جَرَسُ عَتَمَةٍ لَمْ تَكْتَمِلْ سَاعَتُهَا

90 17 162
                                    

في لَحْظةِ الجُّمودِ التي عاشتْها نِيدِيلَا، وَمُشاهدتِها لِلْأُفُقِ إذْ اخْتَفى ظِلُ شُوبكن، تَأكدتْ منْ عدمِ إِمكانِيةِ رُؤْيَتِهِ مَرةً أُخرى، لَمْ تَكُن تُفكرُ بِمظهرهِ الأَنيق، وَلا هيئَتهِ المُتَألقةِ أبدًا، بَل كانَ كُلُ أَمْرِها يَجُولُ حَولَ شَخصِيةِ شُوبكِن، الشَّخْصِيةِ الهادئةِ في موضعِ الهدوء، والصَّارمةِ فِي مَوضِعِ الصَّرامَة، الشَّخصيةِ التي حَملتْ مَعَها سِمات الإِنْسانِ النَّاجح، المَرْءِ الذي لَا يَتكلم بنَسبِهِ وَمَفاخِرِ أُسْرَتِه، وَلَا يَتعالى بِدِراسَتِهِ وتَفوقه، لَقدْ كَانَ مِثالًا حَسَنًا لِما يَجِبُ أَنْ يَكونَ عَليهِ النُّبَلاءُ فِعلًا..

طالعتْ، وأَنزلتْ ذراعيها الحمراوتين المرتعشتين، وقبل أن تلفظ تلك الكلمات الجريحة من شفتيها، قاطعتْها أنغامُ أجراسِ الكنائسِ تتوالى في سماءِ براغ، عندما حلتْ عَتَمَةُ الليل عند السَّاعة العاشرة، جرسٌ تلو آخر، جميعهم هوى بنيديلا في حالةٍ من الاضطراب؛ إذ لمْ تكُنْ تَنظرُ للمادة بعينيها اللامِعتين تِلك، بَل كَانتْ تَنظرُ إلى كُلِ جانبٍ مِنْ حَياتها، إلى كلِ الضَّاحكين والباكين في حياتها، إلى كل من فنى وعاش طوال هذه المدة التي عاشتها وتعيشها، تنظر إلى ظلمة الليل وسكونه رغم الحركة في الشَّارع.

وفورَ انتهاءِ قرعِ أجراسِ المدينةِ، أنزلتْ نيديلا نظرها إلى الأرض، وتنهدتْ بعمق، وأخذتْ ترجع إلى الوراء خطوةً خطوة، حتى عادتْ إلى داخل دارها والكآبة تملأُ وجهها، وحيثما أغلقتْ نيديلا الباب، ناداها والدها مفاجئًا إياها:

- نيديلا..

تغيرتْ ملامح نيديلا من فورها، وفزعت من وجود والدها السيد "فرويد" إلى جانبه والدتها السيدة ريتشل.. وبدأت أناملها بالارتعاش فذكرتْ :

- والدي! أنا.. الأمر ليس كما تتصـ...
- بل هو كذلك نيديلا، بل هو كذلك.. سمعتُ ووالدتك حديثكِ معه، وسمعنا بعضًا من كلامه.

رد عليها السيد فرويد، بهيئته التي تمثلت بمعطفٍ أرجواني أَدكن، وشعرٍ تخالط الشَّيب فيه مع السَّواد، وتقدم نحوها: النَّظرةُ الباردةُ التي رمق بها السيد فرويد ابنته، كانتْ كفيلةً بجعلِ نيديلا تعتقد أنَّ أجلها قد حان، مشاعرها امتزجتْ بعضها ببعض كامتزاجِ الكأس إذْ تَملأُها باللبن فالشَّاي فالعصير.. وكلٌ قد تميز بطعمٍ ورائحة.

وفي اللحظة التي كان فيها السَّيد فرويد على بعد خطوتين، توقف، وقال لابنته بصوتٍ تجسَّدتْ فِيهِ عاطفةُ الوالدِ الغامِضة:

- نِيدِيلا، لَوْ أنَّ مَن كان يُخاطِبُكِ بكلماتهِ المليئةِ بالعاطفة تِلكَ خلف هذا الباب، ويغدقُ عليكِ بكرم تلك العباراتِ التي فِيها يبتغي لكِ حياةً رائعة، أحدٌ غير ذلك الفتى شوبكن، لكنتُ اتخذت قراراتٍ أخرى، نيديلا! لا أرضى لابنتي أن تبكي هكذا أمام الغرباء.. دموعكِ غالية، لا يجب أن يراها أي أحد! نيديلا ابنتي، بل حتى أنه من المعيبِ أنْ تتحدثي هكذا مع شوبكن، لستِ بقريبةٍ له.

«رَقصَةُ الشِّتَاءِ»Where stories live. Discover now