{ اتّفاقيّة سلسة }

48 6 0
                                    


*
*
يقف حائرا أمام تلك اللوحة ، تخالجه امامها مشاعر متفاوتة لا يستطيع انتقاء واحدة منها ليصف ماتراه عيناه ، وكلما أدار وجهه عنها قاصدا غيرها وجد عيناه تعودان لتنظران في تفصيلة أخرى ، كان يتساءل في نفسه مرارا وتكرارا طيلة وقوفه أمامها
" ما الشيء المميز فيها ؟ "
ولم يكن بتساؤله هذا ينفي روعتها أو إتقانها  بل كان يحاول إيجاد سبب مقنع لشدّها لانتباهه  ، وقد مرت دقائق طويلة حتى آلمته قدماه وظن لوهلة أنه واللوحة تبادلا الأماكن ، فصار متيبس الأوصال يرى القاصي والداني يجولون في الغرفة يتأملون ماعلّق على جدرانها وحين دقق النظر أكثر بانت له هوياتهم ، تلك التي تصب الماء من الإناء وجنة وأطفال بأجنحة حولها وذاك الذي يشدّ رسن خيله  ليضبطها وقد هاجت فكادت توقعه وسط حشد من الرؤوس  والأطراف المقطعة في ملحمة دموية، طفلة بجدائل تركض في الأرجاء تطارد طيور ملوّنة وشابّة تنوح على فراق أحدهم ، وأياد كثيره أحداهن تحمل ريشة ملطخة بالحبر والأخرى يتدلى من بين أصابعها شريط وإحداهن  مزينة بخواتم ذات أحجار كريمة تشير إليه ...

تيبست أوصال دانييل ودب الخوف في عروقه وقد أدرك أنه معاق عن الحركة فبدأت خفقات قلبه تتسارع حتى ظن أنها ستخرق طبلة أذنه ، أخذ يلتفت يمنة ويسرة ليخرج نفسه من الإطار المعلق فيه لكن همسات حوله بدأت تعلو برتم متساو ، مرت ثوان استجمع فيها ما استطاع من الطاقة لينظر حوله ما جعله يشتم نفسه مرارا وتكرارا على ذلك فقد وجد أعينا تحدق فيه وأيد تشد اللوحة تحاول اخراجه منها وأنين تتخلله كلمات مبهمة لم يفهم منها سوى
" أرجوك ... النجدة ! "
استيقظ هلعا لينهض من فراشه والعرق يتصبب منه ، كاد يغمى عليه من هول الكابوس الذي رآه لكنه تمسك برباطة جأشه خوفا من أن يرى ما رآه مرة أخرى ، أخذ يتلمس وجهه وجسده ومحيطه ليطمئن عقله بأن ما فات كان مجرد وهم مزعج ولا وجود للوحة هو عالق بها أو أيد تطلب النجدة ، زفر بعدها طويلا
" عليّ مساعدته  "
*
*

نغم حزين تراقصت عليه العصافير المختبئة في أعشاشها من الصّقيع ، وتمايلت معه وريقات الشّجيرات الصّغيرة المحصورة في أصص زينت بها النّوافذ لتنفض ما أثقلها من ذرات الثلج المتجمعة، كانت أصابعه تنقر على الأوتار بتواتر وتتنقّل من وتر إلى وتر ليكمل حياكة نوتات المعزوفة بينما يروي في عقله قصة حزينة سالت من عينيه لتقطر ذكرياتها فوق خشب عوده الكمثريّ .
طرق أحدهم الباب ليدخل ويستأذن الجالس قرب المدفأة مع آلته الموسيقية التي صمتت لثوان
" اعذرني أرجوك ، هناك شابّ في الخارج يدّعي أنك تعرفه "
استأذن رئيس الخدم مطأطأ رأسه ، فما كان من ويليام إلا أن أعاد ناظريه المثبتين نحو الخادم إلى عوده
" فليتفضل ، وأنت تركته في الخارج ينتظر صحيح ؟ "
ارتجف جسد الخادم النحيل خوفا وأخذ يعدل نظارته وتحدث متأتئا
"س سيدي ، أنا ظننت أن ، أعني أنني أردت إخبارك أولا "
أعاد ويليام أنظاره إليه ليراقب ارتجافه اللامبرر -نسبة له -
" أنا أحفظك عن ظهر قلب هودسون ، انت دائما ما تنظر إلى عامة الناس بنظرة دونية ، ثم لم كلّ هذا الخوف ليس وكأنني سأطردك لفعلتك تلك "
رفع هودسون رأسه واعتذر لينصرف ويغلق الباب ، نفث ويليام بانزعاج فقد شتت الآخر أفكاره وبعثر نوتاته وماهي إلا دقائق حتى قرع الباب مجددا ليدخل هودسون يتبعه فتى  فيروزيّ العينين أبيض البشرة  أشقر الشعر ، فاستبشر لرؤيته فورا
" دانييل ! مسرور لرؤيتك "
حدّثه وهو يشير له ليقترب ، ثم طلب من ذي النظارات الواقف عند الباب أن يحضر لهما فنجانا قهوة . جلس دانييل قبالة ويليام على أريكة حمراء قانية وأزرار بنية كالمنضدة أمامه وبجواره مدفأة الحطب  ، فحدثه ويليام
" آمل أنك جئت لتخبرني بموافقتك "
أومأ الشاب برأسه موافقا بينما يقلب كفيه في بعضهما وينفث فيهما ، فلاحظه صاحب العود ليكمل
"اعذر تصرّف هودسون المُعيب  ، هو فقط يحب استشارتي في كل صغيرة وكبيرة ولم يقصد تركك لتتجمد في الخارج ..."
أخذ دانييل يلوح بيديه أمام وجه نافيا أيّ انزعاج قد خالجه ، وبخجل من لباقته كلّمه
"لا عليك أبدا سيدي ، لم استأ  مطلقا ، ثم إنّ له الحقّ الكامل في استئذانك وعدم السماح لأيّ كان بالدخول "
تبسم ويليام واستند إلى ظهر أريكته
" إذاً لنرى ... قد وعدتك المرة الماضية بأن أعينّك كرسّام للعائلة - إن قبلت المساعده - وها أنا ذا سأوفي بوعدي "
أكمل جملته وهمّ بالوقوف ليستوقفه دانييل
"لكنني لست موافقا على هذه ..."
حدّقا ببعضهما لثوان ، ليعدل ويليام جلسته وحدثه بينما يهذب شاربه
"أنت محق ... ليست جائزة كافية ، إذا ... أعطيك مكتب الرسم بما يحويه لتعمل فيه؟ مارأيك ؟ "
اشتعل وجه دانييل خجلا فور إنهاء الآخر لجملته وتلعثم لسانه ؛ فرفضه للجائزة كان بنيّة تقديم يد العون دون مقابل لا أن يعتقد الرجل بأنه يطلب المزيد
" آسف ، اعذرني ... لكنني أرفض فكرة أن تكافئني مقابل مساعدتي لك !"
تكلم لينفجر الآخر مقهقها عاقدا ذراعاه على صدره وأردف
" حسنا لا بأس أقدر رأيك ، هي ليست جائزه ، لم لا نقول بأنني أعجبت بك وأريد تعيينك ؟  ، على كل حال انهض لنتجول في المرسم"
*
*
طرق الباب مجددا كعادته ليدلف بخطوات رزينة حاملا فنجانيّ قهوة وبعض الشوكولا وقد أثار فضوله حديثهما وقهقهاتهما التي كان سمعها من خلف الباب ! وضع ماحمله على طاولة صغيرة وأخذ يراقبهما بتعجب من خلف نظاراته السّميكة التي كانت تحجب عنه رؤية السبب الذي يجعل  السيد - ويليام ليبيرالس - بمكانته وعلمه وثرائه يعامل شابّا يحصل على قوت يومه من بيع مواهبه ؟ ولم تكن تلك الفكرة تخطر لهودسون لأول مرة ، بل كانت تزوره كلّما رآى كرم سيده وحسن ضيافته على مدى أعوام .
بخطوات متقاربة وهادئة سحب جسده الهزيل إلى خارج الغرفة وأغلق الباب تاركا شقّا صغيرا فقط ، شقا يستمع منه الى حديثهما والذي بدا يصبح جديا بشكل تدريجي ، حيث تطرقا للحديث عن اللوحة وكيف أن سارق اللوحة كان ممن استأجرهم السيد ويليام  لينمّي موهبته  ويكافئه بالمال مقابل ذلك
" سيد ويليام اعذرني ولكن ، لما لم تبلغ الشرطة وحسب ؟ ألن يكون الأمر أقل تعقيدا ؟"
سأل دانييل بعد أن رشف من فنجانه أخيرا ، وقد كان ينتظر على أحر من الجمر ليرشف رشفته تلك منذ دخول هودسون  إلى القاعة حاملا القهوة ، وقد لا حظ ويليام ذلك لتتمدد تجاعيد وجهه بابتسامه أخفاها قدر المستطاع عن الآخر المستمتع بعبق مكوناتها ؛ حتى لا يسبب له الإحراج وأجاب
" أنا لا أريد أن أسبب للشاب مشاكل قانونية ، أنت تعلم بأن التورط في قضايا حقوق الملكية ليس بالأمر البسيط "
حمل فنجانه ليقربه من أنفه مستنشقا رائحة القهوة التي ملأت المكان وعقّب " ثم إنّ المعلومات التي أملكها عن الشاب شبه مزيفة عدى عن التملقات التي سأحاط بها وأنا شخصيا لا أحب تبذير نقودي على المنافقين ..."
حرر ويليام الفنجان من بين أصابعه وأشار إلى اللوحة - الغير مكتملة - التي كانت معلقة بين عشرات من اللوحات المتقنه والمحاطة بإطارات مزخرفه ذهبية وفضية وسوداء اللون ، وطلب من دانييل انزالها وتكلم
" ضعها فوق المكتب من فضلك وتأملها جيدا ثم قارن بينها وبين اللوحة التي شاركت في المعرض ، هل هي نفسها ؟"
نفذ دانييل ما طلب منه ، وأخذ يتأملها
" شبه متطابقتان ، لكنني لن أستطيع مقارنتهما دون وضعهما أمامي مباشرة ..."
همهم ويليام وحصر ذقنه بين سبابته وابهامه
" انا سأترك لك المكتب لتستخدمه متى شئت ، حتى ابواب القصر مفتوحة ترحب بك في أي وقت ، كما أنني قد سبق وطلبت من رئيس الخدم تهييء
خيل تناسبك لتستخدمها في ذهابك وإيابك ، هذا ما استطيع مساعدتك به حتى الآن... وأترك لك حرية التّحقيق على شرط أن تبقى اللوحة الأصلية هنا فأنا لا أريد لأية إشاعات أن تنتشر في الأرجاء "
أغلق هودسون الباب بروية ليبتعد عن القاعة ، فقد كاد ثوران أعصابه يودي به إلى الهلاك ، وأخذ يتمتم بعصبية شديدة وهو يشد قفازه الأبيض تارة ويرفع عدسته المتمركزة على أنفه الدقيق تارة أخرى
" هذا ضرب من جنون ! استقباله وقتما حضر ! ؟ وترك المكتب له ؟ بل والفاجعة تكمن في أنه عيّن خيلا خاص له ! سيدي بدأ بالانهيار... الرّب يعاقبني ، الرّب يعاقبني!"
*
*

في إحدى البقع المظلمة يقف شخص متخفّ ملثم بعباءة رثة وزجاجة مياه بيده اليسرى ، يراقب المتجولين ويسترق السمع إلى أحاديثهم لعل أذنه تلتقط اشاعة مهمة أو حدثا قريبا أو حتى صفقة رابحة ، لكن البرد القارص والسماء الحمراء المتلبدة بالغيم نبّأت بعاصفة ثلجية أخرى قادمة ، فانفض الناس كلّ إلى مأواه ، أصحاب الدكاكين والصبية المستَأجرين ، الباعة المتجولون كالنساء اللاتي يحملن أعمالا يدوية ليعرضنها ، والأطفال المنتشرون في كل زقاق يلعبون بالحصى والحبل ويسببون المتاعب هنا وهناك ، حتى صارت المدينة ساكنة تصفر الرياح فيها . تحرك من البقعة التي وقف فيها طويلا وقد آلمه ظهره ، رص عباءته على جسده ليدفئه فتمزق جزء آخر منها كان قد علق بشيء ما جهله لكنه لم يبالي كثيرا بل اكتفى بزفير ضجر وتابع سيره في الطرقات تحت ندف الثلج الباردة .
سار طويلا حتى قرر الجلوس على حافة رصيف غطاه سقف أحد المتاجر فلم يصل الثلج اليه ، شرب من زجاجته وأغلقها ليوجه أنظاره إلى السماء
" اريد قطعة من اللحم المشوي ، أو حساء ساخن لا بأس "
وأخذ يلوم نفسه ويعاتبها ، لما خرج اليوم ولم يكتفي بالحساء كوجبته الأساسية ، وكم أنه شاب فوضوي حتى في أفكاره ولا يستطيع قيادة ذاته وسياستها ، فلو أنه لم يكمل السير حتى أطراف المدينة لكان طلب المبيت عند أحد ، اما الآن فها هو يكاد يموت جوعا وعطشا وبردا !
وبينما يتأوه بحزن على نفسه إذ  بصوت مبحوح  مرتجف ينادي عليه ويدعوه بألقاب غريبة كالغراب الضخم والثور الملثم -بسبب ضخم حجمه - وصاحب الرداء الرّث ، فما كان من الشاب الا أن استقام ليقف وبدأ يبحث بعينيه عن مصدر الصوت ليجد أنه عجوز طاعن في السن قصير القامة ذو شارب يغطي فمه بأكمله قد مط جسده من نافذة الدكّانة فوقه
" ما الذي تفعله عندك أيها الأرعن ! أتريد أن تدفن اليوم ويشيع جثمانك غدا ! اصعد لنرى مانفعل بك ! "
لم يعر الآخر اهتماما لطريقة العجوز الفظة في محادثته ، بل وتوبيخه ، فإن كان هذا ثمن مبيته عنده ، فهل من مزيد !
" خذ اشرب ، لا بد وأن الصقيع جمد كل خلية فيك ، إلا رأسك فهو فارغ "
حدثه العجوز ليجيبه الشاب
" أشكرك ، لكنك فظ قليلا معي الست كذلك ؟"
ردّ العجوز " لا يخرج في هذه العاصفة سوى شخص فارغ الرأس "
احتفظ الشاب بصمته محاولا التلذذ بالحساء وقطعة الخبز لكن العجوز سأله
"كيف قطعت يدك اليمنى ؟ "
*
*

لوحة الأيدي التعيسة Where stories live. Discover now