الأول والأخير

118 11 9
                                    


الغفران، الصفح، النسيان، كل تلك التصرفات تنبع من طيبة قلب الشخص وأحيانا من غبائه.
هل يمكنني الصفح عن شخص أذاني بل ومازال يؤذيني فقط لأني طيبة؟، أو فقط لأني أحبه؟.
- هذا سخف.
هذا ما كنت أتمتم به وأنا أقف على عتبة بابها، تلك المغفلة صديقة الطفولة التي عشت معها أسعد أيام حياتي.
لما قد أفكر بهذه الأفكار بينما أنا أزورها الآن لأول مرة منذ زواجها؟، لأنني وبكل بساطة أكره زوجها بل امقته، وأكره ضعفها أمامه ومشاعرها لها.

الكثير من مساحيق التجميل للقاء بسيط مع شخص رآها في أسوء حالاتها، هي فقط تريد أن تخدعني بأنها بخير وسعيدة.
لكني أستطيع رؤية ما يقبع خلف عينيها، خلف ابتسامتها تحيتها، حضنها، حتى ضحكتها، فلم تبدو كما عهدتها فروحها تبدو مشروخة وأجنحتها قد نتف ريشها بغضب، لكني تحاشيت السؤال فهي ستنكر بالطبع، ستكذب من أجله رغم كرهها لهذه الصفة.

لم تكن أمسية لطيفة البتة، لم أرتح لوجودي هناك فالمكان بدى قاتم موحش، وهي بدت باردة، وبابتسامة خبت ودعتني.
لكنها لم تقل شيئا من عاصفة أفكارها التي شعرت برياحها تهب علي عندما احتضنتها مودعة، لم تكن كتومة، كانت حساسة ولا تكبث أي فكرة أو شعور بداخلها، لكنها تغيرت، عيناها تعكس انكسارها لكني لم أستطع التدخل طالما لم تطلب مني.

رجعت لبيتي منهكة؛ من فرط التفكير، ماذا أفعل لمساعدتها حتى وإن لم تطلب؟..

على ذاكرتي مرت سنواتنا معا، صديقات أخوات..
كم أحببت تواجدها في حياتي فقد كانت تضيئها كشمعة وسط ديجور.
لكنها انطفأت أو تكاد.
مرت الأيام تلتهمني أفكاري في كل مرة أسمع صوتها عبر الهاتف، بارد، خافت، خائف، فقط لو تطلب مني التدخل لسحبتها فورا من فم ذاك الوحش، لكنها تستمر بالكتم، بالصمت، وها هي تبرر لي سبب تلك الكدمة التي على يدها بينما كانا نحتسي الشاي في منزلها، فلم تكن تخرج أبدا.

كم وددت الصراخ في وجهها، تكلمي من فضلك..

لكني استمريت بمجاملتها وعيناي تراقب ملامحها التي كبرت واهترأت ورغم كوننا بنفس العمر إلا أنها بدت أكبر مني بعشر سنوات، حركت يداها المرتجفة وقدمها المتوترة.
هل يمنعها من رؤيتي أنا أيضا؟، أم أنها تراني دون علمه؟
وللآن فقط قد استوعبت شيئا جديدا زادني مقتنا واشمئزازا.

ودعتها ذاك اليوم وعقلي مزدحم، غارق، تائه، لقد حاولت التلميح لي بألا أتدخل، ولكن لا أعلم لما أنا عنيدة؟، أو لماذا هي غبية لتبقى معه؟

جواب سؤالي كان بعد أن تعمقت في ذاتي هو؛ أني لا أريد خسارتها، لم أبني معها حياتي ولم نتشارك تلك الذكريات معا لكي يأتي هو ويشوه روحها بيديه القذرتين، ليس بتلك السهولة، ليس وأنا موجودة.

لم أتردد في فعل أي شيء لأجلها..
حتى وإن تظمن هذا جرح القليل من مشاعرها؟، هي لا تحبه لتلك الدرجة صحيح؟، وهذا ما كنت أفكر فيه وأنا أجلس أسفل المطر على تلك التربة المبتلة التي تدريجيا ستصبح طينية وقد أنهيت أول سيجارة أدخنها في حياتي.

لم أفكر في خطواتي، تلك الحقيقة الفضلة التي أعترف أنني ارتكبتها في حقها وحق نفسي.
لكن من يهتم بالماضي الآن، ما حدث قد حدث، وما كسر لن يرجع لما كان عليه من قبل، لامع براق وأنيق، لذا لم أتردد.

بداية خطتي كانت خيانتها، بالطبع أي رجل فاسد مثله يبحث عن تنانير ليرفعها، لذا تظاهرت بأني ممن يهتم بنوعه البشع من الذكور.
وبالفعل لم يكن علي إلا تتبعه للحانة التي يحب أن يقضي فيها وقته قبل أن يرجع ليعنف زوجته المسكينة وصديقتي البريئة، ولم أحتاج جهدا جبارا لجذبه لشباكي فقط تمايلت قليلا بتنورتي على ألحان أغنية "راعي على العشب" التي كانت تصدح في ذاك المكان النتن لأجده يتبعني لساحة الرقص محاولا أن يجد شجاعته المدفونة ليحدثني، لكني لم أترك له فرصة ورغم كرهي لما فعلت إلا أني سأضحي بكل شيء لهزيمة هذا المعتوه.

قبلة لزجة تفوح منها رائحة الخمر الرخيص والسجائر القديمة، تمنيت لو أني بصقت تلك الكلمات في وجهه بدل تلك الابتسامة اللعوبة التي رسمت على وجهي عندما انفصلنا قليلا لأخذ بعض الهواء.
لقد كان ثملا ضائعا قذرا ومنحرفا, وكانت تلك قطرة في بحر خطاياه.

واستمرت رقصتنا كما استمرت قبلاته القذرة, وكما اعتادوا القول أن لكل شيء جيد نهاية، وقطعا هذا ليس من ضمن الأشياء الجيدة لكنكم فهمتم قصدي.

ترنح مخمورا بين ذراعي ظنا منه أنه سيقضي ليلة جميلة قبل أن يعود لزوجته, لكن خلايا مخه لم تفكر ولو للحظة بأن هذه المرة ستكون مختلفة، هذه المرة لن يعود.

لأني لن أكلف نفسي عناء السؤال؛ لماذا؟ فالإجابة لم تعد تهم بعد الآن، وما حصل قد حصل، وما خطط قد تم تنفيذه بالفعل.

بضعت خطوات نحو الحقل في ضاحية المدينة وأصبحنا وحدنا أخيرا.

ولكن ليس لتبادل القبل بل لنحر عنقه.

ولتجنب التفاصيل المنمقة فنحر عنقه لم يكن صعبا بالإعتماد على أنه كان ثملا أحمق لكن الجزء الصعب كان دفن جثته القبيحة المشوهة بعد أن قمت برفس وجهه مرارا وتكرارا لأشفي غليلي.

وها أنا الآن جالسة فوق التراب الذي دفنته تحته وأدخن سيجارة قديمة وجدتها في معطفه لأول مرة.

لا أعتقد أن أحدا سيفتقده خلال بضعت أيام، ولا حتى زوجته، لكن إن فعلت لربما أجعلها تنظم إليه فأنا لم أدمر حياتي لأجلها حتى أجدها تنتحب في جنازته كالبلهاء.

..تمت..

هيجان | 𝘌𝘳𝘶𝘱𝘵𝘪𝘰𝘯Where stories live. Discover now