من بقلبي؟

138 11 4
                                    

    كانت السحب الرمادية تذرف دموع الغدق لتغسل بها ذنوب الآثمين، وكان النّاس يختبئون منها ويفرّون كما لو أنّها الموت بالذّات.
     على رصيف الطريق المتلألئ بانعكاس أنوار الشوارع على بلل السمت، كان هناك "أنور" يكسر ذلك الألماس بخطواته المتخلّجة غير مباليٍ أين يضع القدم من الأخرى. تخاف النّاس أن تتبلّل ويخاف هو ألّا يصل.
    تباطأت سيّارة على قارعة الطريق وانزاحت ناحية الرصّيف لتتماشى مع خطواته. لاحظها أنور بلمحة من عينه، رماديّة كالسحب فوقه، عتيقة كنظرته للحياة، مهترئة كقلبه...
   كان بإمكانه سماع صوت النّافذة وهي تُفتح يدويّا بصعوبة بالغة، قبل أن ينطق صوت خارج منها:
"أنت جارنا الجديد بالعمارة، أليس كذلك؟"
    توقّف أنور ليأخذ نظرة أدقّ على من كان متنها، كهل يقارع أبواب الشيخوخة، منتفخ الميامي وأشرم الشفّة، ملتحيا وعلى رأسه صلعة؛ وجنبه على المقعد امرأته الّتي خجل منها أنور وأزاح عنها نظره قبل أن يتمسّك بأيّ من ملامحها.
"اصعد، سنوصلك معنا" قالت وقد لاحظت حياءه منها.
     عادة، ما كان أنور ليخالط غير الّتي كانت بالفعل قاطنة بقلبه، وما كان ليصعد سيّارة غيره إلّا لتوصيلة كان سيدفع أجرها، لكنّ استعجاله أرغمه على القبول بعد أن قارن مسافة الوصول بمكان وقوفه. أراد العودة لبيته قبل أن تشرق الشمس من خلف الغيوم وتقبّل عبرات أرضها حتّى تجفّ كما لو أنّها لم تبكي يوما، فإن حصل ذلك، بكتْ من بقلبه بدلا عنها.
- أنت أنور، صحيح؟ نسمع زوجتك تنادي عليك دوما، جدران العمارة رقيقة كالأوراق إن لم تكن قد لاحظت بالفعل. (قال الزّوج)
- آه، أتمنّى لو يجيبني زوجي كما تجيب أنت زوجتك عندما تناديك (أضافت زوجته)
- ها قد بدأنا من جديد. أخبرنا يا أنور أنّنا نحن الرّجال نحمل على عاتقنا هموما من الجبال، هموم العم والمصاريف، الديون والفواتير، مخاوف تقلّب الأحوال وتغيّر الظروف...لا ينقصنا تذمّر يبدأ كالإنذار حالما نضع مفاتيح الشقّة بالباب لدخولها ويبقى صداه برؤوسنا ساعات بعد أن نغادرها. هذا أشبه بتلوّث العقول يا أخي! لا عجب أنّ المجانين بالشّوارع أغلبهم رجال، تعبثن بدمائنا حتّى تغلي ولا يبقى فيها ذرّة أوكسجين لتصعد إلى رؤوسنا، إمّا جلطة دماغية مباشرة أو جنون بالتدريج!
- لا أبالي بتعبك النفسي، أنام متأخّرة وأستيقظ مبكّرة، أعدّ الفطور وأجعل الأطفال يستعدّون، أنظّف البيت وأطبخ كلّ مرّة طعاما تتذمّرون من تكراره، ثمّ أنظّف من جديد لأنتظر يوما آخر أعيد فيه كلّ ما فعلته سابقا...فمن حياته أصعب من الآخر؟
- الذّي فقد شعره في أقلّ من عام من زواجه! (ردّ عليها زوجها بسرعة ضاحكا)
- ما رأيك أنت يا أنور؟! (سألته الزوجة)
     أدرك أنور أنّ صمته قد أوقعه في ورطة اجتماعيّة لا مفرّ منها إلّا بالإجابة أو القفز من السيّارة، ورغم أنّ هذا الاقتراح الأخير بدا وكأنّه أقلّ إيلاما له من ضغط التدخّل بين الزوجين إلّا أنّه وضع من بقلبه صوب عينه مبتسما للصورة ثمّ أجاب متردّدا:
- رأيي...رأي هو...صحيح، الأمر متعب، سواء للرجل أو المرأة، فكلاهما لديهما ما يكفي على طبقيهما، لكن برأيي أظنّ أنّ علينا التوقّف قليلا في التفكير فيما نفعله، وبدل ذلك نضع القليل من جهدنا في التّفكير لأجل من نفعل ما نفعله...هل يبدو ما أقوله منطقيّا قليلا؟ ومن الجميل أيضا، من وقت لآخر، أن يعين الزوج زوجته والزوجة زوجها، ليحمل أحدهما عبء الآخر ولو كان قليلا، فيستشعران حبّهما لبعضيهما بمقدار تعب كلّ واحد منهما، وصبرهما على الضغوط حبّا لبعضهما وواجبا...دون إهانة أحدهما للآخر أو دفعه بعيدا أو حتّى جرحه بكلمة سامّة أو نظرة قاسية كبرد خريف جافّ لا غيث فيه، فلا مكان للأنانيّة في الحبّ إلّا غيرة على الحبيب، ولا مكان للأنانيّة في العائلة إلّا للغريب...
     عمّ الصمت بداخل السيّارة إلى أن أصبح شدو قطرات المطر على سقفها المتحدّث الوحيد، وقبل أن يعتاد أنور على طربه، قالت الزوجة:
- كان هذّا أجمل شيء سمعته بحياتي، لما لا تكون مثله يا أصلع؟
- أظنّ أنّ خلف إجابته هذه زوجته، لو عرفناها لعرفنا السبب! (أجابها زوجها)
- صحيح! (قالت الزوجة بنبرة متسائلة) نحن لا نرى زوجتك أبدا، لماذا؟!
- لا تحبّ الخروج كثيرا، هي كائن من نوع آخر، تخرج إلّا مساء لنزهة ليليّة أو حين ينعمنا اللّه بغيثه كما الآن، ولهذا أنا مستعجل، فهاتفي سينفجر من كثرة رسائلها لي كي أسرع بالعودة لنخرج معا قبل أن يقبض اللّه رزقه.
- ألا تكره حين لا يتوقّفن عن ازعاجك في الهاتف؟! (سأله الزّوج ممازحا فضاع أنور بالصورة صوب عينيه لبرهة قبل أن يجيب مبتسما)
- لا، بالعكس، أعتقد أنّ ذلك دليل على حاجتها لي...وصراحة لا أعتقد أنّ لي نفعا بالدنيا إن كانت هي لا تحتاجني، فهي أساس هذه العائلة، هي جوهر هذه العلاقة بأكملها.
       ساد الهدوء من جديد داخل السيّارة، ومن جديد، قاطع السكون صوت الزوجة الأنس حين سألته متعجّبة:
- ما اسمها؟!

زهرة فوشيا البنفسجيّةWhere stories live. Discover now