الفصل الأول: الأُقحُوانُ الذي قَد ذَبِلَ

192 26 52
                                    

أمست العاصمة براغ مساءها بليلةٍ باردةٍ تنذرُ بهطول عاصفةٍ ثلجيةٍ قادمة، وكان الناس وقتها منهم من يطالعُ تلك الساعة الفلكية في البلدة القديمة، والتي تعتبر إرثًا تاريخيًا لبراغ، حيث يخرج من الساعة زاهية اللون قديمة المنظر تماثيلٌ خشبيةٌ صغيرة تنسبُ إلى تلاميذ السيد المسيح عيسى بن مريم وهم يطوفون في دائرة. تدق أجراس الساعة معلنةً قدوم ساعةٍ جديدة، ألا وهي التاسعة مساءً..

كانت الناس واضحة الملبس، فجلُ العامة يظهر بالمظهر الأوروبي ذاك، الرجل يلبس معطفًا شتويًا إما يكونُ أسودًا سواد ليلةٍ قمرها تخبئه الغيوم الماطرة، أو يكون بنيًا غامقًا هو لون المعاطف الغالب آنذاك. وفي غالب الأحيان يعتمر النبلاء من العامة تلك القبعات الطويلة كدليلٍ على مكانتهم الاجتماعية بين الناس.. أما السيدات، فكان هندامهنَ يختلف اختلاف الدراهم في جيوبهن، فكانت البسيطة منهن تكتفي بمعطفٍ شتوي وحزامٍ تشد به المعطف بغية المزيد من الدفء، أما زوجات الوزراء والحكوميين فكُنَ أكثر تباهيًا بعض الشيء، مجوهراتٌ صيغتْ من ألمع الزمردِ، ومعاطفٌ من أجود الصوف والفرو..

أخذتْ العاصفة الثلجية تزداد حدتها وبرودتها شيئًا فشيئا، والناس منها من يسرعُ في خطواته، ومنها من ينادي بقوةٍ أكثر.. بدأتْ الحركة في العاصمة تزداد وكذا الدخان الذي يتعالى أكثر فأكثر في سماء المدينة.. يسارعُ كل رجلٍ إلى بيته يُأويه. ومن بين كل الزحامات التي دبتْ في براغ، كان هنالك زحامٌ اختلف عن أقرانه، زحامُ أشخاصٍ لا يسارعون إلى بيوتهم.. بل يسارعون في بيع الخدمات والمقتنيات كالورد والورق والألعاب البسيطة، فكان من العامة من يشتري ومن يرفض.. ذلك الزحام كان خاصًا بأولئك الذي كان من نصيبهم عيشُ ما لو يطلبُ من أحدٍ عيشه لما عاشه إطلاقًا، أولئك الذين الشارع والطرقات هي بيوتهم ومساكنهم.. ولو كان لهم مسكن، فسيكون مقابلَ كرامتهم وإنسانيتهم، فبدل أن تنعم بالدفء في بيتك الواسع والكبير، تعملُ ليل نهار في الطرقات تبيع للناس ما تُؤمر أن تبيع.. تمامًا كمن يستسأل الناس طعامًا ولكن بطريقة لبقة.

ستجدُ لاحقًا داخل ضواحي مدينة براغ العريقة صورةً زاهيةً للذين يفصلون بين النبلاء والفقراء.. صورةً لتلك الأسرة متوسطة الدخل تجتمع على مائدة العشاء تتناول عشائها بامتنانٍ وهدوء، فيها الأبُ الذي يعمل في مخبزه يخبز الخبز الطري ويصنع الحلوى الشهية والمعجنات الزكية، والأم وابنها يعيشان برخاءٍ تحت ظل الأب وتعبه.. هذا المنظر اللطيف، والمحادثة البسيطة كانت قد شاهدتها "كارديليا" تلك الفتاة الرقيقة ذات التسعة أعوام، رثة الملابسِ حافية القدمين، تنظر للمشهد تارةً وتتخيل نفسها آنسةٍ من الآنسات الفاتناتِ تارةً أخرى.. فتردد في نفسها وهي تتمعن المشهد من بعيد عبر النافذة:

- لكم سيكون من الرائع أن أمتلك بيتًا دافئًا وطعامًا شهيًا كهذا، تلك الأسرة رائعة بحق! لكنني الآن أبيع هذه الورود الجميلة للمار...

«رَقصَةُ الشِّتَاءِ»Where stories live. Discover now