حقيقة أم جزء من الحقيقة؟!

7 2 0
                                    

    بعد أن حكى "سيف" لجده كل شيء، ابتسم الجد "مصطفى" قائلا بحكمته المعتادة:
   _ اسمع يا بني، الأطباء ليسوا ملائكة معصومين من الأخطاء، ولا أناس خارقون للطبيعة يملكون عصا سحرية تمنح حياة ثانية للحالات الميؤوس منها؛ طالما وفاتها لم تكن نتاج خطأ طبي صادر منك، هذا يعني أنك طبيب ممتاز، فلا تحمل نفسك ما لا طاقة لها به، ولا تعاتب نفسك و تلمها على ذنب لم تقترفه، العمر بيد الله وحده ما أنت سوى سبب وضعك الله  بطريقهم لتكون سببا في شفاءهم.
       ارتسمت على ثغر "سيف" ابتسامة حزينة و قال:
       _ هو وضع كل ثقته بي و أنا خذلته، لو كنت أعلم أني غير قادر على انقاذها لكلفت طبيب أخر غيري، لكانت الأن لا تزال حية تتنفس.
       بادله الجد ابتسامته، و أكمل بنفس نبرة صوته الهادئة:
   _ هنا يكمن الخطأ بحد ذاته، لو لم يكن واثق بك و موقن أنك ستفعل كل ما بوسعك لإنقاذها لانصرف بحثا عن طبيب أخر غيرك، ألم تسأل نفسك ولو لمرة لماذا اختارك أنت بالذات دون غيرك؟                                                                                                 بنظرك، كم عدد ضحايا الأخطاء الطبية؟ كم من طبيب قام بإجراء عملية جراحية لمريضه وهو في حالة سكر؟ كم من طبيب وصف لمريضه الدواء الخاطئ فتسبب له في علة ثانية عوض شفائه؟ و غيرها من الحالات الأخرى، هذا الظاهر فقط و ما خفي كان أعظم. أنت لم ترتكب ـ و الحمد الله ـ أيا من هذا، و هذا بحد ذاته كافي لتقنع نفسك أنك طبيب ناجح على خلاف غيرك، و أنت الأن أمامي تحمل نفسك وزر ذنب لم ترتكبه، هذا خير دليل على أنك تشتغل بضمير، لا أخبرك هذا الكلام بصفتي جدك، و لكن بصفتي أحد المعجبين بطهارة قلبك و سمو أخلاقك المهنية، ولكن عليك أن تتقبل فكرة أنك لا تستطيع إنقاذ الجميع، فأنت لا تمتلك قوى خارقة تشفي المريض في الحال، هذا غير ممكن أبدا. هناك أناس كتبت لهم الحياة لمرة ثانية، و هناك أخرون كتبت لهم الموت دون أن تقوى على إنقاذهم، هذا هو القدر، لا أنت و لا غيرك قادرون على تغييره.
        تجمعت الدموع في مقلتي "سيف"،  فعانق جده كأنه يستمد القوة منه، لا يعلم كيف كانت ستكون حياته بدونه، خسر أبواه في حادث تحطم طائرة متجهة نحو المطار الدولي "ماركو بولو" بإيطاليا. كانت "هند" والدة سيف باحثة في التاريخ، بينما والده "إيهاب" رجل أعمال في مجال تصميم الأزياء، و تحت إصرار "هند" قررا السفر لمدينة البندقية (فينيسيا)، ف"هند" بحكم عملها تعشق الرحلات و الاستكشاف، و التعرف على ثقافات أخرى، فوافق "إيهاب" مرغما، و في منتصف الرحلة فقد الرادار الإيطالي الاتصال بطائرة "أليتاليا" ، و بعد مدة ليست بقصيرة من البحث تم العثور على الطائرة المعلومة محطمة إلى أشلاء، و من الطبيعي لم يكن بها أحد من الناجين، و لكن المحير في الأمر أنه  تم العثور على 80 جثة عوض 82 ، للأسف لم يتم العثور على والدي "سيف" ضمن المتوفين ولا حتى ضمن الأحياء، بل أكثر من ذلك لا أثر لمتاعهما، و لحد الساعة لا تزال أسباب سقوط الطائرة مجهولة، وتم إغلاق ملف القضية بالقول أن سقوطها كان نتاجا لخطأ تقني ولم يتم التعمق في البحث أكثر؛ رغم أن كابتن الطائرة لم يكن من الشباب الجدد المتهورين عديمي الخبرة، الذين يفتقرون للتجربة، بل كان "سيلينو"  أحد الطيارين المتمرسين، أفنى حياته يحلق في الجو لدرجة أنه يلقب في "إيطاليا" بصديق السحب، فقد قضى عقود من حياته يشتغل كربان طائرة "يوروفايتر تايفون" ضمن القوات الجوية الإيطالية ( الأسهم ثلاثية الألوان ).
            جالسان في المكتبة و الهدوء ثالثهما، كلا يغرق في أمواج عالمه يرفض الإغاثة، هذه عادتهما مساءا، لم يكن "سيف" أقل من جده عشقا للقراءة، فقد حرص الحاج "مصطفى" على زرع بذرة حب القراءة في تربة فؤاده الخصبة، و لم يستغرق الأمر وقتا طويلا لتنمو هذه البذرة و ترعرع لتصبح شتلة مفرعة، لم تتوانى في أن تصبح شجرة ناضجة؛ كان أول كتاب قام "سيف" بقراءته هو "خزانة الكتب الجميلة" ل"أحمد زناتي" و الذي لم يختره الجد بطريقة عشوائية، بل لسبب وجيه و هو تغيير النظرة السائدة عن القراءة كي تصبح مصدرا للمتعة و الاسترخاء بعيدا كل البعد عن الملل.
          انتهى "سيف" من تصفح كتابه، و استكشاف الكنوز التي يحملها بين طياته، ابتسم تلقائيا و هو يرى جده يرمقه بنظرات لا يفهم معناها سواه، نظرات فخر، هكذا اعتاد أن ينظر إليه منذ طفولته بعد إتمامه لكل كتاب استعاره من مكتبته؛ انتصب "سيف" واقفا، ليعيد الكتاب إلى مكانه بين المئات من أصدقائه المصفوفة بانتظام حسب نوعها في رفوف خشبية تغطي ثلاثة أرباع مساحة كل جدار من جدران المكتبة، ما عدا واحد كان الجد حريصا في تعليماته على عدم تثبيت أي رف على هذا الجدار بالذات؛ و هو يعيد الكتاب لمكانه سقط أخر بجواره لتنفلت من بين صفحاته صورة لشابة، أو بالأحرى حورية بحر، ترتدي فستان أبيض بقصة بسيطة تتناثر عليه أحجار اللؤلؤ من مختلف الأحجام، شقراء الشعر يزين رأسها تاجا من ورود الياسمين تلف يدها الصغيرة حول ذراع شاب ملامحه لا تختلف كثيرا عن ملامح "سيف"، كان من الواضح أنهما متزوجان حديثا؛ إنهما والداه، أمسك الصورة بين أنامله وهو يتأملها بنظرات غريبة، لم تكن نظرات الكبرياء و الغرور التي ينظر بها إلى أصدقائه و زملائه في العمل، و لا حتى نظرات الامتنان التي يرمق بها جده بين الفينة و الأخرى شاكرا لوجوده في حياته، كانت نظراته مختلفة كليا، كانت نظرات طفل اشتاق لحنان والدته و عطف والده، نظرات طفل يملأ الشوق فؤاده للقاء والديه و لو لمرة واحدة؛ لوهلة تراءت له ذكريات من طفولته، لم تكن ذكريات حتى، كانت مجرد صور غير واضحة الملامح للفترة القصيرة التي قضاها برفقتهما. تذكر بعض من تلك اللحظات النادرة التي ظلت عالقة في ذهنه تأبى الزوال، كأول مرة ذهبوا فيها إلى "منار بارك" مدينة الملاهي ب"طنجة"
                        Flash-Back
          ابتسمت لتتشكل التجاعيد حول حدود عيناها الخضراوان، و هي تنظر إلى طفلها- ذو الخمسة أعوام- يحاول قطف زهرة سوسن بيديه الصغيرتين، بعد عدد لا بأس به من المحاولات استطاع قطفها، اقترب منها و الفرحة تشع من عينيه و قال بصوته الطفولي:
_ لقد قطفتها من أجلك، أعلم أنك تحبينها.
سحبته من يده بخفة ليستقر بين أحضانها قائلة بحنان و هي تلاعب خصلات شعره الحريرية:
_ ألن تطلعني على من أخبرك بهذه المعلومة ؟
أشار لها نحو أبيه القادم من بعيد يحمل في يده ثلاث أنواع من المثلجات، فازدادت ابتسامتها اتساعا، اقترب منهم "إيهاب" و ناول زوجته مثلجات بنكهة الفراولة، و أخرى لابنه بنكهة الفانيليا التي يعشقها حد الجنون، و اقتنى لنفسه ثالثة بنكهة الشوكولاتة. تبادلا النظرات لبضع الوقت لينفجرا ضحكا على ابنهما المشاكس الذي أصبح كالمهرج ببقايا الأيس كريم على وجهه، نظر إليهما بغضب طفولي فقد قطعا عنه لحظات استمتاعه بمثلجاته اللذيذة؛ ابتسمت "هند" لتدنو منه تحمل في يدها منديلا لتمسح بقايا المثلجات على ملامح وجهه البريئة، ختمتها بقبلة رقيقة على أنفه.                                                                                 سحب "سيف" زهرة السوسن الدموي من يد أمه، ورفع ذراعاه للأعلى بحركة تعرف "هند" مغزاها حق المعرفة، استجابت لطلبه، فجلست القرفصاء لتصل يده لمستوى وجهها، ليضع كفه على خدها الناعم، انفلتت ضحكة قصيرة من بين شفتيها و هي ترى ابنها يعض شفته السفلى محاولا تثبيت الزهرة بين خصلات شعرها الشقراء كسبائك الذهب اللامعة، و لكنها كانت تنزلق جراء نعومة شعرها. ابتعد قليلا ليرى عظمة انجازه عندما تأكد أن الوردة لن تسقط مجددا، فبدأ يصفق بيديه الصغيرتين و يقفز كأنه يهنأ نفسه على إتمام مهمته بنجاح، ثم وجه بصره لأبيه بنظرات تشي بالكثير.  ابتسمت "هند" على تصرفات زوجها و ابنها، لقد كانت تعلم أن هذه أفكار "إيهاب"، ومن سواه سيعلم الطفل حركات كهذه. بعد ساعات من التنقل من لعبة لأخرى، حمله "إيهاب" بين ذراعيه، و ماهي إلا لحظات حتى داهمه النوم ليغفو على كتف أبيه، بعد يوم ممتع قضاه رفقة والديه. عادا إلى المنزل، ليضع "إيهاب" ابنه على السرير و خرج بعد أن دثره جيدا اتباعا لتعليمات القائد "هند" و التي رغم حرارة المكيف التي تدفئ الغرفة إلا أنها تخشى عليه من نسمات الهواء المنعشة أن تصيبه بنزلة برد، ليجهزا أمتعتهما استعدادا لسفر ممتع، و الوجهة هذه المرة "إيطاليا" و بالضبط نحو عاصمة الرومانسية "فينيسيا".
                       Flash-Back نهاية   
            ارتسم شبح ابتسامة حزينة على ثغره، و امتدت يده لتمسح الدمعة الساخنة التي شقت طريقها على خده تحرق بشرته، كل هذا مر تحت أنظار جده، لطالما حاول "سيف" إخفاء حزنه و ألمه تحت قناع الشاب القوي الأبي، الذي لا يعرف معنى للضعف، شاكرا ربه لأن جده لا يقرأ أفكاره للتمييز بين أوقات فرحه و حزنه، أو هذا ما كان يظنه على الأقل، يظن أن جده لا يعلم متى يكون قويا و متى يتظاهر بالقوة لإخفاء مشاعره تجنبا لنظرات الشفقة التي قد تلاحقه، غافلا عن أن جده يعلم كل ما يجول بخلده. تنهد بحزن، لا أحد منهم كان يعلم أنه سيكون اللقاء الأخير، كم اشتاق لها، لابتسامتها البريئة، لعطرها الذي يخترق أنفه ليأسر حواسه في كل مرة تغمره فيها. أما والده فهو حكاية ثانية، لقد كان يمثل بالنسبة إليه كل المعاني السامية للقوة، الشجاعة، الحب... مجرد وجوده بجانبه يشعره بالأمان، بالمختصر المفيد كان بالنسبة له المثل الأعلى الذي كان سيتخذه قدوة في كل مراحل حياته. كل هذا تلاشى في الثانية التي وضعا بها أول خطوة لهما نحو تلك الطائرة الملعونة، لم يتبقى له الأن سوى هذه الذكريات التي تتسلل لذهنه ليلا، تغزو احلامه، هذه الذكريات التي سببت له الأرق لليال غير معدودة.
       اخرجته من دوامة ألامه يد امتدت لتوضع على ذراعه، سحب الجد الصورة من يد "سيف"، تمكنت دمعة حبيسة من التحرر من قيود رموشه لترسم مسارها على خده، ما إن سقطت حتى لحقت بها أخرى، قال بصوت تخنقه العبرات:
_ رغم مرور كل هذه المدة، لم أستطع نسيانهما.
تأمل الجد الصورة التي أيقظت وحش الألم الحبيس في زنزانة قلبيهما من سباته، و قال:
_ تنسى؟ لا تستطيع أن تنساهما ما حييت، مع مرور الزمن تلتئم الجروح لكن تبقى ندوبها بارزة أبد الدهر لا تمحى، أنت فقط ستعتاد على غيابهما، ستعتاد الفراغ الذي يسكن روحك، و سيظل الألم يطعن قلبك باستمرار كخناجر من نار حتى تألفه...
     توقف الجد عن مواساة حفيده إثر ثلاث هزات أرضية متلاحقة، تفصلها نفس المدة الزمنية، أمسك الجد بذراع "سيف" ساحبا إياه خلفه، و نطق بنبرة صوت لمح بها "سيف" بعض الرعب:
_ اتبعني، لقد استيقظوا مجددا.
   لم تكن الفرصة متاحة أمام "سيف" ليستوعب ماذا يحدث الأن، توقف الجد أمام أحد رفوف المكتبة ليضغط بسبابته على احد الكتب المتراصة في الصف العلوي، ليرفع الجدار الخالي مصدرا دويا مزعجا، الجدار الذي طالما تساءل "سيف" عن السبب الذي يجعل الجد رافضا لتثبيت رفوف إضافية به، ليظهر باب أخر زجاجي من النوع المضاد للرصاص مقبضه برونزي اللون عبارة عن رمز قطعة "الملك" في لعبة الشطرنج (الشاه). قبل أن يستوعب "سيف" الصدمة الأولى ها هو يتلقى صدمة ثانية أقوى من سابقتها. بمجرد أن عبرا الباب الزجاجي أغلق، و توقفت الهزات الأرضية و عاد كل شيء لحالته الطبيعية، أضيء النفق أمامهم ليصدم "سيف" للمرة الثالثة على التوالي؛ لقد كانوا أمام ممر جدرانه منقوشة بطلاسم أقل ما يقال عنها أنها غريبة، باعد بين شفتيه قليلا ينوي أن ينهال على جده بكل الأسئلة التي خطرت في باله حتى هذه اللحظة، لكن قبل أن ينطق بحرف واحد تكلم الحاج "مصطفى" بنبرة حازمة، فقد كان يعلم ما يدور بخلد حفيده:
  _ لا تسألني عن شيء، عندما يحين الوقت الذي أراه مناسبا سأجيبك عن كل تساؤلاتك، و إن كنت لا أستطيع الإجابة عنها كلها فبعضها لا أملك لها تفسيرا حتى يومنا هذا، لكن الأن علينا أن نسرع فلدينا عمل أهم نقوم به فالوقت يداهمنا، و بعدها أعدك أني سأرضي فضولك.
    تغيرت النظرة الحنونة التي كانت بعيون الحاج "مصطفى" قبل قليل لتحتل مكانها نظرة باردة، لا يستطيع الواقف أمامه الجزم بكنه الأفكار التي تجول بخاطره و التي يخفيها بقناع البرود، و هذا تماما ما يحدث مع "سيف"، لكنه التزم الصمت مرغما فنظرة جده له قبل قليل جعلته يدرك أنه لا مجال للمناقشة الأن.
      بعد سير طويل في ممر مستقيم- ظن "سيف" أنه لن ينتهي أبدا- توقفا أمام ساحة واسعة، جدرانها مزينة بقطع الفسيفساء المتراصة بانتظام لتشكل أحزمة من مربعات بنفس المقاس، على نمط متناوب من اللونين الأبيض و الأسود لتشكيل التباين البصري، محدب سقفها تزينه ثريا فاخرة في المنتصف ينعكس نور مصباحها الضخم على أحجار الكريستال التي تحيط بها ليتلاعب بريقها بعيني "سيف" الذي بدأ يجول ببصره متفحصا هذا المكان غير المألوف بالنسبة له، ليذهل من عدد الرفوف المصنوعة من خشب السبستان الفاره و التي تضم ما لانهاية له من الكتب و المخطوطات، كانت أضعاف مضاعفة من مكتبة جده، استقرت نظراته على الطاولة الخشبية المستطيلة مزخرفة من الجوانب بنقوش مطعمة بقطع دقيقة من النحاس، تلتف حولها ثمان كراس متناوبة بين السوداء منها و البيضاء كأنهم أحفاد تحلقوا حول جدهم لسماع قصة ما قبل النوم، جلس الجد على إحداها، أراد "سيف" الجلوس بجانب جده، لكن الحاج "مصطفى" نهره، مشيرا بيده نحو كرسي أسود مماثل للذي يجلس عليه جده:
_ مكانك ليس هنا، اجلس هناك. ثم أردف متهكما: لا تحاول الجلوس على أي من الكراسي البيضاء إن كنت لازلت ترغب بالحفاظ على حياتك لأطول وقت ممكن.
      استغرب "سيف" من تصرفات جده المريبة لكنه امتثل لأوامره، عادت ملامح الجد إلى الهدوء، كأنه ليس نفس الشخص صاحب الملامح المتجهمة منذ ثوان، انتفض "سيف" من مكانه على وقع صوت جده بعد أن كان غارقا في بحر تأملاته.
_ لم يعد لدي وقت كاف، سأحاول أن أطلعك على الأشياء المهمة التي ستكون بحاجة إلى معرفتها دون الدخول في تفاصيل الأحداث، و أمل ألا تخذلني ذاكرتي بعد كل هذه السنين فأنسى شيئا، كل ما سأطلبه منك ألا تقاطعني، و لا تسألني عن شيء، اتفقنا؟
     أومأ "سيف" برأسه إيجابا دليل على موافقته دون أن ينبس ببنت شفة، ابتسم الجد ابتسامة رضا و قال بعد أن تنهد بحزن:
  _ عندما كنت شابا، كانت تستهويني قصص الغموض، الإثارة، الرعب... و كان أبي- رحمه الله- عاشقا للقراءة، لا يفارق الكتاب يده، فكان له الفضل الكبير في جعلي أعشق المطالعة منذ سن صغيرة، تماما كما حدث معك، و كان "أدونيس" مسؤولا عن مكتبة أو الأجدر بي أن أقول دكان لبيع المخطوطات و الكتب العتيقة التي أكل عليها الدهر و شرب، مظهره كان أقرب إلى الكاهن منه إلى تاجر، عجوزا قصير القامة، أصلع الرأس، مقوس الظهر، كنت أراه كأحد الأقزام الهاربين من قصة "بيضاء الثلج"، اسمه "أدونيس"، هذا إن افترضنا أنه أخبرني باسمه الحقيقي، اسمه ليس بالأمر المهم على كل حال، كان مهووسا بكل ما له علاقة بالسحر، كانت أغلب أحاديثه تتمحور حول فكرة مركزية واحدة هي وجود عالم أخر غير الذي نعيش فيه، كنت أقضي ساعات طوال أتصفح المخطوطات و أقلب الكتب بين يدي ثم أرجعها إلى مكانها بعدم اهتمام، لم أكن شغوفا بهذا النوع من الكتب، بل لم تكن هذه المواضيع المتعلقة بالشعوذة تثير اهتمامي حتى، قد تتساءل عن السبب الذي يجعلني أقضي كل هاته المدة أتصفح الكتب دون جدوى عوض أن أستثمرها في شيء يعود علي بالنفع ، سأجيبك، لم تكن تهمني كتبه بقدر ما يغريني حديثه، لقد كان حديثه عن عالم ما قبل الحياة او ما بعد الموت ربما يطرب مسامعي، كأن كلماته كانت طلاسم سحر أسود تسلب لبي، رغم أنني لم أكن أفهم شيئا من حديثه الفلسفي، و مصطلحاته عسيرة الفهم، و لكن كان مجرد الاستماع إلى تلك القصص بصوته الاجش يسحرني. و في إحدى الأمسيات الممطرة، ذهبت إليه لأقوم بإعادة كتاب استعرته منه، رغم اني لم أقرأ منه كلمة واحدة، بل لم أفتحه حتى، و حتى عندما استعرته لم تكن لي نية بقراءته، السبب الوحيد الذي دفعني لأقوم بهذا التصرف الغبي- الذي سيكلفني الكثير فيما بعد- هو عدم رغبتي بالظهور بصورة الشاب غريب الأطوار، و خصوصا أمام ذلك العجوز الأحمق، بعد خطوتين توقفت أمام باب حديدي تآكل بفعل الصدأ، طرقت الباب ثم دخلت فاتحا إياه ليصدر صريرا يصم الأذان، لمحته جالسا على كرسيه يطالع كتابا ما، و لكن شيئا ما جعل الرعب يغزو أطرافي حيال ابتسامة الخبث المرسومة على شفتيه الغليظتين، و ما إن خطوت خطوة نحوه، كان التيار الكهربائي قد انقطع، و سمعت صوت الباب يصفق كأن هناك من دفعه، تسمرت مكاني عاجزا عن القيام بأي ردة فعل، احسست بأطرافي ترتعش من شدة الخوف، أو قد يكون سبب ارتعاشي هول الصدمة، لا أعلم لماذا أحسست بأن هناك من يراقبني، لم تكد تمر دقائق قليلة حتى سطع نور المصباح الباهت مجددا كما لو كان ما مررت به قبل قليل مجرد وهم، و لكن ما لم أقوى على تصديقه هو اختفاء الرجل الغريب، أردت مغادرة المكان لكنني تعثرت بشيء صلب، كان نفس الكتاب الذي كان بين يدي "أدونيس" منذ ثوان مضت، أمسكته بيدين مرتعشتين لأرى رمز الشاه يتوسط غلافه.
      توقف قليلا يحاول التقاط أنفاسه، و نظر إلى "سيف" كأنه يحاول اكتشاف ما يجول بخاطره، ابتسم غصبا عنه حين رأى ملامح الصدمة التي غزت تضاريس وجهه، و أردف:
_ نعم، نفس الرمز الذي لفت انتباهك عندما عبرنا الباب الزجاجي، لا تنضر إلي هكذا، أعلم أنك دقيق الملاحظة، إضافة الى أنني أتقن علم الفراسة، ربما علمتك كل ما تجيده لكني لم أعلمك كل ما أجيده، لنعد إلى موضوعنا، لأنهم قادمون إلي...
      لم يستطع "سيف" مواصلة صمته، تعب من تقمص شخصية الحفيد المطيع، فقاطع جده قائلا:
_ من هم هؤلاء الذين تتحدث عنهم؟ بل أين نحن الأن؟ و ما الذي نفعله في هذا المكان؟
   رفع الحاج "مصطفى" كفه أمام وجه "سيف" مقاطعا سيل أسئلته اللامتناهية التي اطلق لها العنان، و قال بنبرة صارمة:
_ هل سبق و أن أخبرتك أنك عديم الصبر حقا؟ قلت لك لا تقاطعني، كل دقيقة تمر سدى لن تكون في صالحك، أين توقفنا؟ أه، صحيح رمز الشاه، و بعد ان وقعت عيناي على الرمز أحسست بأنفاس حارقة تضرب عنقي، وصوت كفحيح الأفعى يهمس في اذني "بما أن الكتاب استقر بين يديك، فستكون مضطرا للتضحية بالغالي و النفيس من أجل حمايته"، لم أكن أملك الجرأة كي أستدير لأتعرف على هوية صاحب الصوت، فالصدمة جمدت أطرافي، و بعدها عم الصمت المكان، و اختفت الأنفاس الساخنة التي كانت تلفح بشرتي، خرجت من ذلك المكان اللعين أهرول حتى انقطعت أنفاسي. دخلت غرفتي، لم أعد أذكر عدد المرات التي تعثرت فيها و أنا أصعد الدرج، أغلقت الباب خلفي، ثم جلست أحاول التقاط أنفاسي، أمسكت الكتاب أتأمل غلافه الذي كان كرقعة الشطرنج تماما يتوسطها رمز الملك البرونزي، حاولت فتحه لكنني فشلت، كأن الكتاب كان يأبى ذلك، و بعد ذلك اختفى كل شيء أمامي و سقطت في ظلام حالك، لا أعلم إن كنت فقدت الوعي من شدة الخوف أم غفوت جراء الإرهاق و التعب؛ استيقظت لأجد نفسي مستلق على الأرض، في نفس المكان الذي كنت جالسا به أمس...
      قاطعه "سيف"، عاجزا عن التحكم في فضوله لمعرفة نهاية هذه القصة، التي و إن كان لا يصدقها، إلا أن نزعة حب المعرفة بداخله تسيطر على أفعاله أحيانا:
_ و ماذا حدث للكتاب؟ هل اختفى؟
     أجاب الجد ممتعضا من مقاطعة حفيده له للمرة الثانية:
_ وجدته بجانبي، حاولت فتحه عشرات المرات لكن كل محاولاتي باءت بالفشل، أخفيت الكتاب بين كومة ملابسي داخل الدولاب، و نزلت للأسفل لعلني أجد تفسيرا منطقيا لما حدث معي أمس، وجدت أبي على مائدة الإفطار يطالع الجريدة كعادته، و أنا أتناول الفطور أخبرته أنني أرغب في استعارة كتاب من أحد باعة الكتب، و صفت له موقع الدكان و مواصفات صاحبه، فنزع نظاراته و وضع الجريدة على المائدة، ليرمقني بنظرة مستغربة و يخبرني الخبر الذي نزل علي كالصاعقة أنه لا وجود لمكتبة في تلك المنطقة بل لا وجود ل"أدونيس" هذا، كان هذا الكلام الذي تلفظ به أبي أقوى من قدرتي على الاستيعاب، عدت إلى غرفتي بنظرات زائغة كمن ذهب إلى الجحيم و عاد ناجيا، تاركا أبي في حيرته تطوقه علامات الاستفهام عن سبب تصرفاتي التي بدت له مصدر ارتياب، لأصعق مرة أخرى على منظر الكتاب مفتوحا على مصراعيه تتقلب صفحاته كأن هناك أصابع محترفة تتلاعب بها...
     ضحكة رجولية ساخرة تردد صداها في أنحاء القاعة قطعت أحداث قصة الجد، و جعلته يتوقف عن سردها، بعد ان استمع "سيف" لعبارة جده الأخيرة لم يستطع كتم صوت ضحكته و قال بنبرة لمح بها الجد بعض السخرية:
_ أنا أسف يا جدي، لكن أنا أتنبأ لك بمستقبل زاهر في ميدان الكتابة، ستكون كاتب قصص خيالية رائعا، لا تقل لي أنك أحضرتنا إلى هنا لتحكي لي أسطورة الجدات هذه و تتوقع مني أن أصدقها، ما عدت ذلك الفتى المراهق الذي يخشى النوم وحده في الظلام خوفا من ظهور العفاريت ليلا...
    توقف عن الكلام عندما رأى زوجا من العيون الغاضبة المصوبة نحوه تكاد تفتك به:
_ كف عن سخريتك يا "سيف"، فالأمر أخطر مما تتوقع، انتظر حتى تفهم كل شيء.
_ و من أخبرك بأني أريد أن أفهم، أرجوك يا جدي دعنا نغادر هذا المكان.
     نهض من مقعده عازما على مغادرة هذا المكان الذي سيصيبه بالجنون إن استمر بالمكوث فيه لوقت إضافي، لكن عبارة جده الأخيرة كانت بمثابة الصفعة التي انهالت على خده فجعلت أوصاله ترتعد:
_ الأمر له علاقة وثيقة باختفاء والديك يا "سيف"، أن الأوان لتعرف سبب اختفائهما.
       على اثر الكلمة الأخيرة تسارعت دقات قلبه إلى أن شعر بها أعلى عنقه وصوتها يكاد يصم أذنيه، ازدرد ريقه بصعوبة وكأن ألاف الأشواك تحتل حلقه، و تكلم بصوت متحشرج كأنه على حافة الاحتضار:
_ اختفاء؟ لكنهما توفيا منذ 25 سنة.
_ هذا ما تظنه أنت، أو يجدر بي القول أن هذا ما أخبرتك أنا إياه، لكن الحقيقة غير ذلك تماما.
       أحس "سيف" بالدوار يجتاح رأسه، لقد انهالت عليه الصدمات واحدة تلو الأخرى تضرب قلبه كصواعق الموت، يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة كأن روحه تكاد تنفلت من بين جنبيه، لم ينتشله من شروده سوى صوت جده:
_ أعلم أن هذا يفوق قدرتك على الاستيعاب، وهذا ما حدث معي من قبل، لكن لا سبيل للهروب من المواجهة، هذه معركتك و عليك أن تخوضها.
_ مواجهة؟ معركة؟
_ اجلس مكانك، فلم يعد لدي من الوقت إلا القليل.
     عاد "سيف" إلى مكانه السابق متجهم الوجه، في حين أكمل الجد سرد حكايته التي اعتبرها "سيف" مخالفة لكل قواعد المنطق، و لا يمكن لأي إنسان بكامل قواه العقلية أن يصدقها:
_ توقف الكتاب على الصفحة الأولى لأجد بضع سطور مخطوطة باليد بلون أحمر دموي لم أدرك كنهها، بل لم أكن أعلم حتى أي اللغات تلك، أمسكت الكتاب بين يدي أقلب صفحاتها بلهفة على أمل أن أجد شيئا يشرح الجمل السابقة أو حتى رسوم تعبيرية، لكن سرعان ما تلاشى هذا الأمل لما وجدت باقي الصفحات فارغة، بعد بحث طويل عرفت أن تلك اللغة هي اللغة الرومانية القديمة، ظللت طوال سنة كاملة أتفقد الكتاب يوميا لأجد الصفحات تملأ يوما بعد يوم، لم أكن أفهم منها شيئا، بل أكثر من ذلك لم أكن أستطيع تهجئتها بشكل صحيح، كما أن ترجمتها تحتاج مجهودا خياليا، و لن يستغرق مني هذا الأمر أسبوع، شهر ولا حتى سنة، ربما لو كنا نمتلك الوسائل التي تمتلكونها في عصركم هذا، عصر التكنولوجيا كانت الأمور لتكون أسهل، بعدها احتفظت بالكتاب أخفيه عن أعين الجميع، و كان أول من أبوح له بسري هذا، والدك بعد أن اشتد عوده و صار شابا يستطيع مواجهة مصاعب الحياة، و بمساعدته استطعنا معا ترجمة بعض من فقراته و إن كانت لم تطلعنا سوى عن الفكرة العامة التي يدور حولها مضمون الكتاب...
_ ماذا كان مضمونها؟
        نهض الجد من مكانه، متجها إلى أحد الرفوف كأنه كان يتوقع سؤال "سيف" المفاجئ، هذا الأخير الذي لا يزال عقله عاجزا عن تقبل هذه القصة التي بدت له لوهلة تشبه إلى حد ما قصص الخيال التي كان يحكي له إياها قبل النوم عندما كان يدرس في المرحلة الابتدائية. بينما "سيف" مبحر بدون قارب في محيط أفكاره و تساؤلاته كان الجد قد أخرج من أحد الرفوف مجموعة من الأوراق اصفرت أطرافها بعامل الزمن، دفع بها ناحية "سيف" الذي كان مسندا مرفقيه إلى الطاولة ممسكا برأسه بين كفيه كأن حركته تلك ستحبس تيارات الحيرة عن دماغه أو تحميه من الجنون، أمسك بتلك الأوراق و التي أظهرت بوضوح ارتعاش كفيه، و بدأ يلتهم الأسطر التهاما، يجول ببصره من كلمة لأخرى، و من سطر لأخر، لتتسع عينيه على وسعهما حتى استحالتا عيني بومة، من يرى تعابير الفزع البادية على ملامحه سيقسم أنه على وشك رؤية ملك الموت يقبض أرواح البشر.
      ظل الجد يراقب ردة فعل حفيده بنظرات جامدة لا تنم عن أي مشاعر، و ملامح تخلو من أي تعبير، في حين انتهى "سيف" من قراءة تلك الكومة من الأوراق المتناثرة فاجتاحته نوبة هستيرية من الضحك؛ قد يكون وقع الصدمة في قلوبنا أقوى مما قد نتحمل لدرجة أننا لا نجد التعبير الملائم لوصف مشاعرنا في تلك اللحظة بشكل دقيق، قد نضحك في مواقف تتطلب البكاء، و العكس صحيح كذلك، بل قد نضحك و نبكي في أن واحد، و هذا حرفيا ما يحدث الأن مع دكتورنا الشاب، انتهى "سيف" من نوبة الضحك الهستيري التي انتابته لتتحول ملامحه للغضب العارم و تحدث بعصبية لم يفلح في إخفائها:
_ أخبرني أنك تمزح يا جدي، أخبرني أن هذه كذبة "أبريل" رغم أننا في أوائل شهر "يونيو"، أرجوك يا جدي قل شيئا، لا تتركني فريسة للشكوك التي تنهش عقلي، أخبرني أن الاستنتاجات التي تتصادم الأن في ذهني غير صحيح.
     ظل الجد محافظا على هدوءه- على الأقل ظاهريا- عكس "سيف" الذي بدا الانفعال ينال منه مبتغاه:
_ اهدأ يا "سيف" أرجوك.
_ أنت تمزح معي يا جدي، أليس كذلك؟ أنا لا أطلب منك شيئا صعبا، لا أطلب منك سوى دليل واحد يثبت صحة كلامك، دليل واحد يجعلني أبعد عن ذهني فكرة أن إحدى القصص الخيالية قد أثرت في عقلك.
_ و هل تظنني أكذب عليك؟
_ إذا أخبرني بربك ما لدليل على وجود مملكة تدعى "ريكاتول شاهولوي"، أنا بحاجة إلى دليل ملموس يجعلني أقتنع بفكرة وجود مملكة موقعها مجهول، ولا توجد على أي خريطة للكرة الأرضية؟ لم تذكر في أي من كتب التاريخ من قبل، لابد من دليل قوي لأصدق أن والدي ذهب إلى مملكة خارج نطاقي الزمن و المكان.
    ثم أضاف بتهكم:
_ و باستعمال وسيلة نقل ليست بطائرة و لا باخرة بل اختفى بين طبقات الهواء بعد أن ردد تعويذة غريبة، يا إلهي ما هذا الجنون.
_ أبوك لم يذهب بمفرده، بل اصطحب والدتك برفقته، كان يعتقد حد اليقين أنهم ذاهبون في رحلة قصيرة لقضاء وقت ممتع ثم يعودون، لو كانوا ذاهبين في رحلة استكشافية إلى "فينيسيا"ـ كما أخبرتك ـ لأخذوك معهم تماما كما أخذوك إلى "نيويورك" و أنت لم تتجاوز ربيعك الثالث، أخبرني أنهما سيعودان بعد أيام، لكن الأيام صارت أسابيع، و الأسابيع صارت أشهر، و مرت السنين و لم يعودا بعد، و الجميع اقتنع بقصة تحطم الطائرة بمن فيهم أنت نفسك.
_ هذا يعني أنهما لم يركبا على متن تلك الطائرة.
_ ليس تماما، الأمر معقد قليلا، كان لابد من ارتفاع شاهق لتتحقق المسألة، و لهذا تم العثور على 80 جثة بدلا من 82، لأن أبواك فعلا كانا على متن تلك الطائرة المتجهة نحو مطار "البندقية" بإيطاليا، لكنهما انتقلا إلى "ريكاتول شاهولوي" قبل تحطم الطائرة، وليس من المستبعد أن يكون هذا الانتقال سببا مباشرا في سقوط الطائرة.
_ لماذا هذه الطائرة بالضبط، أعني هل كان سينجح الأمر مثلا على متن طائرة متجهة نحو ألمانيا أو روسيا؟
_ لا لم يكن الأمر لينجح، الانتقال إلى هذه المملكة لا يكون إلا بشروط.
_ لازلت عاجزا عن استيعاب الأمر، و ما دور الارتفاع في هذا كله؟ بل ما الذي يجعله يغامر و يذهب إلى تلك المملكة؟
_ قد يبدو لك الأمر غريبا و لكن...
قاطعه "سيف" باستهزاء:
_ كأن ما قلته لي سابقا لم يكن غريبا أبدا لتحتاج الأمور للمزيد من الغرابة.
_ توقف عن مقاطعتي يا "سيف" فقد بدأت تثير أعصابي، كما قلت لك لا أملك تفسيرا لكل شيء ربما لو كان والدك بيننا كانت المسألة لتتضح لك أكثر، لكنني أظن السبب هو الموقع الجغرافي.
_ تتحدث يا جدي و كأن لهذه المملكة موقع جغرافي من الأساس.
    تجاهل الحاج "مصطفى" عبارة ابنه الأخيرة، و هم بمتابعة حديثه، لكنه توقف فجأة لتزيغ نظراته، و تثقل أنفاسه، لاحظ "سيف" صدر جده الذي يعلو و يهبط كي يلتقط أنفاسه بصعوبة، ليصدم أكثر من منظر الدماء التي تخرج من فم جده الذي تحدث بصوت متهدج بطيء:
_ ابحث عن والداك يا "سيف"، هذه أمنيتي الأخيرة، لكن توخى الحذر، فرغم أسر الملك لن تنتهي اللعبة...
    ليلفظ الجد أخر أنفاسه تحت نظرات "سيف"، الذي ما إن زال أثر الصدمة حتى نهض دافعا بالكرسي الأسود ليسقط ثم يعود مكانه كأن هناك من أعاده، لكن "سيف" لم يكن بحال تسمح له بملاحظة ذلك؛ انحنى يتحسس نبض جده واضعا اصبعيه السبابة و الوسطى على رقبته و معصمه ليجد أن لا أمل في إنقاذه، لقد توفي أخر فرد من أسرته؛ يضرب بكفه على وجنتي جده بخفة على أمل أن يفتح عينيه، ظلت عبارته الأخيرة تتردد على مسامعه و كأن جده يتواجد داخل خلايا عقله يكررها دون كلل أو ملل " ابحث عن والديك يا "سيف"... ابحث عن والديك يا "سيف"..."، أغلق أذنيه بكلتا يديه يحرك رأسه يمينا و يسارا ينفض هذا الصوت من داخله، خر على ركبتيه ساجدا، يلهث بأنفاس متهدجة، وصدره يعلو و يهبط، تشكلت قطرات العرق على جبينه لتلتصق به بعض من خصلات شعره، و انتفخت عروق عنقه، رفع ذراعه يحاول النهوض لكن قواه لم تسعفه، لتسقط يده بجانبه فينهار المتبقي من قواه ليستسلم للظلام الذي التقطه يحتضنه بكلتا ذراعيه، هاربا من واقع لم يقوى على معايشته.
            ₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩₩
قولولي
من متحمس يعرف كيف راح يسافر "سيف" للملكة؟
و ليه مات جده بهالطريقة ؟
جهزوا نفسكم للصدمات، من الفصل هذا راح يتغير كل شي
أحبببببببببكم ♡
عايزة تفاعل و تعليقات لو عجبتكم الرواية

قطعة شطرنج ناقصة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن