الفصل الأول

7.7K 382 423
                                    

و أعشق عمري لأنّي

إذا متّ،

أخجل من دمع أمّي!

__محمود درويش

***********************************

" لم يعد للوقت وزنه المعتاد أمام اللّهفة التي عصرت بعد كلّ خطوة جديدة روحه. حتّى دقّات قلبه صارت تسابق الثّواني كلّما اقترب من الباب الخشبيّ الأزرق الذّي نهشه السّوس على مدى سنين.

أخيرا استطاع وضع يده على مقبضه و دفعه. ذاكرته لم تخنه، مازال الباب مستحيل الإغلاق. أوصده خلفه ببطئ كي لا يصدر صوت قزقزة، مسح بركة العرق المتكوّنة على جبينه و عبر الرّواق الضيّق بهدوء.

أمكنه أخيرا أن يراها داخل مطبخها، تغسل الأواني بصمت أخرس. أسند جسده على طرف المدخل و وضع الحقيبة الثّقيلة على الأرض. ظلّ يراقبها، الهيئة نفسها منذ سنين، الجبّة الواسعة و الشّال الرّقيق على رأسها، تمسح بيدها المجعّدة الصّحن الكريستاليّ الوحيد الذّي تملكه. لابدّ أنّ أحدهم زارها منذ حين حتّى استعملته.

التفتت كي تعيده إلى الخزانة العتيقة بالجانب المقابل فلمحته، ارتخت يداها ليقع الصّحن على الأرض و يتفتّت قطعا صغيرة، اتّسعت عدسات عينيها و تجمّدت في مكانها بذهول. استطاعت بعد صراع بين حبالها الصّوتيّة و أنفاسها أن تنطق بتلك الكلمات بجهد جهيد، فالصّدمة قد شلّت جزئيا عصب إدراكها.

- ي.. يحيى! أنت حي؟!

ابتسامة يشقّها الألم ارتسمت على وجهه، اعتدل في وقفته ينظر إليها و الشّوق يمدُّ جسوره من عينيه إلى عينيها. سار إليها، إثر كل خطوة تساقطت سنوات عمره ليعود طفلا بين يديها.

سقطت دموعها على صدره كي تغسله من كلّ خطاياه، أحاطها بذراعيه و ضمّها بقوّة ليطفئ النّار التّي اشتعلت في قلبه و يشمّ ريحها.

- أعدك أن لا أتركك بعد اليوم يا أمّي.. لقد جئت لك بهدايا كثيرة حتّى تصفحي عنّي!

شدّته ناحيتها أكثر و شابكت أصابعها حوله كأنّما تخشى أن يكون ما تحياه حلما أو يفلت من قبضتها.

- يكفيني منك أنّك حي يا ولدي... "

****

- تحتاج إلى توصيلة ؟

أيقظه ذاك الصّوت الخشن من أحلام يقظته، تذكّر أنّه مازال واقفا على الرّصيف أمام المطار يحملق في الأعلام الحمراء المرفرفة. كان يتذكّرها كلّما رأى ذاك العلم القاني، هي كلّ ما يربطه بهذا الوطن. أعاد تعديل حقيبة الظّهر على كتفيه، كم تمنّى لو عاد إليها بتلك الحقيبة الثّقيلة المملوءة بالهدايا، لكنّه بالكاد وجد لنفسه تلك الخرق التّي يرتديها. بصق على يمينه المرارة التّي استعمرت نفسه و سار نحو سيّارة الأجرة.

ّقبل أن يركب أرسل نظرة أخيرة إلى المطار، قرأ تلك اللاّفتة العملاقة بسخرية: " مطار تونس قرطاج ". الحظ الأسود ما جعله يخرج من بوّابته، لكنّه واثق أنّه لن يعود إليه إلا ّ إذا خطر له أن يعمل حمّال حقائب، و هو احتمال مستبعد.

المهاجرWhere stories live. Discover now