الفصل الثالث: رَقْصَةٌ لَيْلَةَ مَضَىٰ

45 16 43
                                    

- إلى أين ستذهبُ يا شوبكن؟ الساعة الآن العاشرة إلا عشرون دقيقة!

نادتْ والدة شوبكن السيدة "مارغريت" إياه وهو ينزل من على السلالم الخشبية المزينة والجميلة، فأجابها شوبكن بنبرةٍ فيها السرور:

- سأزور اليوم أحد أصدقائي، وذلك الصديق عزيزٌ على قلبي يا والدتي، انتظرت طويلًا هذا اليوم!

لتبستم السيدة مارغريت، وتضع كوب الشاي على الطاولة إلى جانبها، وقبل أن تقول شيئًا، ذكر لها شوبكن:

- منزله قريبٌ من هنا، على بعد شارعين أو أكثر.. لن أطيل الزيارة..

لتقاطع والدته حديثه فتقول بنبرة هادئة:

- شوبكن يا ولدي الحبيب، يمكنك الذهاب إن كان الأمر كما تقول، لا مانع عندي ولا عند والدك.
- يعجبني كيف تتكلمين نيابة عني (يكمل والد شوبكن قراءة الرسائل) لن يختلف الأمر إن تحدثت.. أنا موافق.

بعد أن سمع شوبكن كلام والديه، ابتسم ابتسامة مفعمة بالحيوية كما لو كان أسيرًا انفكَّ أسره، أو حزينًا زال همه، أو مريضًا انتهى مرضه.. وانطلق يركض نحو والدته فعانقها عناقًا طويلًا، وشكرها كل الشكر؛ إذ كان الحائل بينه وبين الزيارة كلمةٌ من والديه.

بعد انتهاء شوبكن من معانقة والدته، رَتب من هيئته للمرة الأخيرة، ثم خرج من المنزل والسعادة تملأ وجهه.. ذكرت السيدة مارغريت مخاطبةً زوجها الروائي السيد "روزالدييف" بعد أن خرج شوبكن:

- أتذكر الموقف ذاته وكأنه البارحة، تَذكرُ تمامًا كيف كان أول لقاءٍ بيننا، أليس كذلك روزالدييف؟

ليرد عليها وهو منهمكٌ في قراءة الرسائل:

- وكيف لي نسيان لقائنا الأول يا أميمتي؟ تلك الحديقة الخضراء، لكم حزنتُ على بناء دار أيتامٍ عليها.
- كنتُ قد قلت لوالدي ذات كلام شوبكن، أتظن أن ذات الموقف سيحصل؟

ترك روزالدييف الرسائل ملقاةً على الطاولة، ونظر إلى زوجته بعد أن نزع نظاراته.. فرد عليها:

- إن التاريخ يتكرر، مارغريت.. دائما يتكرر، لكن قصةً كقصتنا الجميلة لا أخالها تتكرر بتلك البساطة يا مارغريت.

ضحكتْ مارغريت، فتبعها زوجها بالضحك.. وزاول كلٌ منهما ما كان منشغلًا به.

نسمت الريح وارتعشت أغصان الأشجار، ولاطفت تلك الأنسام أنامل شوبكن.. فنظر إلى الشارع وبدأ السير إلى منزل الصديق الذي يقصده، حازمًا ثابتًا لا يبدو عليه أنه تعلم الضعف، ورث شوبكن عن أبيه الفارق العجيب بين شخصيةٍ ثابتةٍ تأخذ كل الأمور بمحمل الجد، وشخصيةٍ خفيفةٍ لا تغادر البسمة وجهها؛ إذ الشخصيتان واحد.

مرَّ شوبكن بالدكاكين والمحلات بناية بناية؛ فقد كان يمر ويلقي التحية على من يصادفهم بالتحية الأوروبية القديمة، وجد بطبيعة الحال تباينًا في المارة.. متسولون يجوبون الشارع بملابسهم الرثة والبالية تلك، وموظفون عند الدولة منهم الكاتبُ ومنهم الطبيب، وكذا المرموقين ممن لا تجدهم إلا في مركباتهم يتحركون.. كلما مر شوبكن من جماعةٍ من هؤلاء، كان يترك فيهم نظرةً تعلو وجوههم مقصدها الاستعجاب من أمره…

«رَقصَةُ الشِّتَاءِ»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن