اعترافات رجــل

253 7 0
                                    



ـ أخبريني أني لا أحلم . أنت فعلاً هنـا !
ـ أنـا هنا , أنـا هنا ! المسني .
راحت سيلينا تبكي وتضحك في آن معاً . بذل قصارى جهده
لطمأنتها فسحقها في عناق قوي وتشبث بها .
ـ لطالما تخيلتك وأنت تسلكين هذا الطريق , ليتبين لي لاحقاً أنها
مجرد خدعة من الضوء .
ـ ليس هذه المرة . لو هل أنت سعيد حقاً لرؤيتي ؟
وفجأة , خذلته الكلمات ولم يعد يجد تلك التي تعبر عن مشاعره .
هل هو سعيد لرؤيتها ؟ كل ما يعرفه هو أن الغصة في حلقه جعلت من
الصعب عيه أن يتكلم . وقالت سيلينا مذهولة : (( أنت تبكي )) .
ـ لا , أنا لا ابكي . وحدهم الضعفاء يبكون .
ذكرها بكلماتها الخاصة , لكن عينيه بدتا رطبتين , ولم يحاول
تجفيفهما . إنه لاتيني , وقد تربى عل ألا يخجل من مشاعره وانفعالاته .
كما لم يكن يرغب في إخفاء هذه المشاعر عن هذه المرأة .
أمسك بوجهها بين راحتيه , وراح يتأملها بشوق وحنان قبل أن
يعانقها عناقاً طويلاً . تجاوبت سيلينا مع عناقه من كل قلبها , مدركة
أنها قطعت هذه المسافة كلها لهذا السبب , وأن ما من شيء يمكن أن
يبعدها عنه .

حمل إحدى حقيبتي سيلينا تحت إبطه والأخرى في يده , ثم وضع
يده الحرة حول خصرها , وعندئذ , صعدا التلة معاً متوجهين إلى
المنزل . سألته سيلينا بعد أن رأت بعض الوجوه عند النوافذ : (( هل
أسرتك هنا لتزورك ؟ )) .
ـ لا , إنهن . . .
ومنع نفسه من أن يقول الخادمات , فقال : (( بنات أخوة جينا )) .
وكان هذا صحيحاً , فعندما يحتاج لاستخدام شخص جديد ,
يكتفي بأن يعلم جينا فتأتي له بشخص مناسب من أسرتها الكبيرة .
وبعد قليل اختفت الوجوه , وعندما وصلا إلى الباب لم يجدا في
استقبالهما سوى جينا التي ابتسمت مرحبة وأعلنت أن غرفة الآنسة
تُجهز وأن المرطبات ستُقدم على الفور .
تركتهما جينا , فأخذ ليو سيلينا بين ذراعيه مجدداً , وأدناها منه
ليريح رأسه على شعرها . وسألته سيلينا : (( كيف علمت بقدومي لتحضر
لي الغرفة ؟ )) .
ـ رأتك وأنت تصعدين التلة , وعندما قمت . . . وعندما قمنا . . .
حسناً , أظن أن الجميع يعرف بقصتنا الآن .
كادت تسأله ما هي " قصتهما " برأيه , لكنها عدلت عن رأيها ,
فهي نفسها لا تعرف الجواب و هذا ما جاءت لاكتشافه هنا . وفي هذه
اللحظة , ما من شيء يهم بقدر السعادة التي غمرتها لوجودها معه . في
هذا البلد الغريب الذي لا تعرفه لغته , شعرت بأنها وصت إلى بيتها
وموطنها , لأنه هنـا ولأنه جزء منه .
سألها ليو : (( لِمَ لم تستلقي سيارة أجرة إلى هنا ؟ )) .
ـ لم أعرف كيف أقول له عنوانك . وجدت باصاً , على مقدمته
لافتة كُتب عليها مورنزا , لكني لم أكن أعلم أن علي شراء التذكرة من
محل السكاكر أولاً . وعندما فعلت , كـان الباص قد رحل . حسنـاً ,
اسخـر مني بقدر ما تشاء .
كان يضحك لطريقتها في الكلام , لكنه سيطر على نفسه وقال :
(( أنا آسف عزيزتي , لم أستطع منع نفسي . إنها طريقتك في رواية ما
حدث . نحن مجانين بعض الشيء في إيطاليا , ونشتري التذاكر من محال
السكاكر )) .
ـ وماذا يحصل لو كانت محال السكاكر مقفلة ؟
ـ نسير .
ضحكت ضحكة رنانة . وأنزل رأسه حتى أراح جبهته على
جبهتها , وهو يبتسم برضا و سعادة لوجودها معه هنا . ثم قالت :
(( وهكذا , انتظرت الباص التالي , ثم عرفت منزلك من وصفك له )) .
ـ لكن , لِمَ لم تتصلي بي لآتي و أستقبلك ؟
ـ حسناً . . . أنت تعلم . . .
طوال الرحلة , عذبتها فكرة ألا يرغب في وجودها هنا , وأن
تسمع الحيرة والارتباك في صوته إذا مـا اتصلت . لعله اتصل بها في
تكساس ليقول ألا تتصل به لأن ما حصل بينهما مجرد غلطة . وحده
وجودها فوق الأطلسي منعها من التراجع و الترجل من الطائرة .
ووعدت نفسها بأن تعود على الفور بعد أن تحط الطائرة , أو أن
تسمع كلمات بارتون حين نعتها بالجبن , فأجبرت نفسها على المضي
قدماً .
رافقها إلى الغرفة التي أنهت الخادمات تجهزيها للتو , فراحت
تتأمل المنزل بجدرانه الحجرية الضخمة وهما يصعدان إلى الطابق
العلوي . إنه كما وصفه بالضبط , باستثناء أنه أكبر بكثير مما تخيلت .
غرفتها أيضاً كبيرة جداً , و أرضيتها من الخشب الملمع . أمـا السرير
فهو أكبر سرير رأته في حياتها , مع ظهر من خشب الجوز المحفور .
وتحمي النوافذ مصاريع من الخشب السميك التي تمنع دخول الحر .

عندما فتحتها جينا , تمكنت سيلينا من الخروج إلى شرفة صغيرة لتتأمل
الوادي فكان أجمل مشهد ريفي رأته يوماً , إذ تمتد التلال على مدى
النظر , خضراء و زرقاء , فيما تخفي أشجــار الصنوبر الحدود .
كان الطقس لا يزال دافئاً بما يكفي لتناول العشاء في الخارج ,
وهما يشاهدان غروب الشمس . وقدمت لهما جينا حساء السمك ,
وهو خليط من الحبار والقريدس ويلح البحر والثوم و البصل
و الطماطم . شعرت سيلينا وكأنها ماتت وصعدت إلى الجنة . قالت
وهي ترتشف العصير : (( عدت لأجد بارتون قلقاً ومضطرباً , فقد ترك
الرسالة مع بولي الذي " نسيها " )) .
فغامر ليو قائلاً : (( لكن جاذبيتي التي لا تقاوم شدتك رغم
ذلك ؟ )) .
فرت بحزم : (( جئت لأشاهد الروديو في غروستو , هذا كل ما في
الأمر )) .
ـ ولا علاقة للأمر بي ؟
ـ لا علاقة للأمر بك , فلا تتباهى .
ـ حسناً سيدتي .
ـ و توقف عن الابتسام , هكذا !
ـ لم أكن أبتسم .
ـ بل فعلت , كالقطة التي أكلت الجبن . اجتيازي نصف العالم بحثاً
عنك لا يعني شيئاً , هل تفهم هذا ؟
ـ طبعاً , وتمضيتي الأسابيع القليلة الماضية وأنا أبحث كالمجنون عبر
الانترنت لأحاول الوصول إليك ومعرفة أخبارك , لا تعني شيئاً أيضاً .
ـ حسناً , اتفقنا !
ـ اتفقنا !
وجلسا صامتين يتأملان بعضهما البعض بسعادة .
قالت : (( فعلتها مجدداً , عندما وصلت إلى هنا ناديتني بالإيطالية ,
لكنك لم تقل لي ما تعنيه الكلمة )) .
كانت تنظر إليه , فقال وهو يمسك بيدها : (( عندما ينادي رجل
امرأة بهذه الكلمة ومعناها . . . )) .
وفجأة , وجد صعوبة في الكلام . فقد اعتاد في الماضي أن يستخدم
الكلمة بشكل عشوائي , من دون أن يعنيها . لكن الوضع تغير الآن ولم
يبق لديه سوى الكلام القديم الذي لطالما أثار الجدال و النقاش .
قال : (( هذا يعني أنها أكثر من عزيزة عليه , هذا يعني . . . )) .
وتوقف عن الكلام مع وصول جينا لترفع الأطباق قائلة : (( الطبق
الرئيسي سيدي )) .
ابتسم ليو وترك الحديث عند هذا الحد , ستتاح لاحقاً فرصة
قول كل ما يرغب في قوله .
أنهيا الوجبة بالعسل والكيك بالجوز . وكانت عينا سلينا تكادان
تطبقان لشدة تعبها . وأخيراً , أمسك ليو بيدها و قادها إلى الطابق
العلوي ليتوقفا عند بابها , ثم قال بصوت ناعم : (( تصبحين على خير ,
عزيزتي )) .
ـ تصبح على خير .
وداعب خدها قبل أن يتركها .
استقى في سرير من دون أن يغمض له جفن طيلة الليل تقريباً .
وجودها في بيته , تنام في الغرفة المجاوزة , جعله يشعر كرجل يخبئ كنزاً
تحت سقفه . كان الكنز كنزه وسيحتفظ به , وسيحارب العالم بأسره من
أجله إذا ما اضطره الأمر .
استيقظ مع بزوغ الفجر وتوجه إلى النافذة ففتح مصراعيها ووقف
على الشرفة الصغيرة . شعوره بالذهول لقدومها المفاجئ لم يفارقه بعد ,
فأراد أن يتأمل مجدداً الطريق المؤدي إلى القرية , الطريق الذي طالما نظر

إليه , وقد تملكه الشوق إليه , حتى ظهرت في أحد الأيام .
ظل في النافذة المجاورة جعله يلتفت . رآها تقف هناك , لكنها لم
تكن تنظر إليه بل إلى الوادي , وقد بجا وجهها هادئاً ومأخوذاً , وكأنها
في عالم آخر . وفيما كان يتأملها , رفعت رأسها بما يكفي لتمنحه
ابتسامة قصيرة , ثم عادت كرة أخرى تتأمل الوادي .
لقد فهم الآن !
وضع عباءته على كتفيه وخرج من غرفته متوجهاً إلى غرفتها . وقف
خلفها عند النافذة ووضع يديه على كتفها بنعومة . عندما استندت
إليه , أحاطها بذراعيه , فرفعت ذراعها بدورها لتضعهما على
ساعديه . وفقا هناك في أحضان بعضهما البعض , وقد تملكهما شعور
بالرضا , شعور لا يشبه كل ما عرفه في حياته من قبل .
في الأسفل , لاحظا الوهج الناعم الذي راح يزحف نحو الوادي .
في البدء , كان باهتاً , ثم راح يزداد قوة . بدا الضوء سحرياً , وكأنه من
عالم آخر , واستمر لدقائق معدودة مباركة . بعدئذ , تغير وأصبح أكثر
حدة وقوة , أصبح عادياً , جاهزاً ليوم عمل كبقية الأيام . ولم يبق منه
سوى الذكرى . تنهدت سيلينا تنهيدة رضا واكتفاء , تنهيدة هادئة بحيث
شعرت بها حواسه بدلاً من أن يسمعها . ثم قالت : (( هذا ما أردته . منذ
أن أخبرتني عن الضوء , و أنا أتوق لرؤيته )) .
ـ وما رأيك ؟
ـ إنه جميل كما وصفته . أجمل ما رأت عيناي يوماً .
قال : (( يمكنك أن تريه في الغد أيضاً . أمـا الآن . . . )) .
وشدها بنعومة إلى الخلف , وأخذها بين ذراعيه حيث اكتشفا نوعاً
آخر من الجمال في عناق لم يرغبا في أن ينتهي .
لطالما تخيل ليو اللحظة التي يعرف فيها سيلينا على باري , الفرس
التي أصبحت جاهزة للبيع منذ أشهر , لكن أناقتها وحيويتها منعتاه من
بيعها بانتظار الشخص المناسب . وسيلينا هي هذا الشخص المناسب .
كان يشتبه في ذلك وقد تأكدت ظنونه بعد أن شهد حبهما من النظرة
الأولى , وهو يعرف الآن الكثير عن الحب من النظرة الأولى . وخطر له
أن يقدم باري لسيلينا كهدية زفاف . وهو لم يعد يتهرب من هذه
الأفكار , فعل الرجل أن يعرف كيف يتقبل الأمر حين تنقلب حياته
رأساً على عقب بسبب امرأة .
أمضيا أيامهما في التجوال على ظهري جواديهما بين حقوله
وكرومه , وأمسياتهما في التسامر تحت ضوء القمر , ليفترقا على مضض
بعد عناق طويل يحملانه مشاعرهما التواقة كلها . وفي إحدى
الأمسيات , قال لها : (( تولي الاهتمام بالجياد , تولي الاهتمام بي , بأحدنا
أو بكلينا , كما تشائين )) .
رفعت رأسها وراحت تنظر إلى وجهه , كان ضوء القمر ينير
الشرفة , رامياً الظلال في وجهها , فلم يسمع سؤالها لشدة استغراقه
في تأملها .
همس : (( ماذا قلت ؟ )) .
ـ قلت إن الوقت حان لتنهي شرح معنى تلك الكلمة الإيطالية التي
لا تنفك تستعملها .
ابتسم لها ابتسامة حنون وقال : (( هذه الكلمة تعني أنك أغلى عندي
من العالم بأسره , فأنت حبي ومحبوبتي الوحيدة )) .
بعد أسبوع , قصدا ماريما , وهي منطقة جنون توسكانا , تقع على
الشاطئ . وهذه المنطقة معروفة غالباً باسم (( الغرب التوسكاني )) , إذ
تربي المواشي فيها بأعداد كبيرة , ولا تزال تستخدم فيها كفاءات رعاة
البقر التقليدية .

ويحتفل بكل هذا سنوياً عبر إقامة روديو , يتألف من استعراض
يخترق شوارع مدينة غروستو المجاورة كلها , وعرض يستمر طيلة بعد
الظهر . اصطحب ليو سيلينا إلى المدينة ليلتقيا المنظمين , واصفاً إنجازاتها
بتعابير حارة .
عندئذ , فاجأته سيلينا بدورها . فطيلة الطريق على المدينة , كانت
متمسكة بغرض عريض مسطح , رافضة أن يراه ليو . وتبين لاحقاً
أنها صور له وهو راكب على ظهر الثور .
قالت : (( أعرف الرجل الذي يلتقط الصور في الروديو , حتى
للأشخاص الذين لا يربحون . بحثت عنه فوجدت معه هذه الصورة
لك . تبدو رائعاً , أليس كذلك ؟ )) .
بدا مذهلاً , كان قد رفع إحدى ذراعيه في الهواء , كما رفع رأسه ,
فيما ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة تعكس شعوره بالسرور
والانتصار .
قال : (( لا يمكن للمرء أن يعرف أني سقطت أرضاً في اللحظة
التالية )) .
تأمل أحد المنظمين الصورة ثم سعل باحترام , وقال : (( ربما
بإمكانك يا سيدي أن تقدم عرضاً مشابهاً على ظهر الثور في هذا
الروديو )) .
فرد ليو على عجل : (( لا أظن ذلك . فلديهم في تكساس ثيران
خاص , تربى لهذه الغاية وتتميز بشراستها )) .
ـ أظن أننا لن نخيب أملك يا سيدي . لدينا هنا ثور تمكن حتى
الآن من جرح رجلين حتى الموت . . .
جاهد ليو حوالي عشر دقائق ليتخلص من هذا المأزق الذي ازداد
صعوبة بسبب ضحكة سيلينا .
قال لها وهما يخرجان : ؛؛قلت له إنك ستقدمين عرضاً لسباق
البراميل )) .
ـ جيد , لكن الأمر لن يكون مماثلاً إن لم تمتطِ أنت ذاك الثور .
ـ أغربي عن وجهي !
لم تقم عائلة ليو بالرحلة من قبل . لكنهم قادمون هذه السن
وبقوة , لأن الأخبار الجديدة وصلتهم , وهي أن ليو الذي يحب
السيدات الممتلئات الجسم , وقع (( ضحية )) امرأة بارزة العظام , ذات
قامة نحيلة ورأس أشبه بكتلة نار .
وهكذا , قرر غالبية أفراد أسرة كالـﭭـاني أن يتوجهوا إلى المزرعة
لقضاء الليل قبل التوجه إلى غروستو . لم يكن ينقص سوى ماركو .
وسيأتي الكونت والكنتيسة كالـﭭـاني , برفقة غويدو ودولسي , من
البندقية .
عندما علم ليو بما يخططون له وبأن مشاريعهم جاري على قدم
وساق , أدرك أن يوم الاعتراف لا يمكن أن يؤجل أكثر . عليه أن
يعترف قريباً لسيلينا بكل ما أخفاه عنها , من ثروته التي تستحق
الشجب إلى ارتباط اسمه الفظيع بلقب . ويبقى أن ينتظر ليرى أي من
الخبرين سيروعها أكثر .
وفيما كان لا يزال يحاول أن يتطرق إلى الموضوع , باغتته
الأحداث . فقد دخلت سيلينا إلى مكتبه في أحد الأيام بحثاُ عنه : (( ليو ,
هل أنت هنـا ؟ )) .
دفعت الباب لتفتحه أكثر . لم تجد أثراً لليو لكنها استطاعت أن
تسمع صوته آتياً من الممر الخلفي , فدخلت إلى الغرفة لتنتظره . عندئذ ,
لفت نظرها شيء ما . رأت العديد من الصور على المكتب , فدفعتها
حشريتها إلى التقدم والنظر إليها . ما رأته جعلها تعبس في البدء , ثم
راحت تحدق بارتباك .
إنها صور زواج , ما ذكرها بأن ليو حضر مؤخراً زواج شقيقه
غويدو . ها هما العريس والعروس التي بدت رائعة في الثوب البيض
المخرم , فيما بدا وجه العريس خطراً وفاتناً . وإلى جانبيها , وقف ليو ,
وقد تأنق كما لم تره من قبل , يا لها من أناقة . إنها ثياب مكلفة , ومع
قبعة على رأسه ! وماذا في ذلك ؟ جميع الناس يتأنقون في الأعراس .
لكن خلفية الصورة لا يمكن تجاهلها . ثريات , صور قديمة , مرايا
ذات أطر مذهبة . كانت الثياب ملائمة بامتياز , وهذا ما لا تفعله
الثياب المستأجرة . كما تبدو على هؤلاء الأشخاص الثقة الرهيبة التي
تترافق مع المال و المركز الرفيع .

شعور غريب , أشبه بالرعب , بدأ يسيطر على معدتها , ويهدد
باكتساحها .
ـ لقد وصلت للتو .
كان ليو واقفاً عند العتبة , يبتسم لها بطريقة يمكن أن تجعلها تنسى
أي شيء آخر . قال لها وهو يتقدم ليأخذ الصور : (( دعيني أعرفك إلى
عائلتي . هذا أخي غويدو ودولسي . هذان الشخصان التافهان هنا هما
والدها وشقيقها , و إن لم أرهما مجدداً فهذا أفضل . وهذا قريبي ماركو
وخطيبته هارييت . وهذا الرجل عمي فرانشيسكو وزوجته ليزا )) .
ـ ما هذا المكان خلفكم جميعاً ؟ هل استأجرتم قاعة البلدية أو شيئاً
من هذا القبيل ؟
فقال بنبرة متقطعة : (( لا . . . إنه منزل عمي )) .
ـ هذا ؟ أيعيش هناك ؟ إنه أشبه بالقصر .
أصبحت نبرة ليو أكثر تقطعاً : (( أفترض . . أن هذا هو ما عليه . .
في الواقع )) .
ـ ماذا تعني ؟
ـ يُدعى قصر كالـﭭـاني ويقع على القناة الكبرى في البندقية .
ـ عمك يعيش في قص ؟ هل هو من الأسرة المالكة ؟
ـ لا , لا , ليس إلى هذا الحد . إنه مجرد كونت .
ـ لم أسمع ما قلته . فقد غمغمت الكلمة الأخيرة .
فكرر ليو رغماً عنه : (( إنه كونت )) .
حملقت فيه : (( أنت قريب كونت حقيقي ؟ )) .
فأكد لها ما قاله كرجل يحاول أن يجد ظروفاً مخففة لجريمة ما :
(( نعم , إنما من الجهة الخاطئة )) .
اتهمته : (( لكنهم يعرفونك , أليس كذلك ؟ أنت فرد من الأسرة )) .
تنهد و أقر بذلك : (( أبي كان شقيق العم فرانشيسكو . ولو أن
زواجه من أمي قانوني , لكنت . . . حسناً . . . الوريث )) .
عندئذ , التفتت إليه وعلى وجهها نظرة رعب . لكن ليو استرضاها
بقوله : (( لكن الزواج لم يكن قانونياً . وبالتالي , لست الوريث . إنها
مشكلة غويدو وليست مشكلتي , وهو غاضب مني لهذا السبب , وكأن
الذنب ذنبي , فهو لا يريد هذا اللقب بقدر ما لا أرغب فيه أنا . كل ما
أردته يوماً هو هذه المزرعة والحياة التي أعيشها هنا . يجب أن تصدقيني
سيلينا )) .
ـ أعطني سبباً واحداً يجعلني أصدق كلمة مما تقوله .
ـ هيا , أنـا لم أكذب عليك يوماً .
ـ كما لم تخبرني الحقيقة يوماً .
ـ حسناً , هل أخبرتني قصة حياتك كلها منذ البدء ؟
ـ نعم .
لقد نالت منه في هذه النقطة , فقرر أن يعدل أسلوبه , فقال : (( أنت
لا تتصرفين بشك منطقي . لو كنت فقيراً , فكيف كنت لأتعرف إلى
بارتون وأذهب لزيارته ؟ )) .
ـ لقد أخبرتني أنك بعته بعض الجياد . كما يمكنك أن تشتري
تذكرة سفر بسعر زهيد في هذه الأيام . وثمة شيء آخر . . . هذا المنزل ,
هؤلاء الناس , وهذه الأرض . . . عندما تكلمت عن المكان , ظننت
أنك تستأجر قطعة أرض صغيرة في مكان ناءٍ , لكنك تمتلك كل هذا ,
أليس كذلك ؟
ـ لم أدعِ يوماً خلاف ذلك .

ـ وكم تملك ؟ أنت المالك , أليس كذلك ؟ ليس هنا وحسب , بل
في القرية ونصف المسافة إلى فلورنسيا أيضاً , على حد علمي .
فاعترف ببؤس : (( بل أكثر من ذلك , في الواقع )) .
ـ يمكنك أن تشتري بارتون , أليس كذلك ؟
هز كتفيه باستسلام : (( لا أعلم , عل الأرجح )) .
ـ ظننت أنك مجرد فتى من الريف . . . تركتني أظن ذلك . لكنك
ملك من ملوك المال .
ـ أنا فتى ريفي .
ـ أنت ملك ريفي , هذا ما أنت عليه .
بدت شاحبة من شدة صدمتها .
ـ ليو , كن صادقاً معي لأول مرة منذ تعارفنا . أنت بالغ الثراء
أليس كذلك ؟
ـ تباً سيلينا , هل ستتزوجيني من أجل مالي وحسب ؟
ـ لن أتزوجك على الإطلاق , لقد توهمت . . .
ـ لم أتقصد ذلك , وأنت تعرفين هذا .
ـ كل ما قلته لك , عن أصحاب الملايين وعن أنهم ليسوا
أشخاصاً حقيقيين . . .
ـ حسناً , تعلمين الآن أنك كنت مخطئة .
ـ بالطبع أعلم ! أظنك أثبت أني كنت محقه في ما يتعلق بالأسوأ .
ما كنت لأعتقد أن بإمكانك أن تفعل هذا بي !
قال مناشداً فضاء الغرفة : (( ماذا فعلت ؟ هلا قلتم لي ماذا
فعلت ؟ )).
ـ ادعيت أنك شيء , في حين أنك شيء آخر .
فصاح بصوت عالٍ : (( بالطبع فعلت . ما كنت لأخاطر بفقدانك .
أتظنين أني لا أعلم ؟ بالطبع , أعلم . ما إن التقينا حتى عرفت أنك
امرأة غير منطقية , غريبة الأطوار , وتفتقرين إلى الحس السليم . لم أشأ
أن أخيفك فترحلي ؛ لذا , لعبت بحسب قواعدك و شروطك . حتى
إني لم أتمكن من أن أخبرك أني قمت . . . )) .
توقف عن الكلام قد وصل إلى حافة الهاوية .
ـ تخبرني أنك قمت بماذا ؟
ـ نسيت .
لكن , عندما التقت عيونهما أدرك أن من الأسهل أن يُعلق
كالخروف المعد للسلخ .
ـ حسناً , الشاحنة , ومقطورة الجياد . . . مني .
ـ أنت . . . اشتريت الشاحنة . . . ومقطورة الجياد ؟
ـ وجيبرز . . . سيلينا , كان خبراء شركة التأمين ليسخروا منك .
كنت تعلمين ذلك . إنها الطريقة الوحيدة لتتمكني من السفر مجدداً .
أملت ألا تكتشفي ذلك , أو على الأقل ألا تغضبي مني كثيراً إذا ما
عرفته .
راح يتأمل وجهها , وهو بالكاد يجرؤ على تصديق ما يراه .
ـ لِمَ تضحكين ؟
قهقهت : (( تعني . . . أنك كنت المعجزة ؟ وليس بارتون ؟ )) .
ـ نعم , أنا وليس بارتون .
ـ لا عجب في انك بدوت غاضباً للغاية عندما قلت ذلك .
فاعترف ليو : (( كنت لأقتله . أردت أن أخبرك الحقيقة لكني لم
أستطع , لأني علمت أنك لن ترغبي في أن تديني لي . لذا , فكرت في
طريقة أخرى . يمكننا أن نتزوج , فتصبح هذه الأشياء هدية زفافنا ,
وتعود الأمور إلى نصابها )) .

حملقت فيه : (( أنت جاد , أليس كذلك ؟ )) .
ـ حسناً , بحسب رأيي , إذا ما تزوجتني , فكل هذا المال المثير
للاشمئزاز سيصبح لك . عندئذ , ستضطرين للسكوت عنه .
فكرت في كلامه ثم قالت : (( حسناً اتفقنا )) .
حينذاك , لم تقل له إنها تحبه , قالتها لاحقاً تلك الليلة بعد أن
عانقها , مطلقاً العنان لمشاعره الجامحة , وبعد أن تركها لتخلد إلى
النوم . ولم يسمع همسها وكلماتها سوى وسادتها التي أخفت السر على
غرارها .
و في أمسية أخرى , أحضر طبقاً من الفواكه وجلسا يأكلان
ويتحدثان , وسألته : (( كيف حصل أن عائلتك تملك أراضٍ هنا ؟ إذا
كنتم من نبلاء البندقية , فماذا تفعلون في توسكانا ؟ )) .
ـ كيف يمكنك أن تسألي ؟ الكل يعرف أن الأرستقراطيين الملاعين
يصادرون الأراضي أينما استطاعوا . وبهذه الطريق , نبقى مسيطرين
على رقاب الفقراء .

ـ آه , أنت مضحك للغاية ! ماذا تفعلون هنا ؟
ـ جدي , الكونت أنجلو , وقع في حب امرأة من توسكانا , تدعى
ماريا رينوتشي . وهذا . . .
وأشار إلى الوادي مضيفاً : (( . . . كان مهرها , بما أن عليه أن
يورث ملكيته في البندقية لابنه البكر ووريثه . . . وهو عمي
فرانشيسكو . أما الأراضي هنا فاستخدمت لتأمين إرث لأخوي
فرانشيسكو الصغيرين , برتراندو وسيلفيو . أخذ سيلفيو نصيبه نقداً
وتزوج من ابنة مصرفي في روما . ابنهما هو ماركو , لكنك لن تلتقيه في
الأسبوع القادم لأن مشكلة وقعت بينه وبين خطيبته الإنكليزية ,
هارييت . لقد عادت إلى إنكلترا فتبعها إلى هناك , ليحاول استرضاءها .
وأرجو أن يعيدها ليحضرا معاً زفافنا )) .
داعب وجهها , محاولاً أن يلهيها بفكرة زواجهما . تقبلت مداعبته
وعانقته بحماس , لكنه لم يتمكن من إلهائها , إذ أصرت : (( ومن ثم ؟ )) .
ـ أحب برتواندو العيش في الريف , فأتى إلى هنا وتزوج من أرملة
تدعى أليسا , التي أصبحت والدتي . وقد توفيت بعد ولادتي بفترة
قصيرة , فتزوج مجدداً من دونا , والدة غويدو . لكن تبين لاحقاً أن
والدي لم يسجل زواجها الأول في الدوائر الرسمية المختصة لأن أمي
كانت لا تزال متزوجة من زوجها الأول . وبالتالي , ام أكن أنا من
حصل على اللقب وإنما أخي , لأن الأوان على تصحيح وضع زواجها
من والدي قد فات . وتقايضنا أنا وغويدو الإرث نوعاً ما . ولا يمكن
أن أقول لك كم يسرني أننا فعلنا . وإلا , فأنـا و أنت . . .
ـ لا . . .
قالت هذا كما توقع , ثم أضافت : (( ما كنت لأتزوجك لو كنت
تحمل لقباً , فهذا مخالف لمبادئي , وفضلاً عن ذلك . . . على أي حال ,
لا يهم . لكن عائلتك ما كانت لتتقبلني ككونتيسة )) .
ـ أنت لا تعرفين شيئاً عنهم . إنسي الأفكـار المسبقة التي تحملينها
في رأسك . نحن لا نأكل في أطباق من ذهب . . .
ـ يا للعار ! كنت أتشوق لذلك .
ـ هلا صمت وتركتني أكمل حديثي ؟ و لا تنظري إلي بهذه الطريقة
وإلا نسيت ما سأقوله .
ـ حسناً , ثمة أمور مثيرة للاهتمام يمكننا أن نقوم بها بدلاً من . . .
فقال وهو يمسك بأصابعها التي حامت على وجهه : (( عندما أنهي
حديثي , عائلتي ليست كما تظنين . كل ما سيهمهم هو أننا نحب بعضنا
البعض . لقد تزوج غويدو ودولسي مؤخراً بعد قصة حب جمعتهما ,

وكذلك فعل عمي فرانشيسكو الذي انتظر أربعين عاماً حتى وافقت
المرأة التي يحبها على الزواج به , ورفض الزواج من امرأة أخرى . كان
لديها بعض الأفكار الغريبة , وكان هــو رجلاً صبوراً , لكني لست مثله .
وإذا خطر لك أني سأنتظر أربعين عاماً لتدركي ما عليك فعله , فأنت
مجنونة . والآن , كنت تتحدثين عن أمور أكثر إثارة للاهتمام . . . )) .

* * *
نهاية الفصل (( الثامن )) . . .

سأبقى وحديWhere stories live. Discover now