الفصل الاول

9K 113 2
                                    


مزق السكون صوت طلقة مسدس وطارت إلى السماء الخالية سربا من النسور . وأمام هذا الضجيج المفاجئ تجمدت "آنى ويلز" . أحاطت دوامة من الغبار حذاءها الرياضى المستهلك عندما استدارت لتفحص الطريق الحجرى الذى قطعته . أرادت أن تعرف من أين أت هذه الضجة ، وتساءلت كم عدد الرجل الذين باستطاعتهم استخدام المسدس كسلاح ؟ لايوجد سوى واحد فقط وهى تعرفه . أخذ العرق الذى سال من جبينها يحرق عينيها . استيقظت كل حواسها وآلمتها .
كان من الأفضل أن تفحص الأفق . . لم تر سوى الأراضى الصخرية لـ "وايومنج" على امتداد البصر والسماء بلون أزرق ومسحوق الذهب الذى ارتفع من طيران النسور . أصغت السمع ولم تسمع سوى صوت تكتكة السوط الذى تردد صداه فى الصخور.
انتظرت "آنى" وهى تغامر فقط بالتنفس حتى تستعيد الطبيعة هدوءها . لقد قطعت بالفعل عدة كيلومترات منذ أن أنزلتها الحافلة فى بلدة "بينتر بونى " وهى أقرب بلدة من وسط الجبال التى كانت متجهة إليها . وهبت نسمة حارة واعدة بالأمل . إنها تحسه بوضوح مثل الحيوان الذى يحس بتغير الجو . سمعت عن بعد فى مكان ما كلبا ينبح وصهيل جواد خفيفا . بدأ قلبها ينبض بلا انتظام .
وقف رجل عند حافة النهر الجاف . كان ظهره إليها وقد ظهرت كتفاه العريضتان ضد الأفق الأزرق والأبيض ، وكان شعره طويلا وأسود مجعدا ، وكان معطفه الخفيف الطويل الذى يكاد يلمس الأرض يشبه ذلك الذى كان يرتديه قطاع الطرق ليخفوا أسلحتهم ، ولكن الرجل استبدل السلاح النارى بسوط طويل مجدول .
كانت "آنى" تعرفه ، لقد سبق أن رأته وسط حمى العمل بسوطه الذى يستخدمه مع الماشية سمعت صوت صفير حاد أدار انتباهها نحو غريم الرجل الذى يواجهه . . على بعد مترين منه حية ضخمة ذات أجراس بلون الماس وقد ووجهت بكلب ، كانت الحية مستعدة للهجوم على مقتحمى ملجئها وقد نفشت أجراسها . كان الكلب ينبح وهو يرتجف ويزمجر .
وجه الرجل ضربة ساحقة للحية رفعتها إلى الهواء ، حيث سقطت عند ملتقى الجبلين حيث وقفت "آنى" . كتمت صرختها بينما كانت الحية تزحف نحوها ، وبالغريزة انتصبت وهى مستعدة للفرار ، صاح الرجل :
- لا تتحركى
وكان الأحرى أن يطلب منها ألا تتنفس . عندما استدارت بحثت عن الحية بعينيها ورمقتها تزحف مثل نهر فضى داخل الرمال .
أحست الشابة بالخلاص وأوشك أن يغمى عليها ، وعندما صارعت
لتحتفظ بتوازنها انزلقت الاحجار من تحت قدميها . . لم يكن لديها اي فرصة للنجاة حيث استقرت على الارض مغطاة بالتراب عند قدمى الرجل . سالته بعد فترة بصوت هامس وهى تنظر فى عينيه مباشرة :
- انت "تشارلز بودين" . . . اليس كذلك ؟
كان له نفس الوجه النحيل القاسى ، والجمال الوحشى ، والفم الواسع والذى احتفظت بصورته فى ذكرياتها . . إنه لم يتغير . . حتى حاجبيه الكثيفين الأسودين . .
رد :
- ربما . . ولكن من أنت؟
وجدت "آنى" صعوبة فى استرداد أنفاسها :
- أنا زوجتك !
نادى "شيز" على جواده وساعدها على امتطائه ، قال الرجل فى نفسه لابد أنها مخبولة أصيبت بضربة شمس أثرت على حواسها . . أحس نحوها بالعطف وهو يحيط وسطها بذراعه حتى تثبت على ظهر الجواد . . إنها لم تكد تنطق بهذه الجملة حتى فقدت الوعى . اصبح من المستحيل إذن أن يطرح عليها أسئلة . إنه لا يفهم حقا من أين هى أتت إلا من "بينتر بونى" ولكن لابد أنها فقدت صوابها حتى تقوم بالرحلة وسط النهار تحت شمس فى عنفوانها ، همس وهو غير مصدق :
- زوجتى !
إنه لم يفكر أبدا فى الزواج ما لم يكن قد حدث فى مراهقته عندما أولع هياما ببهلوانة ذهب لمقابلتها فى مقطورتها الرحالة ، ولكن غرامهما لم يستمر بعد رحيل السيرك وليس معنى هذا أنه ضد الزواج . بل بالعكس لقد كان يعشق حفلات الزفاف . ولكن حدث كرهه للزواج بعد ان بدأت متاعبه .
لكز "شيز" جواده وألصق المرأة به . كانت الرحلة للوصول لقمة الجبل قصيرة ولكنها محفوفة بالمخاطر القاتلة ، وتطلب الأمر من "شيز" أن يركز كل انتباهه للوصول إلى وجهته .
وعندما وصل "تشيز" إلى السطح المستوى أدرك أن راحة يده مشغولة بشئ طرى وشديد النعومة والحرارة وكان جمالها يفقد الرجل عقله . لقد خلقت هذه المرأة من أجل الرجل .
تساءل : ما الذى يجرى له ؟ . . إنه راعى بقر وعليه ان يترك المرأة فى حالها . . عندما خطرت هذه الفكرة على باله وجد المرأة لا تتحرك ، لقد مضى وقت طويل لم يقترب فيها من امرأة وبدا أن ذهنه يريد أن يعوض هذا الحرمان بهذه الفرصة الذهبية .
سمع تنفس المرأة المضطرب الذى يدل على إثارتها . وكانت تفاحة آدم تتصاعد وتنخفض مع كل نفس . . أخذ يحلم ولكن همسا خفيفا انتزعه من أحلامه . كانت المرأة ملتصقة به كالطفل .
كان "شيز" لا يزال غارقا فى أحلامه عندما وصلا إلى وجهتهما . كان كلبه "شادو" ينبح ويهز ذيله عندما وضع الرجل قدمه على الأرض وحمل المرأة بين ذراعيه . كانت خفيفة مثل الريش ونحيفة لدرجة مخيفة . وعندما حملها إلى البيت ساوره إحساس بأن هذه المخلوقة تشبه المرأة التى عبرت من قبل حجيم حياته . ولم يعرف من أين جاءه ذلك الاحساس .
إنه يلزمه وقت طويل ليفكر . من هى ؟ تساءل وهو يحاول التذكر إن كان قد التقى بها فى مكان ما ، أو سبق أن رآها . . . إنها لا تذكره بشئ محدد . . وبالتأكيد ليس بالزواج . ابتسم ابتسامة خفيفة وليس واثقا تماما بأن المرأة هى سبب ابتسامته . إنها نسخة مصغرة من المرأة وإن كانت تقاسيم جسدها رائعة فضلا عن تقاطيعها الفاتنة . طبعا ضيفته لا تصلح للدخول فى مسابقة ملكات الجمال بشعرها الأشعث وكأنها خرجت من معركة شرسة مع امرأة أخرى ، ولكن ملامحها الفريدة لا ينقصها السحر .
سأل "شيز" كلبه الذى مد نحوه رقبته :
- ما رأيك ؟ ما الذى تنتظره منا ؟
أخذ يربت على الكلب وواتته فكرة مفاجئة ومزعجة . ربما كانت صحفية تريد عمل تحقيق صحفى حول "تشارلز بودين" البطل رغم أنفه , إنها لن تكون المرة الأولى . . ولكن الصحفى لن يخاطر أبدا بأن يصاب بضربة شمس أو مقابلة الحيات الرقط ذوات الأجراس من أجل كتابة مقال .
تأمل "شيز" البنطلون الجينز المستهلك الخاص بالشابة عندما تحركت وهمهمت بكلمة شبه مسموعة . . . سألها :
- ماذا ؟
- ماء . . .
- فى الحال .
مد "شيز" ذراعه وأخذ كوبا من الدولاب البدائى . . إنه لم يفكر فى الفخامة عندما اشترى هذا البيت . . . لقد بحث فقط عن ملجأ يحوى مجرد الضروريات فقط ، حجرة وحمام وحجرة معيشة ومطبخ . . لا شئ يمكن أن يغرى أى امرأة بالحياة فيه .
ملأ الكوب بالماء الذى يحضره من النهر ثم جلس بجوارها وقال وهو يرفع الكوب لشفتيها :
- ها هو ذا !
فهم "شيز" فى الحال أنها فى حاجة إلى المساعدة . فأجلسها ليساعدها على احتساء الماء وجدها . . . لأسباب لا يفهمها شديدة الجاذبية وهى ضعيفة وهشة وهى ترتشف الماء فى أحد أكوابه ، يا إلهى ! إنه فى حاجة إلى شئ قوى يهدئه لو استمرت مشاعره على هذا الحال وما الذى عليه أن يفعله حتى يتأكد من أنها لم تصب بالحمى ، شكرته الشابة بهزة خفيفة من رأسها وهى تنظر إليه بإمعان بعينيها الزرقاوين شديدتى العمق حتى إنه إضطر إلى أن يشيح بعينيه يعيدا عنها .
تساءل "شيز" بأى سؤال يبدأ استجوابه لهذه المرأة التى ظلت طريقها ؟ من أين أتت ؟ إن لديه سؤالين آخرين شديدتى الصلة بالموضوع لابد أن يطرحهما عليها ، وبدلا من أن يفعل قال لها مقترحا :
- هل تريدين أن أغسل لك وجهك ؟
- نعم من فضلك .
إن لها طريقة ساحرة للغاية فى قول ذلك . أحضر وشاحا أحمر لفه حول عنقها ثم غمس طرفه فى كوب الماء وأخذ ينظف وجهها . أغمضت عينيها تحت تأثير تدليكه لوجهها . ولدت هذه الحركة البريئة لديه رغبة غريبة .
تنهد . . . يا إلهى ! أرجو ألا تفتح فمها قبل أن أنتهى من عملى وألا تنطق بكلمة . نظر إلى بلوزتها . لقد كانت ضيقة جدا لدرجة أنه عرف السبب فى عدم تمكنها من التنفس بارتياح وأدى ذلك إلى فقدانها الوعى . . سألها وهو يلمس ياقة البلوزة :
- هل تحبين أن أخف ضغط البلوزة عليك ؟
قالت وهى لا تزال تغمض عينيها :
- نعم .
وضع "شيز" الكوب على المائدة وأخذ نفسا وبدأ يفك أزرار البلوزة . فك ثلاثة أزرار ثم تساءل إلى أى مدى سيستمر فى هذا العمل المضنى لأعصابه . . . عندما فتحت عينيها . . بدا وكأنها تراه لأول مرة . سألته :
- هل تظل محتفظا بقبعتك وسترتك فى البيت !
لم يكن هذا هو السؤال الذى كان ينتظره ، لم يعد يعرف أى مسلك يسلكه وترك نفسه تخاف منها بطريقة غريبة .
قال وهو يخلع سترته :
- هذا يعتمد على الظروف ؟
- أية ظروف ؟
- الجو .
كان وهو يرد بلهجة خشنة – يأمل أن يجعلها تشعر باليأس من الحديث فى هذا الموضوع ، ولكن بعض النساء لا يعرفن أبدا كيف يتوقفن .
تذكر ذلك وهى تجدحه بعينيها الزرقاون فى إلحاح وعمق متسائلة . لقد بدت هشة مثل الطفل المهجور ، وعنايته بها تضطره إلى استخدام الرقة التى لم يتعود عليها وهو السريع الغضب فى العادة . ثم إنه يحس الآن بهذه الرغبة العفوية التى تدفعه إلى الثرثرة التى قد تعرضه للخطر . وحاول جاهدا ألا يلعب دور الأم الحانية وأن يستعيد سيطرته على نفسه. قالت له :
- ولكن الجو ممتاز هنا .
- إنك قد تدفعينى إلى خلع ملابسى يا صغيرتى هل تفضلين أن أفعل ذلك ؟
احمر وجهها خفيفا ولكن اهتزاز رموشها الخفيف هو الذى أسعد "شيز" .
هناك فى مكان ما من المراكز المنطقية فى مخه ، أخذت إشارة عاطفية تومض بانتظام : الحذر . . . الحذر !
مال نحوها وحاول دون جدوى أن يعيد ربط الزر الثالث من البلوزة ثم انتفض واقفا فجأة وألفقى بقبضته التى سقطت فوق مائدة المطبخ ثم قال – وهو يسترد أنفاسه مع تجنب النظر إليها :
- حسنا ! أريد أن أعرف ماذا كنت تفعلين هنا ؟ . . من أنت ؟
أجابته دون أى تردد :
- " آنى ويلز" .
لم يخبره ذلك بشئ ولكنها كانت تنظر إليه برباطة جأش لدرجة أنه وجد نفسه يسألها :
- وهل هذا يعنى شيئا ؟
- آه . . بالتأكيد . . بالتأكيد . لقد تزوجتنى منذ خمس سنوات .
- انا تزوجتك ؟ هذا لا معنى له .
من الواضح أنها تمادت فى الأمر . . . ولكن كان من الصعب أن يراهن على الجزء الأخير من تأكيدها .
- وهل كان ذلك مند خمس سنوات ؟ لم أكن أعيش فى هذه البلاد منذ خمس سنوات لقد كنت . . .
- فى "أمريكا الوسطى "
ثم أضافت بلهجة مرحة :
- لقد كنت فى مهمة إنقاذ خاصة بوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" وكنت أنا جزءا من الأمريكيين الذين قمت بإنقاذهم .
دهش "شيز" تماما . . . لقد أعادت ذاكرته بقسوة إلى فترة ومكان من المستحيل أن ينساهما . . تلك المهمة إلى "كوستاريكا" والتى كانت بالنسبة له كابوسا حقيقيا . . . لقد أرسلوه وفريقه لتحرير علماء أمريكيين أسرمهم المتمردون . . وكانوا قد تفرقوا حتى يعثروا على الأمريكيين . . والأسيرة التى تم العثور عليها حية كانت فتاة مراهقة مختبئة فى دير هدمته القنابل .
وكانت مأساته أنه لم ينجح فى إعادتها سليمة معافاة . فقد لقيت حتفها فى حادثة سيارة على الطريق المؤدى إلى الجبهة . وهو نفسه خرج سليما بأعجوبة .
قاطعها بخشونة وهو يحاول إيقاف سيل الذكريات وهو ممزق ما بين الغضب وعدم التصديق : من هذه المرأة بحق السماء ؟ ردت :
- لا . . بل إنه أنت . " تشارلز بودين" . إن الرجل الذى أنقذنى كانت له نفس سحنتك . وكان يدعة "شيز" وكان يستخدم أيضا سوطا ، آه . . أرجوك أن تتذكر ! لقد كنت مختبئة فى دير فى ضواحى "سان لويس" عندما عثرت على – لقد كنت هناك من شهر منذ أن قتل الارهابيون والدي .
انقطع صوتها فجأة وكأنها تجد صعوبة فى الاستمرار ، ثم استطردت :
- إننى أتذكر أدق التفاصيل . . لقد جرحك احد المتمردين ، وكان موجها سلاحه نحوى وقمت بنزعه منه بسوطك . فأخرج مدية هل تتذكر ؟
أحس "شيز" بألم فى المكان الذى انغرس فيه سلاح المدية عند ساقه .
أخذ قلبه ينتفض داخل صدره عندما خرج بسرعة للخارج حتى يستطيع أن يسترد أنفاسه وسيطرته على نفسه . لابد من وجود تفسير منطقى ومن الأفضل أن يجد حلا . ولكن قد تكون إحدى الصحفيات الدؤوبات كالنحلة والتى تهتم بالتحقيق حول بعثة "كوستاريكا" ؟ ومن غيرها يعرف هذه التفاصيل ؟ لابد أنها حصلت على هذه المعلومات من التحقيقات الصحفية وقتها والتى كانت غنية بالمبالغات .
سألته – وقد أحست ببعض الاهانة والجرح لكرامتها :
- ولكن لماذا لا تصدقنى ؟ إننى أقول الحقيقة .
استدار يتأملها واكتشف أنها جلست بصعوبة وأسندت إحدى كتفيها على الجدار ، قرأ فى عينيها الأمل والخوف وكذلك عاطفة جعلته يحس بالعذاب . . واليأس . إنها تطلب – يائسة – شيئا ما . . ولكن ما هو ؟ الاعتراف ؟ ما الذى تنتظره منه ؟ بذل جهدا خارقا ومؤلما حتى يبدو قاسيا من أجل ألا يغرق فى سحر عينيها . قال :
- وأنا أقول الحقيقة يا "آنى ويلز" . . واثق تمام الثقة أننى لم أرك فى حياتى أبدا .
فكر "شيز" أنها لا يمكن أن تكون تلك المرأة التى تدعيها . . وليأخذ الله روحه ! لقد أغرق دم تلك المراهقة يديه . وكان هو وراء عجلة القيادة عندما انحرفت عن طريقها .
أخذ يبحث فى ذاكرته عن مراهقة وأى دليل يثبت أن تلك المرأة هى نفسها . ولكن لم يكن لديه سوى ذكريات مبهمة .
إن اصابته بالحمى التى عانى منها خلال مهمته قد أثرت على ذاكرته ، وبالتالى على حسن حكمه على الأمور . . لقد أدى الحادث إلى إسدال ستارة من الضباب على ذكرياته . . وهو لا يستعيد سوى ذكريات نادرة وقليلة جدا .
لقد قال لـ"آنى ويلز" الحقيقة ولكن ليست كل الحقيقة . ليس لديه أى ذكرى عن الشابة التى أنقذها قبل ان تلقى حتفها بعد ذلك ، إنه لا يستطيع حتى أن يتذكر اسمها .
قالت له فى تحد واضح :
- إجراء رسمى ووسيلة للخروج من المأزق . ولقد كنا مدركين لذلك نحن الاثنان .
قال ردا عليها بصوت قاطع :
- ربما أنت . ولكن بالنسبة لى فان ذلك لم يحدث ابدا . ان الوعد الوحيد الذى اقسمته كان فى اليوم الذى اوشك فيه والدى ان يقتل كل منهما بزجاجة الشراب القوى بعد ان ابتلعا محتوياتها . فى هذا اليوم اقسمت الا اتزوج ابدا . اذن اخبرينى يا "آنى ويلز" لماذا احنث بقسمى ذلك من اجلك ؟
ارتجفت "آنى" انها لا تعرف بماذا تجيب على سؤاله ولكنها تمكنت بصعوبة من ان تجيبه قائلة :
- لست ادرى لماذا . ربما كان بدافع العرفان بالجميل .
- ولماذا بحق السماء ؟
أحست بالاحباط . كانت لديها رغبة فى ان تقول له : ان ذلك العرفان بسبب انها انتزعته من بين براثن الموت .
لقد ظلت بجانبه وهو فى حالة من الهذيان وفقدان الذاكرة . . كيف امكنه ان ينسى ذلك ؟
- لقد أعطاك القس الأدوية . ولكن كان يلزمك شخص يظل بجوارك ليل نهار .
أشاحت بوجهها بعيدا عنه وهى تعلم أنها لا تستطيع ان تدخل فى تفاصيل تلك المحنة الآن .
لقد كان من المؤلم للغاية بالنسبة لها أن تحكى ما عانته وما اضطرت إلى فعله .
لقد كان التعب قد هدها ! فتركت نفسها تسقط على الفراش مرة ثانية وتغمض عينيها . لقد كان عذابا ان تشاطره نفس الحجرة بعد كل تلك السنوات الطوال . ان قربه منها يعيدها الى زمن كانت عواطفها نحوه وحشية وقوية وحلوة .
كانت قد وقعت صريعة حبه فى الحال مثل فتاة مرعوبة تغرم بالرجل الذى يغامر بحياته من أجل انقاذها . . ربما كان شغفها بالبطل المغوار ! ولم تكن تعرف ان كان يحبها ام لا ، ولا تستطيع ان تحكم على وضعها بالنسبة له ولم تجد امامها سوى ان تفعل الشئ الوحيد فى مثل هذه الحالة وهو ان تنتظر ان يعود اليها .
اجبرت نفسها على فتح عينيها مرة ثانية وتشابكت نظراتهما وتساءلت : كيف امكن ان تكون ساذجة لهذه الدرجة ؟ انه لم يعد ابدا اليا ولم تكن لديه ابدا نية العودة . غمرتها موجة من المرارة وهى تحاول ان تطرد الذكريات من ذهنها . . انها ذكريات مؤلمة . سالها:
- ما الذى تنتظرينه منى ؟
- اجابات صادقة .
تحملت نظراته وهى تدعو الله الا تعكس ما يدور بخلدها من افكار . هل يعرف من هى ؟ الا تذكره اذن باى شئ ؟
لم يكن هناك سوى اجابة صادقة على هذا السؤال ، ولكن "شيز" ليس لديه اى نية فى ان يقولها . ان تعرف كل تفاصيل مهمته وبعثته أمر جعله يهتز ويرتج ، ولكن طالما لا يعرف بالضبط من هى ؟ وماذا تريد ؟ فلا مجال هنا لأن تقول له المزيد . انه يتذكر انه افاق فى مستشفى امريكى بعد الحادثة وكان مساعداه "جيوف دياز" و "جونى ستارهوك " وقد اعدا تقريرهما وذكرا فيه انه لم يعثر ابدا على جسد الفتاة والاثر الوحيد كان فردة حذاء وسط الاحراش .
لقد تبعته تلك الحادثة ربما لانه لم يصل الى تذكر ما هو سببها . ولكن الذى يطارده الآن ويلح على ذهنه هو حكاية الفتاة .
إنها تعرف عنه الكثير من الامور التى لم تستطع الفتاة ان تقرا عنها فى الصحف .
انتزعه صوت تحطم كوب زجاجى من افكاره ، من الواضح ان "آنى ويلز" هى التى اسقطته وهى تحاول ان تستخدمه . قال "شيز" – وهو يشعر بعدم ارتياح واضح :
- هيا . . اهدئى ! ساعطيك كوب اخر .
بينما يملا الكوب بالماء عبرت راسه صورة ساحرة وغريبة . . فتاة صغيرة ذات شعر احمر ورقيق تهمس فى اذنه بكلام غير مفهوم . اوشك الكوب ان يفلت من بين اصابعه . قد تكون صورة اى امراة ممن عبرن حياته على مر السنين .
عندما فتح صنبور الماء أحس ببرودة الفولاذ تسرى بين مفاصل أصابعه . . تذكر صوت طلقة مسدس . قالت له " آنى ويلز" :
- لا تتحرك والا اطحت براسك .
- ما الذى تفعلينه ؟
قالت بصوت منخفض بلهجة تهديد :
- اننى امراة يائسة يا سيد "بودين" . . لقد مرت اسابيع وانا ابحث عنك وقطعت الاف الكيلومترات حتى اعثر عليك مرة ثانية . . اذن عليك ان تنصت الى ، وعندما انتهى ستعطينى ما اريده .
وضع "شيز" كوب الماء ورفع يديه عاليا .

زواج بالقوة .  روايات عبير.                للكاتبة فلورنس كامبل                 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن