الفصل الثاني: النَّجْمُ الَذِي تَلَأْلَأَ فِي السَّمَاءِ

56 18 46
                                    

في الجانب الآخر والبعيد عن بدن الفتاة كارديليا الشاحب والخالي من الحياة، تجدُ قطار الحياة لا زال مستمرًا.. لا زال الناس يدبُّ الفرد منهم إذ يظهرون تارةً ويختفون تارةً أخرى، وكذا كان الطفل غلوفيدش وشقيقه الأكبر هامدلز يكملان سيرهما في شوارع براغ، المدينة الكبيرة. بسمائها المقمرة تلك، وأرضها المدهشة.. وعلى غرار الملابس الرثة التي كانت ترتديها كارديليا؛ فقد كان كلٌ من هامدلز وغلوفيدش يكتسيان المعطف الشتوي إلى جانب قبعة الأطفال الأوروبيين المعروفة، فلم يكن البرد القارس بشديد الخطورة في نظرهما.. أكملا سيرهما يتأملان الشارع تلو الآخر ومن يصادفانه فيه، ففي شارعٍ قريبٍ من جسر تشارلز، وجدا رجلًا كئيب الوجه يمشي بخيبةِ أملٍ بعد أن فشل في لفت أنظار المارة ببراعته في عزف الكمان، إذ أن اللجوء والإسراع إلى المنازل كان أولى من الوقوف والاستماع له؛ وعليه، كان يمشي ولا تدري إن كان حزينًا على أن أحدًا لم يُعجب بعزفه، أم أنه نادمٌ على قرارٍ غبي اتخذه كالعزف في ذروة البرد!

عندما بدأ الأخوان بالاقتراب من الميتم، والدنو من الضواحي التي يغلب عليها السكن لا العمل، والراحة لا الجهد.. صادفا منزلًا متواضعًا لا هو بالضيق ولا هو بالواسع، منزلًا يقف عند شرفته المزينة بالورد والياسمين فتىً حسنُ الهيئة والملبس يبدو عليه البلوغ يرتب من ياقة قميصه، والفرح واضحٌ على محياه. تمعن غلوفيدش في ذلك الفتى، فوجد وجهه نضرًا بشوشًا، وعيناه تلمعان ببريقٍ يجعل الناظر إليه يخاله ملاكًا نزل على الأرض..

تحرك ذلك الفتى قليلًا واستند على سياج الشرفة الرخامي، وطالع النجوم في السماء، وأخذ يغلق عينيه يتخيل خيالًا متناغمًا مع نسيم البرد وحركة الأوراق المتساقطة، كان كأنه يبتعد عن رائحة الدخان الذي تطلقه المداخن والمصانع.. ويسرح في خياله كيفما شاء..

ظلَّ الطفل غلوفيدش يتأمله حتى قال بصوتٍ خافتٍ لا يريد به قطع تأمله:

- ذلك الفتى مذهلٌ بحق يا هامدلز، بيته، وشرفته، وهيئته.. كلها أمورٌ رائعة!

ليجيبه هامدلز والذي كان يراقبه وهو يطالع الشرفة:

- إنها كذلك.. الزهور التي هناك جمي... (تلكأ قليلًا بعد إذ تنبه لزهرة الياسمين) إنها جميلة حقًا.

ليقول غلوفيدش مبتسمًا:

- مذهلٌ يا هامدلز، سأطلب من الجدة غادِليم أن تمنحني الإذن بزرع زهورٍ كهذه، لقد أحببتها حقًا.. لكن، أسنعيش في المستقبل مثل هذا الفتى في يومٍ ما يا هامدلز؟

توقف هامدلز لبعض الوقت عن المشي، وطالع الشرفة هذه المرة مستعلمًا ثم قال بعد تردد:

- لست أنا من يجيب، غلوفيدش.. بالتأكيد لست أنا، إنما هو قدرنا، قدرك، وقدري.. الكل له قدرٌ سيواجهه حتمًا، إن لم يكن اليوم فغدًا بالتأكيد، هذا ما تعلمته يا غلوفيدش.

«رَقصَةُ الشِّتَاءِ»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن