ذاكرة ياسمينة

44 11 14
                                    



لا أعرف من أين أبدأ, ولكني أعرف أني أريد أن أبدأ. أعرف أني مشتته, ولكني أعرف أني سأجد طريقي. إني موقنة أني سأرى النور الذي يوصلني إلى السبيل في أعماقي, وإني موقنة أنه سيلهمني إلى غاياتي. ولكن, دوما هناك عائق, يقف بيني وبين ما أريد الوصول إليه. قصتي ليست بالسعيدة, ولكني سعيدة بما وصلت إليه.

أردت دوما أن أعرف الاعتذار, ولكنني لا أعرف حتى معنى الأمل. لست من البائسين ولكنني, من ذوي النفوس الطاهرة. إنني ومن النفوس التي لم تمسها درنات الغبار لتلوثها. مازلت صغيرة, ولكنني أمتلك عقلا يفهم ما حوله من أمور. لست أريد أن أتوهكم في شتاتي, إنما آهات جروحي وآلامي تحرقني من داخلي. أشعرت يوما بالغيرة؟ ستفهم قصدي.

لربما لم تعرفوا بعد من أنا, سأريحكم وأقول لكم من أنا. إني أنا زهرة الياسمين على أغصان شجرتي أتدلى, لأنعش المار بعبق وعبير عطري الرباني. كيف لزهرة الياسمين أن تنطق؟ كيف لها أن تشعر؟ ولمن أرادت أن تعتذر؟ كل هذا يجول في خلد من حولي, لن أكذب عليكم, فأنا لا أعلم.

في حياتي القصيرة, مر بي أناس كثر. لست أحصى أحدا منهم ولا أذكر إلا القليل. القليل فقط ممن يبوح بالعبر. أخبروني يوما أن الناس تشكي همومها وترميها بالبحر. فهل رأيتم من يشكى لشجر؟ آه يا بحر مامن أعلى منك عظمة سوى المولى سبحانه وتعالى.

يا بحر هل جاءك يوما من البشر من يبكي على معشوقته الراحلة من بعد قصة حب طويلة, لفظت آخر أنفاسها بين يدي من تحب. لقد قتلتها أعز صديقاتها. أتصدق يا بحر, غدر الصديق أصبح رائجا هذه الايام! لم أنته يا بحر بعد, أتعلم لقد أمسك بأختي الياسمينة وقطفها من جانبي وقال: "لطالما وجدت فيها عبيرك يا ياسمينة, آهن يا ياسمينة, لا تزيدي آلامي علي أكثر, ثم ضمها إلى صدره وأغرقتها دموع عينيه العسلية. أغمض عينيه بقوة ووضع أختي في جيبه ورحل. رحل كما رحلت معشوقته, إلى الابد عن هذه الدنيا. لقد أنهى حياته بيديه. رأيته بأم عيني. رفع حبلا سميكا الى جذع قريب مني وعقد طرفه الآخر بعنقه. ومات.

يخلدني شعور بالرهبة كلما تذكرت تلك الطفلة المسكينة. يا بحر, ذات ليلة, أيقظني من عز نومي صوت بكاء عال. إلى يومنا هذا كلما رأيت القمر مكتملا في الليل تذكرت القمر نفسه الذي أضاء سماء وأرض تلك الليلة. يا بحر, إنه لا يحق لي أن أعلمك معنى الحزن, وأنت أول من علمه. نظرة ذلك الرجل الحادة, لم تكن سوى نظرت حقد. دفع الطفلة المسكينة إلى الأرض بكل قسوة, إني أكاد أجزم أنه كسر كتفها ويا ليته أكتفى. لقد أخرج سكينا حادة النصل, وأخذ يقطع بأعضاء الطفلة وهي حية. لم يسمع أحد صراخ المسكينة لثلاث أسباب, الاول هو أني أعيش وأخوتي في حديقة منزل مهجور, الثاني الرجل الحاقد قد غطى فم الطفلة, والثالث أن المسكينة قد فقدت وعيها ونامت نومة ما بعدها صحوة. بعد أن انتهى دفن المسكينة تحت جذوري. إلى اليوم لا يعرف أحد أين مكان المسكينة. ظنوا أنها هربت في آخر الليل وضاعت. والسبب الغيرة. لم يكن ذلك الرجل الحاقد إلا الرجل الذي تزوج أم الطفلة المسكينة, وقد وصل به الجنون أن يقتل الطفلة لأن أمها تهتم بها وتحبها.

لم أعد منذ ذلك اليوم زهرة على احدى أشجار منزل مهجور, لقد أتى من يؤنس وحدتنا انا وأخواتي. رجل عجوز وابنه الوحيد, يعملان معا في التجارة. لقد كانت أيامهما الأولى معنا ملؤها السعادة. حتى دخلت نظرات الحسد إليهما وفتكت بهما. كل يوم كان الابن البار يأخذ ما يجنيه ووالده من ربح التجارة إلى مصرف المدينة. صدق من قال أن الغاية لا تبرر الوسيلة. ذات صباح كعادة الابن البار, ذهب إلى المصرف وعلى أبواب هذا المنزل المشئوم, ظهر أحد لصوص البلدة الهاربين يهدده بعصا طويلة فيها بعض المسامير الخارجة, وضربه بها على رأسه فمات. سرق اللص ما كان مع الابن البار من نقود وذهب. لن أصف لكم ما حل بأبيه ولكنه مات حزنا على أبنه الوحيد.

لهذا أغار من البشر ذوي الألسنة المخرسة, ولهذا فقدت الأمل منهم من أن أنطق حقا, وأردت أن أشعر لأني أحس حقا, ليس مثل بعض البشر, أردت أن أعتذر لربي لأني طالبت أكثر مما هو حقي, فقد نسيت أن ربي يعرف أكثر مني وأنه لسوف يظهر الحق ويشهر إليه السبيل بشعاع نور يخرق هالات الظلمات المخيفة, ليبث فينا الطمأنينة.

*****

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Mar 04, 2021 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

ذاكرة ياسمينةWhere stories live. Discover now