١٥ | مِصيَدة

52 6 0
                                    

"الشوكولا الساخنة؟"

كان ذلك أوّل ما قاله السيّد واتِرسون فور رؤيته للآنسة كريستي تجلس في نفس الكرسي الذي تركها عليه، تحيط كوبًا أبيض بكِلا كفَّيها. فاحَت رائحة البندق والكاكاو فاضحةً محتوى الكوب فلم يكُن التكهُّن بمشروبها صعبًا. وقَع سؤال الرجل على آذانٍ صمّاء، بدا وأن ما قاله قد ضاعَ بين جزيئات الهواء القادمة من التكييف المركزيّ في سقف الغرفة الذي كان له دويّ طفيف يبعثُ على النّعاس. لم يعبأ بتكرار سؤاله إذ راى وجهها وقد ارتخَت عضلاته وتسمّرت عيناها في نقطة بعيدةٍ أمامها حيث لاشيء فيها يدعو للتأمل. استراح المحقق على الكرسيّ مُطلِقًا تنهيدة تعب؛ لقد كان يومًا طويلاً، ويبدو بأن العمل الدؤوب لن يبدأ إلا الآن.

"أتجيدين ركوب الخيل، آنسة كريستي؟"

مرّرَت سبابتها على حافة الكوب اليُسرى، بقيت على حالها بضع ثوانٍ قبل أن ترتشف المزيد من المشروب الدافئ وتكتفي بإيماءةً بسيطة كإجابة. تعابيرها الشاردة تغلّف وجهها صارخةً بأنها لا تعلم بِما يجري خلف جدران الغرفة. غطّت طبقة لامعة من المياه المالحة عينيها، لم تكن كثيرة بما يكفي لتبكيها ولا قليلة لكي لا يلحظ وجودها أحد، ظلّت مُتعلّقةً بمُقلتيها كدلالةٍ على الرهبة التي تشعر بها والتشتت الذي حاوطها منذ قدومها إلى هذه الغرفة المشؤومة. لقد تمنّت دخول قريلوود منذ الأمد، لو كانت تعلم أنها ستدخلها هكذا لكانت دقيقةً أكثر في أُمنياتها.

"أتُوجدُ أنديةٌ تعليميّة في مارسيليا؟ كيف وهي تستقبل التموين الغذائي من قريلوود لأنها بلدةٌ غير زراعية لتحوزَ على المواشي، إضافة لأنها ليس فيها ما يكفي من التمدّن لإنشاء مراكز رياضية لتعليم الشباب، كما أن مارسيليا لا يوجد فيها شباب من الأساس، كما تعلمين."

رفعَت ناظريها لتمحّص وجهه عن أي دليلٍ للسخرية فلم تجد أيًّا منها. "أنا الشابّة الوحيدة هناك.." قالت بنبرة تذكيريّة، وكأنها تُعلمه بأمر قد نسيَه. اكتفى هو بالإيماء مرات عدة قبل أن يهمس بـ'بالطبع.'

"إذًا في هذه الحالة، من علمكِ إيّاها؟"

أطالَت التفكير، وإن صحّ التعبير فلقد أطالت الشرود، إذ أنها مهما حاولَت لم تستطع استذكار أي لحظة مع أيّ شخصٍ علّمها، لقد كانت تعرف بأن أحدهم قد درّبها، تشعر بجوارحها تميل للأحصنة وهي تمتطيها فتحسّ بخفّة روحها. تشعر بأنها تعرف ركوب الخيل منذ كانت مراهقة. من كان ذلك؟ من الذي دلّها على هوايتها قبل أن يمحي نفسَه من رأسها؟

"أظنّ بأنه أبي...؟" لم تكُن تلكَ إجابتها، بل كان سؤالاً صادقًا. علمَت منذ لقاها بهذا الرجل الأسمر بأنه لسببٍ ما يعرف عنها أكثر مما تعرف هي، يعرف أكثر مما ينبغي. لذا جرّبتْ سؤاله، لربما يجيبُ هو هذه المرّة كما ظلّ يفعل طوال هذا الوقت.

أوتوفوبيا | Autophobiaحيث تعيش القصص. اكتشف الآن