فلامنچو - محمد فطومي

59 3 0
                                    

بت أؤمن منذ سنوات أنه من النادر أن يقع الفرد منا على رواية عربية معاصرة ترج عقله رجا وتغرق به في أبعاد موازية للتفكير المختلف العميق، رواية تفرض قواعدها على قارئها وتزج به قصرا في عوالمها، تخرج بنا عن المألوف الرتيب وتحررنا خطوة للأمام

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.


بت أؤمن منذ سنوات أنه من النادر أن يقع الفرد منا على رواية عربية معاصرة ترج عقله رجا وتغرق به في أبعاد موازية للتفكير المختلف العميق، رواية تفرض قواعدها على قارئها وتزج به قصرا في عوالمها، تخرج بنا عن المألوف الرتيب وتحررنا خطوة للأمام. "فلامنچو" للكاتب الذي أؤمن به بشدة "محمد فطومي" إحدى تلك الأعمال العربية النادرة التي لابد لأي قارئ نهم يبحث عن القيمة في كل ما يقرأ أن يمرّ بها.

تقع أحداث الرواية في "شومر" العظيمة، يروق لي أن أسميها المدينة المخبرية، مدينة باردة الروح ومهجورة، شاحبة، مترهلة، يتم اعتمادها في خضم تجربة علمية غامضة وغريبة جدا. يسكنها أناس لا يعلمون كيف ولما تم إحضارهم إليها، لقد جاؤوا دون اختيار ووجدوا كل ما يستحقونه ليبقوا على قيد الحياة يقدم لهم مجانا. روتين قاتل وعشوائية لا مثيل لها تجعل الجميع متأهبا ومتحضرا كي تنصرف الطاقة الإنسانية غير المستغلة نحو العنف. في غياب العقل، في غياب تطوير الإبداع وإنتاج القيمة يفقد الإنسان كل ما يميزه عن باقي الكائنات فتغزو الغريزة دفة القيادة ويقع رويدا في الحيواني أين تصير القوة البدنية القيمة الوحيدة المتاحة ويصير العنف دين البقاء الوحيد. إما أن ينصرف العالم نحو مصيره القاتم أو أن يحدث شيء يغير مساره وهذا "الشيء هو ظهور "ران" في الرواية، أفضل أن أناديه ب"نار" رمزا للشرارة الأولى التي يحتاجها الوجود دائما كي يعيد تصنيع نفسه.

ظهور الرجل القائد الذي يقرر تغيير المسار نحو تنظيم الوجود العبثي وتقديم دافع قيم للإنسان يصرف نحوه طاقاته وذكاءه ليخلق حياة يستطيع تطويرها وصقلها في كل مرة مبتعدا خطوة عن الهمجية غير العاقلة. نشاهد بدقة كيف ينشأ ويتفاعل القائد وسط محيطه، نشاهد المراحل الأساسية التي لابد أن يمر منها كل مؤثر ومغير كي يخلق فرقا، بداية من احتواء القطيع مراعيا الفوارق المختلفة عبر اعتماد أساليب تليق بكل ذات ومنظور، مرورا باستغلال القدرات استغلالا حكيما ووضع كل فرد في موقعه الصحيح من المحرك العظيم الذي يتم بناؤه ليضخ روحا في شرايين المدينة، وفقط حين تصير البنية البشرية التي تمثل القاعدة الأساسية متينة مستعدة ينطلق التخطيط متبوعا بالإنجاز فتنبعث روح الحياة دون توقف ومع استمراريتها ومع تدعيمها بالقواعد والقوانين التي تضبطها في حدود دقيقة صحية وتعزيز كل هذا بتوارث المعرفة وتطويرها جيلا بعد آخر تستقل إرادة هذه الحياة بنفسها لتسيطر بعفوية لا تحتاج تدخلا على استمراريتها وتفاقمها الذاتي ويلتهم الإدراك العنف... هكذا حتى الصدمة التالية التي قد تهشم كل شيء.

رمزيات كثيرة تغمر هذه الرواية تسحبنا للتفكير عميقا في كل البديهيات، البديهيات التي ولدنا فطريا نظن أنه ما يجب أن تكون عليه الحياة دون التفكير في نشأتها وبداياتها، كالزمن وقيمته والوقت ومقاساته وتأسيس الثروة والاقتصاد ومن أين انطلق وصناعة الإبداع من المتاح كيف توالدت ونزعة الفرد في حفظ نفسه خالدا في وجوده الغامض المؤقت عبر وسائل شتى نسمي بعضها اليوم بالفن وانبثاقها العجيب من فكرة محدودية هذا الوجود قبل أن نُرفع نحو فلامنچو والمسلمات التي تمنح الدين قيمته وبعده الروحي العميق في لعبه دور الأحجية التي تمنح لغير المعلوم تفسيرا قد يكون مقنعا كي يحتمل الفرد وجوده غير الواضحة دوافعه ومصيره غير المفهوم مآله.

أرى عبقرية هذا العمل المجنون تحديدا في لعبه دور النموذج الذي يمكن إسقاطه على كل شيء فيه دورة حياة تطورية. إنه كالكرة البلورية للسحرة التي يمكن أن تريك إذا فكرت من هذا المنحنى نبذة تاريخية خاطفة عن مفهوم الوجود الإنساني ومراحل تطوره عبر الزمن بداية من الإنسان الأول حتى الإنسان الأخير، لابد أن ما حدث في شومر قد حدث عدة مرات كي يبلغ الإنسان هذه المرحلة المتقدمة من وجوده. وقد يمكن إسقاطه على المسار البديهي الذي تتخذه الحضارات كي تؤسس نفسها وتتضخم وتتضخم وتتضخم حتى تنفجر، على المؤسسات التي تنشأ من فكرة تسوقها إلى قيمة أو الأديان المنبثقة من رسالة نبي مصطفى يسوق مسار الحياة لمنحنى منظم مختلف حد تفاقمه فتناثره أو الإنسان نفسه في رحلة تكوينه وتطويره لنفسه متبعا إملاءات الإرادة كي يمنح تعريفا وبصمة لهذا الوجود العشوائي الذي وقع داخله قبل أن ينزلق في قبضة الفلامنچو... وهكذا وعبر كل إسقاط جديد لهذا النموذج فإنك تفكر وتفكر وتحلل المتاح عبر قواعد متدرجة وأدوات اكتسبتها عبر هذه المغامرة المكتوبة لتجدد المفاهيم نفسها في مخيلتك وتكتسب المعاني وزنا وثقلا جديدين.

يا لها من رقصة مدهشة هذه الرواية، تقذفك عن نفسك بعيدا جدا ثم بخطوة واحدة تسحبك مجددا إلى الخلف لتشاهد بدهشة بالغة الزوايا الماضية بعينين

جديدتين تماما... كأنها فقط بعض خطوات خاطفة من الفلامنچو.

أشكر الكاتب الذي لا أجد له وصفا هذه المرة من أجل هذه التجربة وهذه الفرصة للسفر داخل مخيلته وطوبى مجددا لدار زينب للنشر أن تولد من رحمها أعمال كهذه.

25/10/2022

أرض الورقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن