داخِل صندوق.

445 38 272
                                    

بسم الله الرّحمن الرّحيم.

المَكانُ كان ضيّقًا، حتّى بالنّسبةِ لحجمها الضّئيل، فبدت -وهي تجاهد في إبقاء أقدامها على ذات الوضعيّة- شبيهةً بالخيارِ في برطمان المخلّل، والّذي لطالما ودّت لو تجرّبه، لكنّ يدها مع الأسف لم تكن تطاله، وبدنها الهشّ ما كان ليقدر على حمل السّلّم لتصله.

كما لم تُحسنُ شرحَ ما ترغب به عن طريق أيديها فقط حتّى تطلب من أحدٍ أن يناولها إيّاه، وحنجرتها لا تُصدر إلّا حشرجةً تكون أشبه بصرير الطّبشور على اللّوح في المدرسة.

تكره بشدّةٍ ذلك الصّوت المقيت، وتشعر أنّه ينخرُ عظامها، ويحاول انتزاع حلقها، يؤلمها سماعه هو وأشباهه بشدّة؛ لذا عمدت للاختباء في الخزانة عندما يحين وقت حصّة اللّغة، حيث أنّ أستاذتها ما كانت تدّخر جهدًا في الضّغط على الطّبشور حتّى يتفتّت، وكانت بعد كلّ سطرين تكتبهما تحتاج إلى قلمِ طبشورٍ جديد لتستمِرّ في عزف ذات السّمفونيّة لثلاثين دقيقةً كاملة، والرّهيب هو أنّ إدارةَ المدرسة لم يحدث أن نبّهتها قطّ حول هذه المشكلة، أليس ما تفعله إهدارًا؟ وهم الّذين يدفعون لصندوق المدرسة لتأتيَ هي وتنفق كلّ ما فيه على الطّبشور!

كان جلّ ما تبقّى على انتهاء الحصّة خمس دقائق، شعرت بروحها ترتكزُ قرب عروق وجهها الّتي كانت تنبض بشكلٍ محسوس لاحتقان الدّم فيها؛ فهي تجلس رأسًا على عقب، وتكاد تختنق لولا الشّرخ في طرف الخزانة السّفليّ، أحدثته رغبةً منها إدخال هواء يكفي الهرّة السّاكنة في الدّاخل، والتي قدمت مهاجرةً من ساحة المدرسة المعبّدة بالثّلوج.

دون أن تَعي، سهت عن كون ما يزيد عن عشر دقائق كانت قد مرّت بالفعل ريثما تسرحُ في رباطِ حذائها المنحلّ، ولم تدرك أنّ الفصل قد فَرُغ؛ لكون صوت الطّبشور وصريره كانا ما يزالان يصلانها بين الفينة والأخرى.

تسلّل لمسمعها صوتٌ ينذر بوجوب الاحتفال عادةً، رنين الجرس، أطرقت تنتظر سماع صوت الصّراخ المحتفي بذلك، والمناوشات، التّدافع، وأصوات الخطوات الثّقيلة الّتي تضرب الأرض حتّى تشعر بها تهتزّ من تحتك، كان ذلك كلّه يؤنسها إلى حين خروجها من الخِزانة.

لا أحدَ يلحظُها إذا ما غابت، أو حضرت، جعلتها حالتها تلك غايةً في الحبور فأذناها سليمتان ستبقيان! هي تدرك أنها أشبه بالإكسسوار الّذي تعلّقه جارتها في المقعد على سحاب حقيبتها، ليست محسوسة، تخيل أن تكون إنسيّا أثره -لشدّة ضآلته- لا يصل لأثر نسمة عابرةٍ على غصن، أمثل هذا يُسعدُ؟ كان جوابها على ذا أن: أجل، يفعل.

لسببٍ لم تدركه، المكان كان يضيق أكثر، وركبتاها راحتا تضغطان على أضلاعها، ورغم أنّه الشّتاء والصقيع ينخر لبّ كلّ شيءٍ؛ إلّا أنها كانت تشعر بحرارةٍ شديدة، وتتعرّق، تنفّسها يضيق والفتحة بدأت تزهد في إدخالها الأكسجين، ما عاد الحبورُ في نفسها، بل طار وكأنّما هو محض غشاءٍ رقيقٍ تصهره الحرارة ويفتّته ضغط الهواء.

تَلِجُهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن