1- ألوان الصيف

180 33 30
                                    


يومُ صيف حامٍ من سنة لم أذكر لها رقمًا، كنتُ قد أُرغِمتُ على ملازمة مقعد السيارة لساعات من أجل زيارة لم أدري لها سببًا مُقنعا لسحبي خلالها، إنها إجازة الصيف القصيرة التي فضَّلتُ قضاءها بغرفتي ألعب بأجهزتي عالية القدرة والتقنية بدلًا من ريف غبي لا يلتقط أي شبكة اتصال.

الشبكة حقا كانت سيئة للغاية...لما انصعتُ لوالدي حتى؟ رغبتُ بشدة في السب والشتم لكن أعرف عواقب هكذا أفعال لذا آثرتُ الصمت والتذمر كلما سنحت الفرصة.

أمضينا الليلة الأولى في التسامر مع قريبنا الكهل وزوجته الأربعينية وكم بدا والدي مرتاحًا لهما، غير أني لازمتُ صمتي ورددتُ وقت السؤال فقط، ثم حل الصباح الأول لتلك الزيارة القصيرة.

أرشدني الكهل لعنوان حسب قوله يمتلك إشارة جيدة للهواتف الذكية، استخدمتُ دراجة بدت قديمة في مرآبه الخلفي ولا أنكر أن قيادة الدراجة تحت الشمس مباشرة وسط الحقول المفتوحة على السماء الصافية كانت مرهقة لأبعد الحدود.

حين وصلتُ لتلك البقعة المنشودة لم أنل مرادي الذي قطعتُ مسافة لا بأس بها لأجله، الإشارة كانت لا تزال بعيدة في حين كنتُ وسط الخلاء لا أثر لكائن واحد، عدا تلك الأراضي المزروعة كان هذا خلاءً حقا!

لم أكن على استعداد لعودة أدراجي بهذه السرعة، أخذتُ الدراجة المهترئة وأسندتها أرضًا قرب شجرة احتميت بها من لهيب الشمس، بل الأحرى أسقطتُ نفسي أسفلها. أطلقتُ بصري يجول بهواه أمامي، لا أرى شيئًا غير الأراضي المنبسطة التي لا نهاية لها غربًا ثم حدود الغابة هناك شرقًا، لا أفهم حقا..ما المميز بكل هذا؟ الجو لا يطاق، لا توجد شبكة، ولا حتى بشر بعددٍ كافٍ!

استلقيتُ مُبعدا أطرافي عن محور جسدي وأغمضتُ عيني أحاول تناسي درجة الحرارة التي شوَتني كدجاج على سيخ حامٍ، لا أدري كم استغرقتُ حتى غفوتُ لكني فعلت.

أشعر بدغدغة قرب وجهي، شيء مُشعر يشكني ويُشعرني بالحكة، استغرقتُ القليل حتى أفقتُ بالكامل واعتدلتُ مكاني لأداعب القطة التي انتشلتني من غفوتي القصيرة، بِيدَ أنها قطة منزلية فقد كانت أليفة ومعتادة على المداعبة، غلب على جسدها اللون البرتقالي وجزء من وجهها الصغير مُزيَّنٌ بالأبيض.

لا أعلم لما هربَت من حجري بعد لحظات قصيرة من ارتياحها فيه، انتابني الفضول الناتج عن الملل لاتباعها ورؤية وجهتها رغم احتمال عودتها لصاحبها..وأنا لم أرد التعامل مع إنسان غالبا سيكون امرأة عجوزًا أو كهلا باغته الشيب.

بين تلك الأشجار التي تحولتُ خلالها عدة مرات راودتني فكرة أن يكون ما أفعله لا فائدة منه، أعني..إنها مجرد قطة فماذا قد أجني من اتباعها؟

حتى صفعتني نسمة هواء عابرة بعد مروري بالجذع الأخير كنت فاقدًا كل الأمل برؤية ما يراه الآخرون مميزًا في مناطق الريف البدائي، لكن أمن المبالغة القول أنه كان لوحة رُسمت بكل إتقان؟ موهبة فذة ومُصقلة مع تدريب طال سنوات لا تعد ولا تحصى، ربما كلوحات بيكاسو أو دافنشي!

لكنها لم تكن كذلك، لم تكن لوحة، ولم يكن رساما من أبدعها، بل كان الخالق المُصور سُبحانه.

ومن أعظم منه يصور عالمنا بأبهى حُلَّته، ومن غيره قادر على خلق الإنسان بأحسن صوره!

وكانت الهيئة الواقفة أمامي أكبر دليل على إبداع الخالق الأحد، فما كادت تتلاقى أعيننا إلا وقد شهدتُ توردًا زيَّن الملامح المقابلة لي، أكان خجلًا؟ أم هي حُمرة طبيعية كسَت ملامحها الثلجية؟ حتى النَّمش كان كترتيب مُنسَّق لبشور الزنجبيل الداكن!

ريحٌ خفيفة داهمت شعرها الأشقر المُجعد والذي تناسب بكل رونق مع فستانها الأصفر ذي نقوش أزهار النرجس البري، فكأنما أشاهد وُريقات أزهار تتحرك مع الرياح التي هبَّت.

أمسكَت بإحكام قبعتها القشية حتى لا تذهب بمهب النسمات الشديدة، وبعد أن فتحَت عينيها المحكمتان أعادت بصرها لي..كانت أعينها بلون نيلي شديد الزرقة، كحجر لازورد يخاف جفناها أن يُسرق منهما.

تُرى لما قلتُ أنها لوحة عظيمة؟ صحيح..إنها الألوان الآسرة التي حكمت جوفي وأسرت كياني، ثم تلك الخضرة التي تكسو كل ما أرى غيرها، أردتُ وبشدة تقليص المسافة بيننا إلا أن جغرافية المكان لم تسمح..أو هو ذاك الجدول الذي لم يسمح.

عكس صورتها مع عكسه للون السماء الخالية من كل شيء عدا الشمس الحارقة تحمل حِفنة من زهور الخزامي التي تعكس لونًا ليلكيا صاخبا..مزيج لم أتوقع رؤيته من تدرجات البنفسجي بزهرة واحدة، تمامًا كما لم أتوقع رؤية ألوان الطيف بفصل الصيف الحامي.

تعجبتُ كيف أصبحت تلك القطة على الجانب الآخر فجأة، بل سقطت من الأعلى على كتف تلك الربيعية الجميلة بعد تسلق الأشجار والقفز بين الأغصان، وتعجبتُ أكثر لكون هيئة بهذا النقاء تتواجد داخل حدود عالمنا..هل هي مبالغة؟ لا أظن.

انتشلني من تأملي لها ولحُمرة خديها اتساع حدود ثغرها، لقد ابتسمت لي وأنا من فرط وقعي قد وضعتُ ابتسامة بلهاء تقابلها ورفعتُ يدي ألوِّح لها.

فور أن استجمعتُ شجاعتي للتحدث إليها من الجانب الآخر كانت قد استدارت وأعطتني ظهرها لترحل، حاولتُ مناداتها بأقصى ما خرج صوتي لكنها لم تلتفت أبدًا! أتجاهلتني عمدًا أم تُرى لم تسمع صياحي؟..كان هذا تساؤلي.

لسوء حظي فقد رحلت واختفت تماما عن ناظري، ثم وقفتُ لبعض الوقت أستذكر هيأتها وملامحها بعقلي، فلو كانت الذاكرة حجرًا لصِرتُ نحاتا أنقش وجهها عليه لكن هيهات.

كانت تلك أول مرة حقًّا ألتفتُ لجمال الطبيعة حولي؛ للشجر والشجيرات، الأزهار بألوانها الخلابة، للسماء الساكنة غير متذمر من عدم وجود غيمة واحدة تظللني، أو حتى لمجرد النسيم العليل الذي يأتي كل فترة.

عدتُ أدراجي شاردًا وكأن عقلي قد توقف عن التفكير في حضرة صورتها، كنتُ قد نسيتُ سبب وجودي في تلك البقعة من الأساس.

تمرُّد، الحُب الأبكَم. ✓حيث تعيش القصص. اكتشف الآن