الفَصلُ السَّابِع: كَمدٌ يَنهَشُ الرُّوح.

64 9 42
                                    

يَستندُ بِذراعهِ المَوضوعةِ عَلى المَكتَب بِضجَر، بَين الفِنيةِ وَالأُخرَى يُحملقُ فِي عقَاربِ السّاعةِ المُتراقِصةِ بِبُطء، وَمن ثمّ يُعيدُ نَظرهُ إِلى الكِتاب الّذي بِجانِبه. مرّ أُسبوعٌ تَقريبًا وَهُو عَلى هَذِه الحَال، حَبسَ نَفسهُ فِي القَصر مِن تِلقاء رَغبتِه؛ كَي يُبعدَ عنهُ كلّ ما هُو مُثيرٌ للرّيبة، فبعدَ ما حَصلَ تلكَ اللَّيلة، يَضمنُ حتمًا أنّ اِنكشافَ هُويتِه عَلى الأَبواب، وَلهذَا السّبب بِالذّات يَكادُ التّبرُم يَقتله.

زَفرَّ تزفِيرةً مُتعبةً وَهُو يضعُ رَأسهُ عَلى المكتَب بِكلُوح، وكلّ هَذا حَدث تَحت أَنظار أَران الّذي وَلجَ الغُرفَةَ توًا، رَفعَ حاجِبًا بِاِستنكَار قَبل أَن يَتقدمَ بِضعَ خُطواتٍ إِليه، أَخدَ الكِتابَ الّذي يَقرأهُ وَفحصَ مُحتوَياته، وَقد كَان رِوايةً تَغلفَهَا الغُموض وَاِستقَر بينَ طياتِ أَسطُرها.

اِنتبَه السّماوِي لِمجيءِ وَالده، لكنّه لَم يَرفَع رَأسهُ أَو يُبالِي بِه؛ مِن جهةٍ لأنّه كَان كَسولًا لدرجةٍ لَا يستطيعُ تَحريكَ فيهَا أيّ شبرٍ مِن جَسده، وَمِن جهةٍ أُخرَى لَا يمتلكُ الشّجاعةَ لِمُواجَهته؛ يَكرهُ الاِعترافَ بذلكَ لكنّ وَالدهُ ذكيٌ جِدًا، وَاكتشافُ شذوذٍ أَو أيّ خَطبٍ به بسيطٌ لِلغاية، وَخاصةً بَعد أَن علمَ بِحادثةِ الاِنفجَار.

«مَتى صِرتَ مُهتمًا بِرواياتِ الغُموض؟ بَل أَلستَ كَارهًا للرّوايات مِن الأَساس؟ لَم أَركَ تُمسك كِتابًا عَن الطّب مُنذ فَترة.»

أَشخصَ الصّبي السّمعَ لكلماتِ وَالدِه، فَتيبسَ جَسده وَجَفت عُروقهُ مِن الدّم؛ لِم تَناسَى نُقطةً مُهمةً كَهذه؟! مَا الّذي سيفعلهُ الآن؟

رَفعَ رَأسهُ وَثبتَ عيناهُ عَلى عَيني وَالدِه، أَجابهُ وَبسمةٌ بَاهتةٌ رُسمَت عَلى الشّفَاه: «لَطالمَا أَحبَ صديقِي رواياتَ الغُموض أَكثر مِن غَيرِها، لِذا أَردتُ مَنحَ الأَمر فُرصةً علّي أَفهمُ سببَ وَلعهِ بها، وَكمّا تَرى فقَد أَدمنتُ عَليهَا الآن. وَأيضًا لَم أَعُد مُهتمًا بِالطّب، لَا أُريدُ أَن أُصبحَ طَبيبًا!»

حَدّجهُ أَران بِنظراتِ الاِستنكَار حِين اِستفسَر: «لِمَ؟ أَلم تَقُل أنّك تُريدُ إِنقاذَ حَياةَ العديد مِن الأَرواح؟»

«لَقد كُنت مُؤمنًا أنّ الطّبيبَ يُمكنُه مُساعدةُ الجَميع، لكنّي اِكتشفتُ بَعد مَوتِه أنّ اِفترَاضِي خَاطِئ، لِذَا...»

بَتَر دِيلَان جُملَته، وَاِصطنَع الحُزن وَالكَآبة عَلى مَحياه، فَتساءَل أبُوه بَعد أن اِحتَل الصّمتَ سَاحةَ المَوقِف: «كَيفَ مَات صَديقُك؟»

جَفلَ جسدُ الصّبي، قلبهُ يَنتفضُ دَاخِل قَفصهِ الصّدري وَيكادُ يُفلتُ مِنه؛ لَا بُد أَنّه يَشكُ فِي أمرٍ مَا، هَل اِنتهَى أَمرُه هَذه المَرة؟ حَل عَليهِما صَمتٌ أَجوفٌ ثَقيل، بَاردٌ كَالصّقيع، مُحرجٌ وَغيرُ مُريح.

شَطرُ مَنفَى -قيد التّعديل-حيث تعيش القصص. اكتشف الآن