خلف الكواليس

27 1 0
                                    

بدأ الكاهن يستظهر ما يحفظه من تلاوات واهية إقامة لطقوس الصلاة في يوم نهاية أسبوع غائم ، ليس بالبعيد عنه تجلس الماما أنجيلا خاشعة مرتدية أطمارا ليتورجية شديدة السواد ، كغراب يترأس قبعة فزاعة وسط حقل ذرة في غياهب الريف ، تترنح أنجيلا برأسها مغمظة العين و الدمع  يتقاطر من رحم جفونها ، و جسدها مقشعر إلى ٱخره .
موكب الكنيسة لازال يردد تلك الترانيم المستفزة،  الأب توماس يخاطب بكل دبلوماسية ، سياسة و تملق :
- إن الرب بإيثاره يمنحك ما تريد في دنياك الٱخرة بأقل ما لا تريد أن تشقاه في دنياك الأولى ، يهبك الفردوس مقابل كل ماهو رمزي من عباده ، أترضون يا إخواني أن يخيب ظن الرب بيكم ، فاسرعوا إلى طلب الغفران و التكفير عن شناعتكم .
فأسرع العباد ينوحون و يصرخون يرمون ما يملكون من نقوذ في صندوق الكنيسة و يتوجهون الواحد تلو الاخر للاعتراف بٱثامهم من وراء الحاجز لتوماس ذاك

ويال عبثية الحياة لما تقدمت الملاك أنجيلا مشت نحو الحاجز تتحابى بينما ضمت يدها إلى صدرها وتشهق كثكلى فقدت ابنها في حرب بعد انقطاع خبره لشهور و أيام , حاولت الراهبة البدأ في الحديث لكن صراع قلبها و عقلها مع حواسها بعثر أفكارها، فربط لسانها و أصبحت تتمثم و تتلعثم فقط ولا تتفوه إلا بالهراء , حاول ذاك الشيء من وراء الحجاب التهدئة من روع السيدة , لأنه أدرك أن الفريسة أتت إليه صاغرة مستسلمة :
- أيها الأب لا أعلم من أين سأبدأ أو ما سأقول لكنك من الناس الأكثر معرفة بي , لكني لم أقصد القيام بذلك...أقسم أني لم أقصد ... جسدي يتحرك من طوع نفسه ...
- لم أفهم ما تقصدين أيتها الماما أنجيلا
- حينما ولدت وجدت نفسي في كف إبليس من جهة و بين يدي مشعوذة من جهة أخرى ، أمي ، لا بالطبع ليست أم، كيف لأم أن تجعل ابنتها التي في عز طفولتها و في عمرها الوردي تجارب سحرها و هراءها ، زوجها الذي اغتصب في عز الصبى و خرب في روحي بياض وجمال الفتاة ومارس علي ملا يذكر ويطاق ، ترعرعت على هذا حتى تربت في نفسي كينونة مجنونة و هوية انفصامية مخبولة و ايديولوجية سايكوباتية ، لا يمكنني أن أترك فتاة تعيش لتلقى نفس مصيري ، لذا قتلتهم بل أنقذتهم من عيش هذه المأساة و في نفس الوقت لا أطيق رؤيتهم يحيون بهناء بينما أنا قاصيت الأمرين ، لا أعلم كيف و لا متى لكني لا أشعر بخوالجي حتى أجدني أقتلهم ... أيها الأب توماس هذا ليس ذنبي أليس كذلك ......؟!
- بالتأكيد ابنتي الرب لا يلوم عبدا أنفق من أجله بل ينسى كل ٱثامه مقابل كرمه
فأنفقي من أجل الرب يغفر لك يا أنجيلا !!  لكن أحقا أنت المسؤولة على سلسة قتل القتيات بالمدرسة المجاورة !؟
- إنها أنا أيها الأب توماس
- اذهبي لقد غفرت خطاياك !
هذا ما همس بعد أن مررت أنجيلا رزمة من الدينارات من وراء الحاجز .
من يصدق أن المرأة الموقرة صاحبة الملامح الصارمة و المهيبة و ذات السمعة الطيبة أن تكون بهذا المرض و التعقيد النفسي الإجرامي العميق
بعدها دخل رجل كفيف معصوب العين اليمنى نحو الحاجز ، رجل زنجي تظهر عليه ملامح العبودية و الكدح ، وجه يروع الخاطر ، منتوف الحاجب ، أسنان فسيفساء شديدة البياض ، جث على ركبتيه الضخمتين ، فقال بصوت خافت :
- لا اعتقد أني ذاهب إلى الجنة مهما قدمت و ضحيت ، ما اقترفته رجح ميزان ٱثامي وألقى بي في مقتل ، فلا أعتقد يا أيها البابا أني سالك ، فبدأ يصرخ بهوس و جنون
سالت لعاب توماس :
- اشتري الفردوس بكوثرها و رحيقها يصبح النعيم مثواك و مأخر مهجتك
- لكن لا أملك ما أهب الرب ، مجرد عبد ولد  و الأغلال حول عنقه ، ٱثار التبعية و الوضعية رشمت بخط من دم على جبيني منذ أولى صيحاتي
- هب نفسك للإلاه امنحه روحك ، أعطيه دمك يمنحك المنزلة الفضلى ، لكن ما معصيتك التي ارتكبتها؟!
- انتقمت من سيدي في ابنته ، هتكت عرضها ، ففررت هاربا صاغرا ، كانت كتلة براءة ، عنقود جمال و صفاء لكن حقدي و نار غضبي أحرق بشرارتها ريحان و بنفسج بستان نقاء قلبها ; تابع حديثه و يشهق باكيا :
- أستحق الجحيم و نكيلها ، عذاب النار و نغصها لذا لا داعي من شراء المغفرة
توتر الشيطان في عزلته و أخرج يده فضرب على رأس العبد اثنتان فتمتم بحنية و هدوء :
- البشر خطاء و الرب يغفر لعباده فقط امنحه ما استطعت
وقف العبد فخرج وهو يعلم مدى استحالة متابعة الحياة بهذا العذاب النفسي القاهر و انعدام كلي لسلامه الداخلي ، لذا قررت الإمتتال لتوماس و أن يسلم نفسه للرب طمعا في الجنة

حينها أدركت كمية الهراء و العدمية ، و الأساس العبثي الذي تقوم عليه الكنيسة ، و كيف يستغل الدين لترويض القطيع ، كيف لإله بعظمته أن ينتظر عبده أن يمنحه ، و يهبه و يضحي من أجله ، أليس هذا من أتفه التناقظات ، و أيقنت أن توماس ليس إلا مجرد وغذ ينوم مغناطيسيا الناس مستغلا زوبعة تأنيب الضمير و حسرة الندم

خواطر مجنونحيث تعيش القصص. اكتشف الآن