بعد ان عدنا في منتصف الليل، غادرت بيلا الى منزل اقاربها للمبيت هناك، وبقيت انا هنا اسأل عن اوليفر، واتصل به، ولكنه لا يجيب على اتصالاتي، ولكن السيدة ايفا اخبرتني بأنه قد ترك رسالة نصية لي عندما كنت في تشيلسي، يقول فيها
"جميلتي اورسلا، اعتذر لأنني لم اتواصل بك حتى الآن، لقد اعلمتني السيدة ايفا انك قد وصلت بأمان لذلك كنت مطمئناً، على اية حال انني اتجنب اجراء المكالمات الهاتفية في هذا الوقت وخصوصاً معك يا اختي، لأن ابي يتجسس علي طوال الوقت، انه يشك بي، ويظن انني قد خبئتك في مكان ما، لذلك لا يمكنني المخاطرة بكِ، وسأنتظر الرسائل منك على احر من جمر، اما الآن، فأريد منك التركيز على ايجاد ما يسعدك في تشيسوك، اعملي، ادرسي، واخبريني ان احتجتِ اي دعم مالي، واعدك بأنني سأزوركِ في القريب العاجل، قبلاتي لك يا فتاتي، اراكِ قريباً"
امضيت اخر الايام اعيد قراءة الرسالة وابكي في الليل، لا اعلم لماذا فعلت شيء كهذا لنفسي، ولكن لا اظن ان اوليفر سيتقبل التراجع مني، بعد كل ما قدمه لي حتى الآن، ومع كل المخاطرات التي خاطر بها، لا يمكنني ان اخبره ببساطة، انني اريد العودة.
وقد وجدت ما سيشغلني عن اشواقي، فقد اتصل لوكاس بناثان، ليخبره بأنني قد قبلت في تلك المهنة، وسأباشر العمل فيها بعد اسبوعين.
فوجدت نفسي فجأة اشعر بالاسترخاء في داخلي، كل مشاعري باتت راكدة، وعقلي اصبح لا يفكر بشيء، احدق في السماء، وفي النجوم، تحدثني بيلي تارة، وتغادر لاداء واجباتها المدرسية، وتارة اساعد السيدة ايفا في تنظيف الغرف، ولكنها تخجل من اشغالي في اعمال المنزل، فأشعر بالذنب، واتراجع عن ذلك، ثم اخرج في الحديقة عندما يقارب وقت الغروب، فأجد ناثان قد عاد من عمله وانزوى على نفسه في تلك الغرفة، احيانا يلقي التحية علي، وعندما انظر في عيناه العسليتان، يخالجني شعور غريب، فأرى تلك الهالة من الغموض التي تحاوط عيناه، وغمامة سوداء تحجب النور عن صدره، وباتت تزداد حجماً يوماً بعد يوم، رأيت ابتسامته الباهته، وجفنيه المرهقان، ولاحظت صمته الصاخب حين يشاركنا العشاء، فتحدثه الخالة ايفا عن بيلا، فيكتفي بالإيماءات الباردة، لم يتحدث قط، ولكنني سمعت روحه تصرخ في صخب، اردت تجاهل تلك الصرخات، ولكنني لم استطع، وجدتني اختلق الاعذار لكي امر بجانب نافذة غرفته، فأراه يعمل تارة، وتارة اخرى متهالكاً على الاريكة، وفي حجره ذلك القط الاسود، وتارة اخرى اراه يخربش على دفتر ما، ويعبث بشعره بتعب، يكثر من التنهد، ولا ينام حتى بزوغ الفجر، ثم يصحوا مبكراً مرة اخرى، ليكرر ما كان يفعله، ولكن تنهيداته تزداد، وعيناه تذبلان مع مرور الدقائق، وذلك الصقيع في داخله اشتد برودة.
ورغم رؤيتي لكل هذا، الا انني اكتفيت بالمسافة الكبيرة التي تفصلنا، لأن هذا الرجل يجب ان ينتمي الى ارض اخرى، ولن اكون تلك الارض ابداً.***
اتخذت موضعا بقرب النافذة، في مكان يمكنني ان ارى من خلاله شجرة القيقب الوحيدة التي تتوسط الفناء، واغوص في اعماق تفكيري عن مدى الوقت الذي قضته هنا، منتصبة بلا حراك، وكم خالجتها مشاعر الحزن، عندما تموت تلك الطيور التي اعتادت ان تضع اعشاشها فوق سطوح اغصانها، وما مدى الشقاء الذي يترع قلبها، عندما ترى عيدان العش تتيبس وتتهاوى ارضاً مع اوراقها الصفراء، ثم تتفتت، كما لو انها لم تكن هنا من قبل، يُمحى اثرها مثل ما تمحى نسمات الرياح.
فرأيت هناك من بين الأوراق المتيبسة، قط اسود ذو فراء كثيف، وقد تذكرت انه القط ذاته الذي كان ينام في غرفة ناثان في المرة الاخيرة التي زرته فيها، وكان يوجه انظاره الى زاوية ما، ويتخذ وضعية الاصطياد، اذ يحرك ذيله يمينا ويسارا بحذر شديد، ويتأهب للقفز.
وقبل ان يهم بذلك افزعه صوت ناثان ينبعث من الجانب، فانتفض مرعوباً
-ليو، قف مكانك.
فحدق القط فيه مرتعداً فرأيته يتقدم ببرود، كان يرتدي بلوزة شتوية بلون بني باهت، ويرتدي نظارة طبية، ولم يكن قد صفف شعره بعد فبدا مبعثراً بعشوائية.
تنهد وحمل القط ثم عانقه بين ذراعيه، واخذ يداعب فروه وهو يقول بصرامة
-الاحمق الصغير يريد ان يهرب هاه، انك تذكرني بفتاة حمقاء، ولكن لحسن حظك انني هنا لأجدك دوماً.
ثم تبسم ابتسامة باهتة عندما اطرق القط برأسه ليسنده على كتف ناثان، فهمس الاخير بحنان
-غير انها لا تمتلك من يبحث عنها، يمسك بيدها ويعيدها الى موضع الأمان، لذلك كن شاكراً يا ليو. انني هنا.
فطفق القط بالمواء، فأنزله ناثان ارضا، واذا به يعود للنظر الى تلك الزاوية، فجلس ناثان بجانبه مقرفصا، وهو يضيق عيناه ليحاول رؤية ذلك الشيء.
كنت اتأمل ذلك المشهد بقلب يختلج، اشعر باهتزازه في وسط صدري، لسبب اجهله، وكنت اشعر بأن تلك الفتاة التي تحدث عنها مع القط، يستحيل ان تكون بيلا، بل كان يقصد فتاة اخرى، ويبدو انه يصف حالتي فيها. وان لم تكن انا.
لأول مرة في حياتي، بت اشعر بأن الحياة تحتوي كيان يمكنه ان يفهم ما يجري لي من غير ان احاول حتى. ايعود ذلك لكونه محقق؟ ان كان الجواب نعم، فعلى كل شخص في العالم ان يحصل في حياته على شخص يمتهن التحقيق.
املت برأسي واسندته على زجاج النافذه، وابتسامة باهتة ترتسم بين شفتاي.
وفي لحظة ما قال ناثان بهمسة
-ها، لقد فهمت، انك ترغب في اصطياد ذلك العصفور
وتقدم القط بخطوات حذرة نحو تلك الزاوية، فلمحت هناك طائراً صغيراً يحاول الطيران، ولكن جناحه ينزف بغزارة، فأصبح عاجزا حتى عن اجراء قفزة صغيرة، فنهضت بسرعة من مكاني وطرقت على الزجاج وانا اصرخ
-كلا، كلا توقف ارجوك، كلا.
حدقا كلاهما بي ببلاهة، فاستقام ناثان باستغراب، وانا هرعت بسرعة الى الباب الخارجي، فعقد ناثان ذراعيه وقال
-هل كنتِ تراقبينني؟
-اراقبك هاه! لقد جئت وخربت المشهد الجميل للشجرة، وها انت تسمح لطائر صغير ان يموت امام عينيك.
قطب حاجبيه باستغراب، فهرعت بسرعة الى ذلك الطائر، وحملته بين كفاي، ثم ضممته الى صدري والدموع تتخلل الى عيناي، و رمقته بخيبة، فقال
-هل خرجتِ لهذا السبب حقاً؟
-اجل، بالطبع.
رفع كتفيه بلا مبالاة
-انها غريزة القط، يريد ان يأكل فكيف لي ان امنعه؟
ثم حمله من على الارض مرة اخرى، وطفقا يحدقان في عيناي ببراءة، فتنهدت وحملت الطائر الصغير معي الى الداخل، واشرت له ان يتبعني، ففعل ذلك وهو يداعب فرو ليو، فدخلت الى المطبخ، وضعت الطائر في مكان مرتفع، ووضع هو ليو ارضاً. ثم تقدم الي بفضول، فوجدني اخرج علبة من اللحم المعلب من الثلاجة، فقال وهو يعبث بشعره
-هل انت غاضبة؟
-اجل، كيف امكنك ان تفكر في ذلك حتى، ذلك الطائر الصغير يحتاج للعلاج.
-ولماذا سأتدخل في جريان الطبيعة؟ وقد ظننت انه على وشك الموت.
حدقت فيه بحدة، وكان قد وقف على مقربة مني، واستند على مرفقه وطفق يتأملني، فهمست مخفية غضبي
-القِ نظرة الى فريستك، سيد ناثان.
ففعل ذلك، وجد الطائر ينظر اليه ببراءه، وجناحه مرتخٍ، وقد توسطه جرح نازف، فابتلع ريقه وهو يعبث بشعره من الخلف، يستمع لتوبيخي
-ان كان الانسان على وشك الموت، هل يمنحك هذا عذراً لقتله؟ اذن، ما المغزى من وجود المستشفيات، والاطباء، لا مغزى لكل شيء، جميعنا سنموت، ايعني هذا بأننا لا يجب ان نعيش، ولا يجب ان نحارب لذلك؟
مرر اصبعه لذلك الطائر، واخذ يداعب رأسه بشكل خفيف
-ولكن، لا يمكنك ان تحاربي دائرة الحياة يا اورسلا، للطبيعة مسار واحد. لقد خلقتِ لتأكلي الدجاج واللحوم، لا يعني هذا انك مخلوق شرير، والدليل على ذلك هو اللحم الذي تقومين بتقطيعه الآن، انه يعود لحيوان قد تم انهاء حياته اجبارياً لكي يكون طعاماً لك، كذلك خلقت الطيور لتكون طعاماً للقطط، لا يعني ذلك ان القطط شريرة، ولا يعني هذا انها تكره الطيور، هذه طبيعتها فقط.
اطرقت برأسي، وكانت الدموع ستتهاوى من بين جفناي، فمسحتها بسرعة، ووضعت صحن اللحم على الارض ليتناول منه ليو، ثم نظرت اليه بيأس، وكان قد وضع الطائر ليقف على اصبعه، فقلت بنبرة منكسرة
-الفرق بين هذا الطائر، وهذا اللحم، هو انني لا يمكن ان افعل شيئاً لهذا اللحم، اما هذاالذي على اصبعك، فيمكنني ان انجده، ان امنحه عمراً طويلاً ليعيشه، قبل ان يتحول الى وجبة للقطط.
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم همس وهو يداعب رأس الطائر
-ربما، في قرارة نفسه، يتمنى ان يغادر الحياة.
تقدمت اليه، ثم اخذته من بين اصابعه وهمست
-لا احد يتمنى ان يغادر الحياة، حتى البشر، وان قال ذلك بلسانه، لا يمكن ان يقصدها حقا.
وضممته الى صدري، فاسند ظهره على الجدار، وانشأ يحدق تارة في ليو وتارة في الطائر، ثم همس بعينان متعبان
-ماذا ان كان حقاً يرغب في مفارقة الحياة؟ هل ستمنعينه من ذلك؟
-اجل، سأجعله يحب الحياة حتى لا يتمنى مفارقتها مرة اخرى.
-ربما، يبتغي الموت فقط.
-هل تتحدث عن الطائر ام عن نفسك؟
اتسعت عيناه ثم اطرق برأسه بلا رد، فاقتربت منه خطوة، واملت رأسي لانظر في وسط عيناه المظلمتان، ثم قبضت على قميصه، فطفق يبادلني النظرات، ورأيت لوزتيه تتحركان صعوداً ونزولاً وهو يبتلع ريقه، فهمست بنبرة قلقة
-هل يؤلمك واقعك؟
مرت لحظة صمت بيننا، قبل ان يمسك بكفي بلمسة رقيقة، ثم قال بلا مبالاة
-لقد كنت اتحدث عن الطائر، انت شديدة الحساسية يا اورسلا.
-لكنك تتألم.
وافلت كفي وهو يقول
-لا تقلقي، فأنا لا شيء يؤلمني، هكذا تمت تنشئتي.
-وكأنني اهتم للطريقة التي تم تنشئتك بها.
ثم عدت لأقبض على بلوزته، حتى تشنج جسده وطفق يحدق بي باستغراب، ولكنني كنت منفعلة، بدت لي كما لو ان هذه هي فرصتي الوحيدة لتقديم المساعدة، وان لم اقدمها الآن، فلن اقدمها ابدا، همست له
-انني اعلم جيداً، انك تنام ساعة فقط، لدرجة انك تكاد تهذي وتحلم في يقظتك، و انك لا تطيق البقاء هنا للحظة اخرى، ولكنك مجبر على ذلك، لأنك تحاول حماية قلبك، ولكن ارجوك، لا تفكر في امر كهذا، وان كنت تحتاج الى المساعدة، فاطلبها فقط.
اطال النظر في عيناي، عندما قال باستغراب
-لم افكر في امر كهذا
املت رأسي
-ابداً؟
-ابداً
ثم ابتسم وامسك بقبضتي، فسرت رعشة خفيفة في جسدي، فتحسسها بأنامله وهو يهمس
-هل تقلقين علي؟
-ك، كلا، اعني، اجل، انني اقلق على الجميع.
-وهل تراقبين الجميع؟
-افعل ذلك.
-يا لها من حياة رخيصة تعيشينها.
زممت شفتاي واطرقت برأسي بوجه محمر، شاعرة بأصابعه تداعب كفي، ايحاول ارباكي؟ هذا ما توقعته، عندما ابتسم ابتسامة جانبية وقال
-لا تخافي، لا امتلك افكار انتحارية، ولا اريد الموت كرهاً في الحياة، انما هو فقط شعور يجذبني.
-الموت؟
-اجل. اريد ذلك بشدة.
-وما ادراك كيف ستشعر عندما تموت؟
-يمكنني تخيل ذلك، الا يعني الموت هو ان اتعطل؟ ان لا اسمع، لا ارى، لا اتنفس، لا اشعر، ان اعلق في اللاشيء، تحت التراب، في صمت ابدي، الا يجذبك ذلك؟
-ب، بلى، ولكن.
-ولكن ماذا؟ كل ما في الامر انك متعلقة بهذه الحياة، وان متنا، سيتلاشى شعور التعلق حينذاك، ولن يبقى سوى غبار اجسادنا.
ثم أغمض عيناه واسند رأسه نحو الخلف
-ياله من شعور جذاب.
ابتلعت ريقي بحيرة، اذن لم يكن يحتاج للمساعدة؟ هل كنت على خطأ؟ هل يمكن ذلك! ولكنني لم اخطأ يوماً في قراءة مشاعر الناس، انه يربكني. سمعته يقول وهو يميل برأسه الي
-قالت بيلا ذات مرة، بأن ذلك يشابه شعور ان تعانق شخصا تحبه، او تنغمس في تقبيله حتى تغيب عن الوعي، فاكتفيت باخبارها بأنني لا امتلك شخصا احبه، فقالت، ماذا عني؟ ماذا تتوقعين قد حصل؟
اجبت وانا اشابك اصابعي
-بكت؟
اطلق ضحكة خافتة، ثم همس
-اخبرتها بأنني اكرهها، فقالت، وما ادراك؟ فقبلتها، ثم لم اشعر بشيء، واكتفت هي بالبكاء بعد ذلك، قائلة بأنها لم تعد تحب القبل بعد الآن.
احمر وجهي خجلا، وقد لاحظ ناثان ذلك، فهمس بجانب وجهي
-ما رأيك انت؟
-في ماذا؟
-بأن الحب يشبه الموت، وممارسته اشبه بارتداء كفن ابيض، وتجربة الغوص في التراب على قيد الحياة.
-لم اجرب ذلك من قبل.
-حقا؟ حتى في الروايات؟
-حتى في الروايات.
اطلنا النظر في اعين بعضنا، قبل ان تقاطعنا الخالة ايفا وهي تعبث بخصلات شعرها المبعثرة، حدقت فينا باستغراب
-اوه، مالذي تفعلانه في المطبخ؟
اجبت بارتباك
-نطعم القط.
عبث ناثان بشعره، فاخذت تمرر عيناها الي و اليه، ثم قالت وهي تعقد ذراعيها
-هل رتبت غرفة عملك يا ناثان.
-اها، غالباً.
-لقد تفقدتها قبل قليل ووجدتها على حالها ذاته.
تنهد بانزعاج، فأعقبت بتردد
-لا املك شيئاً لأفعله، يمكنني المساعدة في ذلك.
فارتسم شبح ابتسامة على ثغره
-موافق.
ثم حمل ليو وقال بأنه سيسبقني في المغادرة، كنت سأتبعه بعد ذلك، ولكنني رأيت نظرات الخالة ايفا تتفرس بي بلا توقف، فوقفت امامها بتردد، عندما سمعتها تردف بجمود
-اورسلا، هل لديك دقيقة للحديث؟
اومأت برأسي، فجلسنا على طاولة الطعام، قدمت لي كوباً من الماء، واخذت واحداً لنفسها ثم جلست في الكرسي الذي يقابلني، بقيت احدق فيها بارتباك، اما هي فابتسمت ابتسامة كنت اعلم انها مصطنعة، وقالت
-هل تشعرين بالراحة هنا؟
-اجل، شكراً لجهودك يا خالتي.
-عظيم، لقد كنت خائفة من انني سأفشل في ان امنحك شعور الأمان، كل ما في الأمر ان اوليفر شخص عزيز علي جداً، لذلك فانني ارغب بالاعتناء بكِ بشكل لائق، ثم اصبحتِ مقربة منا جداً، لذلك انا سعيدة بذلك.
اومأت برأسي
-شكراً لكِ، انني حقاً ممتنه لكِ على ايوائي كل هذه الفترة في منزلك بلا مقابل، اعدك بأنني لن انسى هذا طوال حياتي.
شربت رشفة من الماء واجابت
-لا تقلقي بشأن ذلك، اريد فقط ان اخبركِ بنقطة مهمة جداً، ربما لم تنتبهي لها حتى الآن.
حدقت بها بترقب، عندما قالت بجمود
-ان ناثان يعتز بكِ كثيراً، من جهة لأنه قد تعلق بأوليفر، ومن جهة اخرى لأنه كان يعرفكِ منذ فترة طويلة.
-يعرفني؟
-اجل، لقد كان اوليفر يحدثه عنك كثيراً، فاعتاد ان يستمع الى اخبارك، وان ينبهر بإنجازاتك.انها تكذب، هذا ما استطعت معرفته، ولكن الحقيقة المبطنة في كل هذا، ان ناثان يعرفني حقاً منذ فترة طويلة، بغض النظر عن الطريقة التي استطاع فيها ذلك.
ابتسمت ببرود واومأت برأسي، فاستتلت بتردد
-لذلك قد تجدينه يعاملكِ بلطف استثنائي، ولكنني اخشى على قلبكِ من الخوض في خيبة الامل والانكسار، لذلك اريد ايضاح ذلك لك. ان ناثان قد ارتبط ببيلا منذ سنة، وهما رغم ما يظهرانه من عدم الوفاق، والمشاجرة فيما بينهما، الا انهما في الواقع قد تعلقا ببعضيهما كثيراً، وفي المواقف السيئة ستجدينهما يتشبثان ببعضيهما بقوة، لذلك ارجو منكِ ان لا تسيئي فهم تصرفات ناثان، وان لا تسمحي لقلبكِ ان يلتمس ولو قليلاً من الامل بشأنه.
ابتسمت ابتسامة مرتبكة، فأطرقت برأسها واستأنفت
-انني اقول ذلك لأنني اهتم بكِ وبمشاعركِ، وقد لاحظت منذ فترة انكِ تركزين في تحركاته، تطيلين النظر اليه، ويبدو لي انك تحاولين الاعتناء به بشكل خاص، لذا وجدت ان من المهم اخباركِ بالحقيقة، لكيلا تتعمق مشاعرك.
ابتلعت ريقي واجبت
-انا اسفة، لا بد انني قد جعلتكِ تقلقين وتسيئين الفهم يا خالتي، ان ناثان بالنسبة لي بمثابة اوليفر، حتى انه يذكرني به كثيراً، ولا يمكن ان افعل شيئاً كمحاولة التدخل في حياته الشخصية، او تفريقه عن خطيبته، اريد منكِ الاطمئنان بشأني، انني اتمنى له السعادة، وكذلك لبيلا، ولا امتلك مشاعراً كهذه في صدري.
-حقاً؟
اومأت برأسي، ثم نهضت من الكرسي
-انا متأكدة من ذلك، انني اعتني به كما اعتني بأي انسان في العالم، وليس لأنني اضمر في داخلي شعوراً تجاهه. والآن، هلا سمحت لي بمساعدته؟ انني اعتدت دوما على تنظيف غرفة اوليفر، لذلك لا تخافي من شيء، سأساعد في التنظيف لا اكثر.
اومأت برأسها وتبسمت، وهذه المرة كانت ابتسامتها صادقة، فبادلتها ذلك، وغادرت، ورأسي يضج بالكلام، لا اعلم كيف سأترجم هذا الشعور، انه خليط من الانزعاج والارتباك، والخجل، اشعر بالذنب رغم انني لم افتعل ذنباً، واشعر في ذات الوقت بالحزن، التمرد، ارغب في ان اثبت لخالتي بأن لناثان دماغ يخصه، ولا داعي لأخباري بذلك بنفسها، فأن كان يشعر بأني اتقرب منه، ان كان منزعجاً، سيخبرني بذلك بنفسه، وفي نفس الوقت، لقد قالتها وكأنها تقلق بشأني، ولكن في الحقيقة انها قلقة بشأن ناثان وبيلا، اللذان يبدوان كما لو انهما يجاريانها لا اكثر
ليتها تعلم، ان العلاقات الصادقة لا يمكن ان تتحطم بأمور تافهة كهذه، وان حصل، فذلك يعني ان هذه العلاقة هشة، ولا شيء يدعو للتشبث بها.
اما انا، فلا دخل لي في كل هذا، اذ يبدو لي انها الشخص الذي يحاول اجبار ولده الوحيد على التوافق مع امرأة لا تطيق حتى ان تشتري له هدية تسعده، ولكن انا! انا لا دخل لي، وليس من شأني ان اصلح حياته، او حياة تلك الفتاة.
اريد فقط ان اهتم بشؤوني الخاصة.
YOU ARE READING
أورسلا
Romanceها انا ذا، احلق بين الوديان والجبال، ومن جانبي حدائق لم ارها من قبل، ولكنني لا اختار وجهتي، اسير عكس اتجاه الشمس، ويحملني هذه القطار الى حيث يشاء، الى موضع الأمان الذي لم يكن آمناً يوما. ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج...