاصغاء الى اكاذيب لوسيتا ، لبقيت حاملا بطفلنا".
أطلق خافيير ابتسامة خشنة وقال :" ظننت انني اريد هذا الطفل فقط لإتمام شروط وصية جدي . حتى انا لست عديم الرحمة الى هذا الحد عزيزتي ، لكن اعتقادك انني قادر على قسوة من هذا النوع هو دليل رأيك بي . حسنا! بعد الأسلوب الذي عاملتك به، فأنا أستحق كرهك ".
بدا وجهه كالقناع المشدود فيما جاهد للسيطرة على أحاسيسه . سوف يسنح له ما يكفي من الوقت بعد رحيل غرايس حتى يتعلمل مع اليأس الذي يهدد بالسيطرة عليه . جذبها الى صدره ، فأحس بالدموع تبلل قميصه ، فتوسلها بصوت أبح :" لا تبكي غرايس حان الوقت لأنهاء هذا الجنون . أنت حرة لترحلي إلى منزلك .... إلى والدك ، وأعدك ان انغوس آمن من الملاحقة القانونية . لو كنت في مكانه واقفا أراقب بعجز معاناة المرأة التي أحب ، لفعلت ما فعله بالضبط ".
أعترف خافيير بذلك بصوت خافت جدا الى درجة ان غرايس اضطرت الى ضغط جسدها عليه حتى تسمعه ثم تابع :" أنا اسامحه عزيزتي ، وآمل أنك ستسامحيني يوما ما لأنني سببت لك الأذى".
-أنت لم تؤذني أبدا .... أقله ، ليس عمدا .
قالت غرايس ذلك بحزم فيما ألقت خدها على صدره وأصغت إلى ضربات قلبه غير المنتظمة . انها قادرة على البقاء هكذا الى الابد ، لكنها على الارجح تحرجه. أقرت بذلك بأسف ، فهي تعلم كم يكره خافيير اشارات العاطفة .
استنشقت نفسا عميقا وخرجت من بين ذراعيه لتتمكن من رؤية وجهه بوضوح . أحست غرايس أنه كرمها واحترمها بأعترافه أنه يتعاطف مع والدها ، لذلك يجدر بها ان تكافئ صدقه بصدقها معه .
لطالما اعتقد خافيير طيلة حياته بأنه يتمتع بنقص او عيب ما . كانت والدته قد أخبرته انه غير محبوب ، لذلك لا عجب أنه قام ببناء سور دفاعي حول قلبه . كان الغرور قد دفع غرايس الى نكران مشاعرها تجاهه ، وهي تصرفت بفظاظة معه حين جعلته يعتقد أنها لا يمكن ان تحبه أبدا . كم كان مخطئا بظنه! تمتمت وهي ترفع ذقنها حتى تلاقي نظراته بكل شجاعة :" الذنب ليس ذنبك لأنك لا تحبني ، فأنت اوضحت منذ البداية بأنك لن تحبني ابدا . الذنب ذنبي انا . عندما اتخيل فكرة التخلي عنك ... وعدم رؤيتك مجددا .... ذلك يفطر قلبي ".
تجاهلت نظرة عدم التصديق والاندهاش البادية في عينيه ، فتابعت كلامها :" انا لا أعتقد أنك بارد ومتحجر القلب ، خافيير . فأنت تتحلى بالقلب الحنون وبالحب في داخلك كأي رجل آخر ... وربما أكثر ، لكن طفولتك علمتك أن تدفن مشاعرك وتقفل عليها في داخلك بانتظار المرأة المناسبة التي تدير المفتاح فتحررها".
فجأة لم تعد غرايس قادرة على المتابعة ، فأدارت وجهها بعيدا عنه ، وسالت دموعها نزولا على وجهها . قالت بصوت فيه غصة :" أتمنى لو كنت انا تلك المرأة ، لأنني أحبك من اعماق قلبي . كنت محقا حين خمنت سبب قدومي إليك في مدريد . لم أقو على مقاومتك .... لكنني ما كنت لارضى بإقامة علاقة معك لو لم اكن أحبك ".
-لماذا اذا كنت تنوين الرحيل عني؟
بعذاب يدفعه الإحباط أدارها خافيير حول نفسها وهزها بكل معنى الكلمة ، قبل ان يسحبها الى صدره الصلب . ثم غمغم بصوت أجش :" يا إلهي! عندما فتحت باب السيارة بالقوة ووجدتك مرمية فوق المقود ...."
أحس خافيير بارتعادة تعبر جسده ، فأغمض عينيه لفترة وجيزة ، فيما أحرقت الدموع مؤخرة حلقه . آخر مرة بكى فيها هي حين كان في الثامنة من عمره ، حيث جلس متقوقعا تحت عربة والدته النقالة، بعد ان اقفلت الباب عليه وتركته وحيدا جائعا . منذ ذلك الحين تعلم السيطرة على مشاعره ، فذلك نظام دفاع عن النفس ضد التعرض للأذى . لكن غرايس استطاعت ان تخترق روحه ، فمزقت دفاعاته واحدة تلو الأخرى ، وتركته مكشوفا على طبيعته . ان ذكرى تلك اللحظات القليلة التي تلت الحادث ، حين ظن أنه خسرها الى الأبد ، كانت أقوى من ان تحتمل . لذا دفن خافيير وجهه في شعر غرايس ، فتسربت الدموع من تحته رموشه . ان خافيير وهو يمسح وجهه بعنقها ، ثم قال :" رفضت الحب طيلة حياتي الى ان اعتقدت فعلا أنني محصن ضده . لكنني أحبك غرايس أكثر مما ظننت أن بأمكاني أن أحب ".

شبح من الماضي "شانتيل شاو"... (روايات احلام )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن