Part 3

643 24 1
                                    

كانت كلّ أمتعتنا موضوعة على الأرض ، وهي لا تتجاوز ثلاثة صناديق شاي صغيرة وحقيبة. كثيراً ما رأيتها خلال العشر سنوات اللاحقة تحزم وتحلّ إلى أن صارت في عيني رمزاً للخيبة. لكنّني رأيت فيها تلك المرّة ، وأنا لا ازال في الخامسة من العمر ، بداية مغامرة كبرى . دقّت أمي عشية السفر بانتشاء آخر مسمار في الصندوق الثالث ، ولمّا وصلت الشاحنة الصغيرة ، انطلقت رحلتنا.
كان أبي قد سافر إلى إيرلندا الشمالية قبل ذلك بأسابيع لكي يبحث عن سكن مناسب ، ثمّ طلب منّا أخيراً أن نلحق به. وصلتنا رسالته التي طالما انتظرناها قبل ذلك بأسبوع ، وتلت عليّ أمي مقاطع منها. قالت بنبرة متحمسة إنّه عثر لنا على بيت في الريف ، لكن علينا قبل ذلك أن نزور عائلته المتشوّقة للقائنا . سنمكُث عندهم أسبوعين تقريبًا ريثما يصل الأثاث والمتاع ، عندئذٍ يمكن أن ننتقل إلى بيتنا الجديد.
لم تكن أمّي تتعب من ترديد أن إيرلندا ستروقني ، وأنّ المقام هناك سيكون طيباً ، وأن عائلتي الجديدة ستعجبني. وكانت تتحدّث عن مشاريعها بحماس. تقول إنتا سنعيش في الريف ، وسننشئ مزرعة دواجن ، ونزرع مانحتاجه من خضر. كانت أحاديثها تذكّرني بكتاكيت بطاقات عيد الفصح الصفراء. وسرعان ما صار حماسي أكبر من حماسها. كنت أنصت باهتمام للمقاطع التي تقرأ لي من رسالة والدي. تحدّث فيها عن أبناء عمّي وعن البيت الريفي ، وأفصح عن مدى شوقه إلينا. وقد تسلّلت سعادة أمي وهي تصف الحياة الرغدة التي تنتظرنا إلى نفسي.
حملت الشاحنة الصغيرة أثاثنا وأمتعتنا. تأمَّلتُ الغرف الفارغة وقد انتابني مشاعر متداخلة: كنت متوجّسة من مغادرة هذا العالم المألوف ، لكنّني متلهّفة لاكتشاف بلدي الجديد.
تناولت أمّي بعض الأمتعة الخفيفة ، وأوثقتُ أنا رباط جودي. ينتظرنا سفر سيدوم أربعاً وعشرين ساعة . كان الأمر بالنسبة إليّ مغامرة ، لكنّه كان بلا ريب محنة قاسية لأمّي . لم يكن مطلوبًا منها مراقبتي ومراقبة الحقائب فحسب ، بل كان عليها أيضًا أن تنتبه لجودي التي صارت كلبة مشاغبة.
حملتنا حافلة إلى محطة القطار التي تزينها أصص الزهور ، ويعمل فيها حمالون طيبون. ركبنا قطاراً إلى ميدلاندس ، ثم آخر إلى كرو. كنت أنظر من المقطورة إلى سحب البخار المنبعثة من القاطرة وأنصت إلى قعقعة العجلات المنتظمة ، التي بدت كما لو أنها تردِّد : «نحن ذاهبون إلى إيرلندا الشمالية ، نحن ذاهبون إلى إيرلندا الشمالية».
وجدتُ صعوبة في لزوم مكاني ، لكن الإثارة لم تسدّ شهيّتي. لم تكن أمي تحبذ النفقات التي لا لزوم لها ، لذلك أعدّت لنا ما نحتاجه من أكل خلال الرحلة. أزلت الورق المشمّع البني الذي يلفّ عدداً من ساندويشات لحم البقر المملح وبيضة قشرتها وأنا أنظر عبر النافذة. وختمت غذائي بتفّاحة بينما راحت أمي تسكب لنفسها فنجان شاي . كانت قد وضعت في علبة أخرى بقايا طعام لجودي ، وقنينة ماء ووعاء بلاستيكياً. أتت الكلبة على طعامها بكامله ، ولحست أصابعي على سبيل الشكر ، ثمّ تكومت عند قدمي ونامت. وبعد أن فرغنا من الأكل ، تناولت أمّي من حقيبة صغيرة أخرى قماشاً مبلّلاً نظفت به وجهي وراحتيّ ، ثم وضعت قليلاً من البودرة على وجهها وأحمر شفاه قانٍ على شفتيها.
كانت محطة قطار كرو أشبه بمغادرة كبيرة صاخبة ، قذرة ومعتِمة ، لا تشبه في شيء محطات «كينت» الصغيرة الأنيقة. لفّتني أمي في معطف صوفي ، وناولتني رباط جودي ، ثمّ حملت الحقائب. كان القطار المتوجه من كرو إلى ليفربول غاصّاً بمسافرين رائقي المزاج ، معظمهم جنود عائدون في إجازة إلى بيوتهم. لم يتوانوا عن مساعدتنا في وضع أمتعتنا على الرفوف الموجودة فوق المقاعد. وحصلت جودي أيضاً على نصيبها من الثناء والمداعبة ، وهو ما أبهجني. أمّا أمي الفاتنة ، بشعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها وقوامها الرشيق ، فراحت تشرح لأكثر من جندي بأنّ زوجها ينتظرنا في بلفاست.
كنت أحمل معي كراسة تلوين وأقلاماً ، ورحت أقاوم باستماتة حتى لا يغالبني النوم ويفوتني شيء خلال السفر ، لكن عبثاً. فقد نمت من التعب.
لما أستيقظتُ ، كان القطار قد وصل إلى ليفربول. هناك رأيت السفينة لأول مرّة. لاحت لي من خلال دوامات الضباب : كتلة عظيمة رمادية مخيفة ، تشرف علينا من أعلى ، وتلقي بظلّها على حشد المسافرين المهرولين إلى جسرها ليقفوا في طابور عريض. كانت أضواء الإنارة العمومية الخابية تنعكس على المياه اللزجة التي تتأرجح فوقها السفينة بلطف. وبما أنني لم أرَ إلى حدود تلك اللحظة غير مراكب الصيد «رامسغايت» الصغيرة ، تهيّبت من ركوب هذا العملاق. وبينما كنا واقفين في الطابور ننتظر دورنا لبلوغ الرصيف ، شددتُ قبضتي على رباط جودي والتصقتُ بأمي.
وحين صعدنا إلى السفينة ، رافقنا مضيف يضعُ على رأسه قبّعة بيضاء إلى قمرتنا الصغيرة من الدرجة الثانية . كانت مجهَّزة بكرسي خشبي وسرير عادي وحوض اغتسال.
علقتُ بارتياب : « اسنرقد معاً في هذا السرير؟!».

لا تخبري ماما Where stories live. Discover now