الجزء الأول: الصقر الجارح

294 30 53
                                    

أتعلم أن حياة الإنسان تقليدية ومملة؟ إنها أشبه بدورة حياة دودةٍ ما لا أذكر اسمها لعدم أهميتها، مثل حياة بعض البشر؛ ولأنك ستتجاهل قراءة اسمها العلمي، لم أتعب نفسي بالبحث عنها، لنكن صُرحاءً معًا.

كذلك كانت حياة والده، لا قيمة لها، إنها حتى لم ترتقِ إلى روتينية البشر العاديين، يفنون أعمارهم في البحث عن المعادن النفيسة؛ ليتمتعوا بها، ومن ثَم يورِّثونها لنسلهم الذي لن تسد هذه الكمية الضئيلة رمقه الجَشِع.

كان يركض خلف هذه المعادن أيضًا، لكنه لم يجنِ شيئًا سوى قطعة قصدير طرقها وشكلها لتكون صندوق رسائل بريدية، رغم أن ابنه الأكبر أخبره أنه لم يعد هناك من يستعمل وسيلة التواصل هذه، نحن في العام الثامن عشر بعد الألفين!

لقد توفي عم سعيد يا والدي، ولن تجد رسائل منه بعد الآن، وأجل هو لن يأتي ليلاعبك الشطرنج على القهوة.

لكنه آنذاك افتعل معه مشكلةً بسبب نبرته التهكمية التي تبطن في معناها رميٌّ بالخرف والجنون.

ها هي أصبحت تربة خصبة تنبعث من فتحاتها المتهالكة أعشابٌ مجهولة المصدر، مرشوشة بنترات من الصدأ إثر ظفرها من معركة نزع بعض منه أثناء رحلتها المرهقة للنتوء خارجًا.

«ألم أخبرك عدة مرات أن تنزع هذا الشيء الغريب؟ إنه يجلب لنا الفئران من نافذة المطبخ!»
وبخته أمه بينما كانت تفرك كفيها بعنف بالاستعانة بقطعة ملابس القديمة متهاكلة معلقة على مقبض الفرن المستوي، عوضًا عن شراء منشفة للمطبخ؛ لأنها باهظة الثمن بالنسبة إلى وِجهة نظرها.

«لكنه يا أمي من صنع والدي، كما أنها على هذا الحال منذ سنتين، لقد أصبحت من أَثرِّه.»

«لو كان هنا لنزعها إن زارتنا الفئران تلك الزيارة غير المرحب بها.»

جعَّد الشاب شفتيه ساخِطًا على ما سيفعله؛ فسار يفرغ غيظه على هيئة دبيبٍ يفش به غيظه على الأرض.

حاول فتح الصندوق بأنامله، لكنه بدا ككتلة واحدة متماسكة، فأصر على فتحها أكثر وشد طرفه بعنف داعمًا شده بأطراف أصابع يده الأخرى.

حتى انفتح بقوة، مارًّا بضراوة على إصبع الفتى مُخَلفًا جرحًا عميقًا تنهمر منه قطرات الدم.

جيد، حجة مناسبة لتأجيل عملية استئصال شيءٍ من أثر المرحوم.

ثم وقعت أمامه ورقة بيضاء، فتناولها سريعًا، ولا إراديًّا ضغط به على إصبعه، ليتخلل دمه كلماتٍ معدودة كُتبت على الورقة كانت:
«اعثر على اللاكوتا».

لكنه لم يأبه لما دُوِّن بها من شدة الألم الذي باغته، ولم يهتم بالأتربة التي أدخلها إلى الجرح، كل ما أراده هو شيء يسد به فوران الدماء ريثما يجد لفافات القطن.

وعلى الجانب الآخر، هناك عيون جاحظة ترصد كل حركاته العفوية وتتوعده بالعقاب بعد أن خرق قوانينهم، لكنهم عادلون، لن يؤذوه قبل أن يرسلوا له نذيرًا.

اللاكوتاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن