٣

5.3K 129 13
                                    

رحلة العذاب
استيقظت أماني صباح الأحد على رنين جرس الهاتف الذي لم ترحب به.
جرت نفسها من السرير و خرجت مترنحة من غرفة نومها و تمتمت بتذمر, فيوم الأحد هو يوم عطلتها الوحيد من المسرح.. كانت ليلة أمس قد بقيت حتى الثالثة صباحاً في ناد للرقص افتتح حديثاً برفقة ماتيوس و عدد من أفراد الفرقة.. لذا لم تكن في مزاج رائق و هي ترد على الهاتف.
كان الخط مشوشاً في أذنها فلم تسمع شيئاً في البدء ثم جاء صوت عميق أجش ثقيل اللكنة يسأل : أنسة هاموند؟

- أجل..تتكلم.
- آه.. أماندا هذا أنا.. ستيفانوس فيرغوس.
إنه والد زوج آيرين... جعلتها الدهشة تستقيم و تنتزع نفسها من النعاس.
سأخبرك خبراً سيئاً, فشقيقتك و ابني تعرضا لحادث سيارة.
أحست أماني ببرود شديد و همست:
- أختي و بيدروس؟
لم تستوعب.... إنه الشعور الذي يشعر به المرء حين يصاب بصدمة.
- هل أصيبا بأذى؟
قال الصوت العميق بحزن:
- هذا ما أخشاه يا عزيزتي... السيارة التي كانا فيها انحرفت عن الطريق عندما تجنب ابني صدم طفل... بيدروس غائب عن الوعي و لم يستيقظ حتى الآن, و لكن إصابته غير خطرة على مايبدو.. و لكن يؤسفني أن أخبرك أن
إصابة آيرين أخطر.
جف اللون من وجه أماني.. فمدت يدها الأخرى طلباً للدعم من جدار قريب ... آيرين مصابة
همست و هي غير قادرة على رفع صوتها أكثر:
- إلى أي مدى إصابتها خطرة؟
قال والد بيدروس بصوت أجش:
- نعتقد أنها ستفقد الطفل الذي تحمله.. و لديها بعض العظام المكسورة..لكن المشكلة الإصابة الداخلية هي التي تزعج الأطباء.. يؤسفني يا عزيزتي أن أكون أنا من ينقل إليك الخبر.
أجبرت أماندا نفسها على التركيز.
- متى وقع ذلك؟
وقعت الحادثة في الساعة التاسعة صباحاً.. أعتذر لأنني تأخرت بالاتصال بك أماندا.. و لكنني أردت التأكد من الوقائع قبل الأتصال.
فيما كانت هي نائمة بأمان في سريرها , كانت أختها آيرين و زوجها في المستشفى!
- هل وقعت الحادثة في أثينا؟
تنهد العجوز و كأنما يلوم نفسه:
- أبكيتك عزيزتي.. أعذري عجوزاً مشوش التفكير.. أكلمك من أثينا أما أبني و عائلته ففي رودس..
كان بيدروس و آيرين في طريقهما إلى الكنيسة هذا الصباح.. و أنتِ تعرفين كيف تكون الطريق إلى ليندوس غادرة بعد عاصفة صيفية عنيفة.. ركض طفل أمام السيارة فلمَّا حاول أنبي مراوغته انحرفت السيارة و انقلبت وعلق بيدروس في داخلها و لكن آيرين للأسف سقطت منها إلى الخارج..و..
لم يستطع أن يتم الجملته و ران صمت مؤلم رهيب.
سألت بخوف: ماذا عن بيبرس؟
- لم يكن معهما لحسن الحظ فقد بقي في الفيلا مع مربيته....و لكنه الآن مضطرب, و أنا و زوجتي على وشك السفر إلى رودس.. لا أعرف كيف أعبر لك عن مدى أهمية قدومك في أسرع وقت ممكن.
همست: آيرين
- أجل.. هذا ما أخشاه.
أغمضت أماني عينيها و قالت بصوت أجش: أنا قادمة في أسرع وقت ممكن...
قاطعها العجوز اليوناني الذي بذل مجهوداً جباراً ليأتي صوته إيجابياً.
- قمت ببعض الترتيبات...وضعت طائرة تحت تصرفك.
سمّى لها مطاراً خاصاً خارج لندن. فدونت الاسم و العنوان بيد مرتجفة. أضاف العجوز:
- ستكون الطائرة جاهزة للإقلاع في الساعة الثانية بتوقيتكم.. فإن لم تتمكني من الوصول إليها فاتصلي بالمطار ليسطيع الطيار تغيير موعد طيرانه..هل فهمت أماندا؟
- أجل...أجل.
بذلت جهداً لتظهر بمظهر المرأة المسيطرة على صدمتها.
- جيد... ستجدين سيارة بانتظارك في رودس ستقلك مباشرة إلى المستشفى.. و إن احتجت لشيء, أي شيء اتصلي بي..
أعطاها عدة أرقام هاتفية لتتصل به عليها, سجلتها أماني بسرعة..ثم تمتم بحزن:
- لشقيقتك منزلة خاصة في قلبي أماندا.. كان ابني محظوظاً حين التقاها ... أنا...نحن...ندعو اللّه ليشفيها.
كلماته هذه إن دلت فإنما تدل على مدى الخطر الذي فيه أختها.
خدرتها الصدمة و جعلتها تتهاوى على الكرسي غير قادرة على الحراك و لكنها استطاعت التفكير في أمر.. عليها أن تتصل بأحد قبل أن تحضر حقائبها....
خطر كايس ببالها فهبت لتتصل به.. قال لها بصوت ملؤه السعادة:
- مرحباً حلوتي! إلى من أدين بهذا الشرف؟ فأنا أعرف أن فتاتي المفضلة تغرق بالنوم صبيحة الأحد.
قالت بهدوء: تلقيت لتوي أخباراً سيئة.
و أسرعت تذكر له بعض المعلومات.
- أنا بحاجة إلى إعلام المخرج بأمر سفري.. يجب عليه تدريب بديلتي قبل يوم الأثنين.. موعد العرض.
زالت الضحكة من صوته:
- هذا أمر سهل أماندا.. دعي الأمر لي أما أنتِ فجهزي نفسك فسأكون عندك في تمام الواحدة لأقلك إلى المطار...
ردت بصوت مليء بالتأثر:
- أنتَ عزيز كايسي.. و لا أدري ما قد أفعل بدونك.
- ستعيشين لأنك أمرأة قوية و تذكري في الوقت عينه ان شقيقتك مثلك, لذا ستنجو من الخطر و تعيش...
هزتها ارتعاشة شوق و همست بصوت أجش في الهاتف:
- كايس... كيفن... هل تستطيع.........
و أسكتت نفسها ثم أردفت بهدوء:
- لا يهم... أراك في الساعة الواحدة شكراً حبيبي.
تمتم : لا مشكلة أماني! لا تقلقي على شيء هنا... سأكون معك في أسرع وقت ممكن.
تساءلت بذهول: لماذا ذكرت له اسم كيفن؟ أعادت السماعة إلى مكانها بيد مرتجفة... ما الذي جعلها تذكر كيفن؟
سارت الساعة من الحادية عشرة و ما فوق ببطء لا يطاق... و في هذا الوقت وضبت حقيبة واحدة وضعتها قرب باب الشقة, ثم استحمت و ارتدت بزة خفيفة قطنية تنورتها طويلة و وضعت فوق ملابسها سترة متقنة التفصيل مصنوعة من القماش ذاته لها اللون نفسه...و وضعت بعض المكياج على وجهها أملاً في إخفاء بعض الإجهاد من وجهها, ثم جلست تترقب وصول كايسي بوجه هادئ من الخارج مع أنها من الداخل ترغب بيأس في الرحيل من هنا.. لتفعل شيئاً.. تريد أن تفعل أي شيء على البقاء هنا جالسة وسط التفكير و القلق و الخوف.
ما إن قرع الجرس حتى هبّت من مكانها متنفسة الصعداء. و يبدو أن كايس وصل قبل ربع ساعة من موعده فهرعت تفتح الباب.
لكن لهفتها سرعان ما خبت, لأنها وجدت كيفن عند عتبت دارها.
- مرحباً أماندا.
- كيفن...
ارتفعت يد مرتجفة إلى فمها لتخفي صوتها المخنوق الذي صدر عنها قبل أن تخز الدموع عينيها الواسعتين....ثم
ارتمت عليه تبثه بؤسها الذي كبتته منذ تلقت المكالمة من اليونان. تلقاها كيفن متمتماً....و راح يضمها بشدة و يهزها كطفلة لأنه شعر بالعذاب الفظيع الذي يسري في جسدها النحيل.
أخذ يهدأ روعها بحنان زاد من كربها:
- لا بأس عليك.......لا بأس أماندا.. سيكون كل شيء على ما يرام .... سترين.
أثرت كلماته فيها فتعلقت به بدون خجل و سمحت له بإدخالها إلى الشقة و أقفل الباب و راءه.. كان يضمها إليه باكية.
أنهت قصتها شاكية:
- أنا خائفة! آيرين كل ما لدي! لا يمكنني تحمل خسارتها! لا أستطيع.......
- أنا زوجك أماندا... سأكون دائماً موجوداً متى احتجتني.
كان فمه دافئاً على جبينها.... لكنها سرعان ما ابتعدت عن الجنة الدافئة:
- لا.......
ردّت كلماته إليها ثقل الواقع أما هو فتركها متفهماً معنى الكلمة الوحيدة السلبية.
نظرت إليه بوجه متجهم و سألته:
لماذا... لماذا أنت هنا.. كيفن؟
لم يرد للحظات... عندئذٍ مسحت أماني عينيها من الدموع بمنديل لئلا تضعف أمامه, ثم رفعت بصرها إليه... عرفت من أنفاسه غير المستوية أنه يريد أن يتحدث عن أشياء لا تريد سماعها.... ليس الآن.... ليس و هي..........
- اتصل بي كايس الذي ظن انك ستكونين ممتنة لدعمي... لذا ها أنا ذا. و قد أكدت له أنني سأعتني بك خير عناية ريثما ينهي هو مشاكل خاصة . هل هذه هي حقيبتك؟
- أرسلك كايس؟
ثم تذكرت ما كادت تقول له عبر الهاتف فتورد وجهها...إفٍ لكايس.. إنه أدهى من أن تخدعه.. نظر كيفن إليها مدققاً يتساءل عما يدور في هذا الرأس و عما جعلها تتورد هكذا... نظرت إلى الحقيبة التي أصبحت في يده
- أجل.. أجل هذه هي.
أمسك ذراعها: إذن هلا ذهبنا! هل الجواز و كل ما تحتاجينه في حقيبة يدك؟
- أعتقد هذا.
- إذن فلنذهب... سيارتي في الخارج.. يجب أن نتحرك إذا كنت ترغبين السفر في الوقت المناسب.
لكن كلامه جعلها تقف مذهولة:
- أنتَ قادم معي إلى اليونان؟
تحولت العينان الصفراوان إلى لون عقيق قاتم.....
- أنتِ بحاجة لي أماني.. قد لا تعرفين هذا و لكنك بحاجة إلى من يساعدك في هذه الفترة.
تغضن وجهها الشاحب مجدداً و فقدت قدرتها في السيطرة على نفسها... و امتدت يدها البيضاء المرتجفة بدون أن تعي لتلامس صدره..
تتحسس ضربات قلبه المنتظمة.... لتشعر بدفئه و بالطمأنينة. ابتسمت بحزن و هزت رأسها باستسلام صامت.
همست بصوت ثقيل: شكراً لك.... شكراً لك كيفن.
ابتلع ريقه بحدة و قال و كأن محنتها تؤلمه:
- لا تشكريني.. لآنك غير مدينة لي بشيء... بشيء أبداً.
أغمضت أماني عينيها و اسندت رأسها إلى المقعد خلفها بطريقة أظهرت مدى إرهاقها... أما كيفن فقاد السيارة بصمت و مرت خمس دقائق تقريباً قبل أن تفاجئه بوضع يدها على ركبته:
- شكراً لك على أي حال كيفن... وجودك معي يعني الكثير لي.
لم يرد.. و كأن الموقف الجاد أزال كل خلاف بينهما و كان أن تقبل الهدنة بكل ما فيها من توتر.
كانت الرحلة طويلة متعبة .. و لم تستطع الطائرة الفخمة المريحة أن تجعل الساعات الخمس تمضي بسرعة و لكنهما حطا في المطار حيث سارت المعاملات بسرعة كبيرة فاسم فيرغوس قادر على إزالة أية عقبة مهما كانت,
ثم لمّا خرجا من المطار وجدا طائرة باستقبالهما.
كان الظلام قد بدأ يرخي سدوله و بدت السماء اليونان في الساعة العاشرة ستارة من المخمل الكحلي القاتم المرصعة بالألماس...
كان الهواء دافئاً يداعب بشرة المرء كلمسات الحبيب, ارتجفت أماندا برقة بسبب الصور التي يرسمها الطيف الجالس قربها عن غير وعي منه.
سألها و قد لاحظ ارتجافها: أتشعرين بالبرد؟
هزت رأسها نفياً و ابتسمت ابتسامة غريبة.
طوال الرحلة كان لطيفاً هادئاً يدخل الطمأنينة إلى نفسها و لكنه لم يحاول مرة أن يخرجها من شرودها أو يكلمها إلا إذا كلمته.. و ظل موضوع الحديث بعيداً عن كل ما هو شخصي بينهما و لو من بعيد, و اعتمدت على دعمه تقريباً بدون خجل و تعلقت به كطوق نجاة كما كان يوماً لها.
كانت يده ممسكة يدها الآن بخفة و دفء و قوة فشدت عليها بلطف تطمئنه أنها على ما يرام و ظلت الكلمات بينهما قليلة.
و أدركت أماني أن ترددها في الكلام هو تحضير ذاتها لما قد يقابلها.. فقد شغل قلقها على آيرين و بيدروس تفكيرها.. أما انهيارها أمامه في لندن فبدا أنه حدث منذ زمن طويل.
مرت السيارة برقة في المنتجعات المكتظة بالناس في ايكسيا و ترياندا ثم بدأت تتسلق بهما الطريق المحفور على جانب التل الصخري الذي يحجب بلدة رودس عن الأنظار.. كان البحر من جانب واحد ينكسر على الصخور بتكاسل.
حملتهما السيارة إلى أعلى .. و أحست أماندا بمرافقها يتحرك إلى جانبها و لاحظت الاستغراب و الشهقة التي ارتفعت منه ما إن رأى مدينة رودس القديمة أمام الأنظار.
وقفت قلعة رودس بكبرياء فوق تلة تكاد تصل إلى السماء جدرانها الحجرية القديمة مضاءة بفخامة ملوكية.. قالت:
- هذا قصر السيد الكبير.. رودس مزيج ملون من دزينة مختلفة من الحضارات, بعضها قديم. و لكن جميع الحضارت تركت بصمتها على الجزيرة.
أبطأت السيارة سيرها عند مفترق طرق تتدفق فيه السيارات من مختلف الاتجاهات.. ثم انعطف السائق ببراعة ليقودهما إلى أحدث جزء في المدينة حيث توجد المستشفى.. غاب القصر مجدداً عن الأنظار وراء صفوف من الفنادق الحديثة و المقاهي المنتشرة على الأرصفة العريضة و عاد تاريخ المدينة القديمة إلى عصور غابرة أمام المباني الحديثة التي لا يتجاوز عمرها مئة عام.
سألت أماني بلمسات مرح سريعة: جلبت معك آلة التصوير؟
رد مبتسماً: و هل يمكنني التحرك بدونها؟
تنهدت بأسى و اعترفت:
- أحب هذه الجزيرة.. أحب ناسها و أساطيرها و جو الغموض السحري فيها.. لذا أكره العودة إلى هنا و الحزن في قلبي..
اختنق صوتها و هي تردف:
- ما أكره الحزن و الألم! ليتهما يختفيان إلى الأبد عن جميع خلق الله.......
لم يقل كيفن شيئاً لكن يده اشتدت على يدها فاطمأن قلبها.
قال السائق: وصلنا سيدتي.
ما إن نظرت من النافذة حتى عاد التوتر إليها.
خرج كيفن من السيارة أولاً ثم ساعدها على الترجل و سار معها نحو أبواب المستشفى.
همست بصوت ملؤه العذاب: لا أريد الدخول.
إنها تخاف ما قد يطالعها في الداخل...مرة أخرى وضع كيفن ذراعه على كتيفيها و شدها إلى دفئه ليدعمها و يسندها.
ما إن دخلت حتى كان أول شخص تراه ستيفانوس فيرغوس الذي بدا متعباً منهكاً.. ما إن وقع بصره عليها حتى ارتسمت ابتسامة متوترة على قسمات وجهه القاسية و دنا منها طويلاً شامخاً كأبنه المتكبر.
وصل أليها ليحتويها في عناق قصير:
- أماني.. عزيزتي.. وصلت بسرعة.
سألت بخوف: آيرين؟
سارع يطمئنها: ما زالت معنا أما الطفل.. فقد رحل.
و خزت الدموع عينيها و لكن كيفن أسرع إليها. نظر إليه ستيفانوس بفضول لأنه لم يعرف على ما يبدو شيئاً عن زواجها.
- كيفن لوكهارت, سيدي.زوج أماندا.
نظر إليهما الرجل مستغرباً و كأنه يتساءل لماذا لم يعرف بأمر هذا الزواج.. ثم صافحه بحزم:
- يسرني التعرف إليك سيد لوكهارت.
ثم عاد ليهتم بها: لم تستعد أختك وعيها, و لكن الأطباء متفائلون و هم يقولون إنها تجاوزت مرحلة الخطر .
سألت بلهفة: و بيدروس؟
انحنى رأس الرجل العجوز على كتفيه:
- استردّ وعيه.. لكنه.. حسناً.. تعالي سندخل لنراه.. إنه يتمشى في ممرات المستشفى كالمعتوه وهذا ما يقلقني.. هلا ساعدته و أدخلت الراحة إلى قلبه...
ساروا في ردهة المستشفى الهادئة, يحيط بأماندا رجلين طويلين رشيقين.
و أخذ الرجل العجوز يقول لها:
تعرض بيدروس لبعض الجروح في وجهه.. أخبرك بالأمر لئلا تصابي بالصدمة.. لكنها جروح سطحية, إلا أن الارتجاج الذي تعرض إليه الدماغ هو ما يقلق الأطباء خاصة و هو يرفض ان يستريح.
ما إن رأت أماني جسم بيدروس الذي كان يدفن رأسه بين يديه حتى صرخت و هرعت إلى الأمام تاركة الرجلين يراقبانها بتهجم و هي تجثو على ركبتيها إلى جانب زوج أختها تحيطه بذراعيها بكل حنان.
كان مشهداّ مؤثراً.. المرأه الشابة النحيلة تحتضن اليوناني الضخم إلى صدرها, اما هو الذي كان في حالة يرثى لها من الكرب فأخذ يشدها إليه يدفن وجهه في شعرها الأشقر.
ظلا هكذا فترة يستمدان القوة من بعضهما البعض, ثم رفع بيدروس رأسه و اخذ يتكلم بسرعة و ألم إلى أماني التي ظلت راكعة تتلمس جروح صهرها و هي تصغي إلى ما يقول.
لمس ستيفانوس ذراع مرافقه و قال بهدوء:
- نحن متطفلان على ما أعتقد.. تعال سيد لوكهارت سنذهب إلى مكان نشرب فيه القهوة.
عندما ابتعد وقف بيدروس متعبأ و شد أماني معه.. و سارا ببطء إلى الباب المغلق الذي تستلقي فيه آيرين وراءه في سرير مرضها.. كان الواحد منهما متعلقاً بالآخر.. و لم يكن اليوناني المتشامخ يجد غضاضة في الاستناد إلى قوة المرأة الضعيفة التي تمسك به.
وقف بيدروس خلف أماندا و هي تتمسك بحديد قائمة السرير بقوة,تنظر إلى آيرين الشاحبة الراقدة.
كانت ضمادة بيضاء سميكة تخفي شعرها الجميل و تغطي نصف وجهها و رأت إحدى ذراعيها ملفوفة باللصوق من ا لرسغ حتى الكتف, فيما الأخرى تبدو ضعيفة مسترخية.. و كان قفص بلاستيكي يبعد الغطاء عن ساقيها, عرفت مما قاله بيدروس و هما في الممر أن ساقيها مصابتان كثيراً.. و لكنهما غير مكسورتين و الحمد لله...
قال بيدروس بصوت متألم: يعتقد الأطباء أن حالتها استقرت الآن, و لكنها اعتقدوا لساعات....
لم يستطع إتمام جملته و تكسر صوته, عندئذٍ مدت أماندا يدها و غطّت يده المستريحة على كتفها.
أضاف: لا يعرفون كم ستبقى غائبة عن الوعي.. تدل الكدمة على رأسها على ارتجاج في الدماغ و لكن جمجمتها سليمة من أي كسر و هم يرون أن سبب غيبوبتها هو رد فعل طبيعي من جسمها و لتبقى هادئة حتى يتماثل جسدها للشفاء.
همست: تبدو مريضة جداً... و عاجزة.
- لكنها تقاوم.
أحس بيدروس أن أماني بحاجة إلى ما يطمئنها.
- أنها قوية, لا تخاف حين تقاتل من أجل شيء تريده..
مضت ساعة قبل أن تترك أماندا سرير أختها و لم تبتعد إلا بناء على إلحاح صهرها الذي جلس على كرسي قريب من زوجته ممسكاً يدها الغير مصابة, أما اماني مخرجت من الغرفة مرهقة.
في الخارج, كان ستيفانوس غيرغوس ينتظر بمفرده.
نظرت إليه بعينين متعبتين ثم أجابها بلطف عندما سألته عن كيفن:
- ذهب عزيزتي.. عاد إلى لندن.. يقول أن التزاماته تجبره على العودة. إنه زوج صالح أماندا.. و هو رجل يقدر مشاعر الناس.. يطلب منك الاعتناء بنفسك.
همست بصوت حائر: ذهب؟ كيفن ذهب؟
سببت نظرة ستيفانوس المتجهمة التي ملؤها الشفقة تفككها و نظرت إليه بذهول ثم أجهشت بالبكاء.
----
البحث عن الشمس
مرت الأيام العصبية الثلاثة ببطء شديد.. كانت الساعات تمر ببطء لا يطاق و عاشت أماني في هذه الفترة بؤس الانتظار و الترقب.
أمضى بيدروس كل أيامه في المستشفى مع زوجته, يجلس إلى جانب السري , يتحدث إليها, و يقلق و يشتم راعداً بانفجارات عصيبة,ثم ينام مضطرباً حين يجبرونه بالقوة على الاستلقاء في غرفة مجاورة..فيما بينهما.
كانت أماني و ستيفانوس يتناوبان البقاء معه, أما السيدة فيرغوس فكانت تعتني بالصغير بيير الذي هو أصغر من ان يفهم ما يحدث.. لكنه كان يشعر بتوتر أقاربه و يعرف أن غياب والديه غير عائد إلى قيامهما برحلة عمل أخرى و كان يتعلق بأماندا حين تكون في الفيلا.
قالت السيدة فيرغوس بحزن: السبب هو شبهك بأمه.. أنه يراها فيك لذا يتعلق بك.. الأطفال مخلوقات حساسة.. و نحن نميل إلى نسيان هذا وقت المحن.
كانت أماني مضطرة إلى الاستكانة و عدم التفكير في الأسباب التي دفعت كيفن للرحيل..و كأن الصراع آيرين مع الموت عرّى كل تلك المشاعر, و لم تعد تعرف ماذا تريد أو ماذا تحتاج منه.. كل ما كانت تعرفه هو أن ذهابه ترك فسحة فارغة في داخلها, تجد صعوبة في التوافق معها.
استيقظت آيرين في اليوم التالي.
كانت أماني معها. تجلس في الكرسي إلى جانب السرير.. تتحدث بهدوء إليها و هي فاقدة الوعي تبثها همومها و أفكارها المرتبكة. كانت غارقة في ثرثرتها فلم تلاحظ الجفنين الشاحبين يرتفعان أو العينين الزرقاوين تحدقان أليها.
تناهى ألى مسامع أماني صوت متلعثم:
- أماني.. ماذا تفعلين هنا؟
هبّت أماندا واقفة تلثم الخد الشاحب الذي لم يضمد.
ارتفعت اليد غير المصابة إلى رباط رأسها:
- أين أنا؟ ماذا حدث؟ أين.... أين بيدروس؟ أماني..!
ارتفعت يدها لتمسك ذراع أماني.. ثم نظرت بخوف أعمى بان في عينيها.
.... أين هو؟؟
- إنه بخير! بخير حبيبتي! إنه نائم في الغرفة المجاورة.. كنا قلقين عليك و كم بذلنا من الجهد ليلوذ إلى النوم. لكنه على ما يرام.
- تمتمت آيرين: انقلبت بنا السيارة.....
- أجل حبيبتي.
- و امتدت يدها خلسة إلى جرس الاستدعاء فوق السرير, قلقة لأنها رأت أختها تحاول معرفة التفاصيل إصابتها.. و لا شك أنها ستسأل السؤال الحتمي بين لحظة و أخرى.. و هو سؤال لن ترغب في الرد عليه.
- أضافت : وقعت الحادثة قبل أربعة أيام.
- اتسعت عينا أيرين: أربعة أيام؟ كنت خلالها مستلقية هنا؟
- ابتسمت أماني ممازحة: يا لك من أمرأة كسول!
استرخت آيرين إلى الوسائد تغمض عينيها لحظة, تمرر لسانها على شفتيها الجافتين.. فضغطت أماني الجرس مرة أخرى بشدة و راقبت أختها و هي تشحب مجدداً.. و تهمس:
- جرعة ماء..
- ردت أماندا: بالتأكيد.
- كان عليها التفكير في هذا من قبل.. استقامت مبتعدة لتقدم لها بعض الماء.
- - فقدت الطفل؟
- ولم يكن سؤال... بل تقرير أمر واقع.
- ارتجفت يد أماني : أجل حبيبتي... و أنا أسفة.
- عادت إلى السرير تدس يدها تحت كتف أختها و ترفعها لتشرب.. أذعنت آيرين و لم يبدُ عليها أثر للكرب... و لكن عندما رفعت آماني عينيها إليها. انفطر قلبها بألم بسبب نظرة البؤس التي علت وجهها.
- قالت بضعف: أماني هلاّ استدعيت بيدروس؟
- أعادتها أماني بلطف و قالت بصوت مواسٍ: حالاً حبيبتي.
- قبلت خذها مجدداً و وقفت.
- كان بيدروس نائماً بكامل ثيابه على سرير المستشفى و شعره الأسود مشعث, و بشرته البيضاء تحت لونه الأسمر.. دنت أماندا منه بصمت و لامست كتفه برقة.
- استيقظ منتفضاً و فتح عينيه الحمراوين و نظر إلى أماني
- قالت: استيقظت آيرين.
هبّ عن السرير بحركة واحدة و لكنه ترنح قليلاً:
- يجب أن اذهب إليها...
أوقفته و هو يتحرك نحو الباب: بيدروس انها..... إنها تعرف.
اكفهر وجهه المتعب و هبطت كتفاه للحظة و لكنه عاد فاستقام و تحرك برشاقته العادية نحو الباب.
اتصلت أماني بكايس بعد أسبوع من رحيلها.. و كان أول سؤال طرحه:
- كم سيطول غيابك؟
- و كم أعطوني فرصة؟
- أسبوعين.. يجب أن تشكري نجم سعدك حلوتي... فبديلتك ليست على المستوى المطلوب.. مع ذلك أستطيع تمديد فرصتك أسبوعاً.
فهمت أماني ماذا يرمي إليه... فلو كانت بديلتها بارعة, لبقيت أماني خارج المسرحية... فعلى ممثل المسرح ألا يتعرض لمشاكل شخصية أثناء عرض المسرحية...و الواقع أنها أخلت بشروط العقد لذا كان يحق لهم قانونياً إبدالها نهائياً.
تحدثا قليلاً و كان كايس أكثر من راغب في سرد كل ما له من علاقة بأخبارالمسرح, ثم حين توقف قليلاً ليلتقط أنفاسه سألته بعفوية:
- هل رأيت العمة روزي؟
كرهت نفسها بسبب شوقها و يأسها لكيفن..و لكنها لم تستطع إخراجه من افكارها منذ مجيئه إلى شقتها...و كان رحيله السريع من المستشفى قد تركها مذهولة.. لقد كان كالرجل الذي وقعت في حبه أول مرة خلال رحلة عذاب, لطيفاً مراعياً لمشاعرها, يسهل لها الأمور قدر المستطاع...ثم..ذهب.
ران صمت قصير..ثم قال كايس بطريقته الغريبة التي يستخدمها حين يعتقد أنك تعرف امراً لا تعرفه:
- أنها في ديفون.. أرسلها كيفن مع بعض أقرانها من العجائز في عطلة اماهو فمسافر.. تعرفين أنها تكره البقاء بمفردها في ذلك المنزل الكبير, حلوتي!
ألم يخبرك ذلك الشرير بالأمر؟أعتقدت أنه عائد إلى لندن معك.. فقد كتب لي لائحة بطول ذراع بأسماء الأشخاص الذين يجب أن ألغي لهم مواعيده معه في الشهر القادم.. ليتني أستطيع السفر مثله...
- حاولت أماني فهم ما يقوله, إنه يبدو و كأن .. لا.. أنها تفهم الأشياء من كلامه ليست موجودة فيه! إنها مجرد أمنيات!هل كيفن في....
- قالت بحذر: لم أشاهد كيفن منذ وصولنا إلى هنا قبل أسبوع.
- - لا؟ أمر غريب.. لقد وصلتني بطاقة بريدية منه بالأمس فقط يقول أنه يصور التاريخ و أن كاميرته تلتقط المشاهد بمفردها.. و قال إنه يفكر بتغيير اختصاصه و التوجه إلى تصوير المشاهد التاريخية بدل الوجوه...
- قال...
- همست بأنفاس مقطوعة: مازال هنا معنا؟؟؟؟
- سرت في أوصالها رعدت إثارة.
- - لقد ذكر لي صهرك, و قال إنه استعار منه مركبه و إنه يفكر في القيام بجولة حول الجزيرة.
- بيدروس يعرف أن كيفن هنا! وقفت أماني مشدوهة كعمود شمع غير قادرة على فهم رأس اللغز من قدمه.
- - قال.......
- - وداعاَ كايس.... سأتصل بك, لأعطيك موعداً محدداً لعودتي.
- و وضعت السماعة من يدها, تهتز كورقة شجرة.. تفكيرها يتطاير في كل اتجاه, تشعر بتعاقب الدهشة والبهجة ثم الغضب والشك و.......
- مع إثارة صادمة أسرتها في دوار مربك إلى أن تقدمت السيدة فيرغوس لتربت على كتفها مما جعلها تجفل.. و سألتها باستغراب:
- - هل أنتِ بخير اماندا؟
- ردت مترددة :
- - أنا لا أظن هذا.. أنا..
- صمتت قليلا لتجمع شتات نفسها
- - أتعتقدين أن بيير سينزعج إن تسللت إلى الخارج لساعة أو أكثر؟ أريد التحدث إلى بيدروس.
- جاء الرد:
- - لن يمانع بالتأكيد... إنه مع جده الآن... يصطادان السمك. لماذا لا تذهبين ؟ استخدمي السيارة و لكن رجاء قوديها بحذر.
- ركضت أماني إلى الباب و عيناها تشتعلان بطاقة لم تظهر فيهما منذ سمعت بحادثة أختها.
- استغرقت الرحلة إلى رودس ساعة, فالطرقات في الصباح تزدحم...
- في هذا الموسم يتنقل بيدروس من الفيلا إلى المدينة عن طريق البحر...
- أوقفت السيارة قرب المستشفى,و سارت و هي تدرك أشياء لم تلحظها منذ وصولها إلى رودس الحبيبة: الحرارة على على بشرتها, الشمس على شعرها الأشقر, الحيوية في خطوتها و هي تسير, و تدفق الدم في شراينيها... فكرت بذهول.. لقد عدت إلى الحياة... كيفن هنا في رودس!
- لكن ما إن دخلت إلى غرفة أختها الخاصة حتى تحولت إثارتها إلى قلق... فدوافع كيفن المحيرة أعادت كل دفاعاتها التي بنتها ضده في الأشهر الأخيرة.
- سألتها آيرين: ماذا تفعلين هنا اليوم؟
- كان بيدروس نصف جالس و نصف مستلقٍ على السرير إلى جانب زوجته... يبدو متكاسلاً غير مهتم بالمشهد الحميّم.
- قالت أماني ممازحة: أريد استعارة زوجك...
- نظرت إليها ايرين بعناد: فتشي عن رجل آخر فهذا الرجل محجوز.
- امتدت يدها تمسك الذراع السمراء إلى جانبها بتملك فابتسم بيدروس و رفع يدها إلى شفتيه يلثمها.
- بدت أيرين أفضل حالاَ بعد نزع الضمادات و الكدمة خفت , و لكنها مازالت غير قادرة على أن تحمل أي وزن ثقيل على ساقيها, و ستبقى ذراعها مضمدة لأسابيع... لكنها تبدو أكثر فأكثر الأخت التي تحبها أماندا.
- سألها بيدروس بكسل: من أقلك إلى هنا عزيزتي؟
- - جئت وحدي.
- و نظرت إليه بعجرفتها الخاصة, لأنها عرفت ما يدور في خلده...
- لقد أصبح مجنوناً من فكرة قيادة السيارة منذ الحادثة.. فغير مسموح لأماني أو لأمه بالجلوس وراء مقود السيارة... حتى الآن, أذعنتا له لأنهما لا تريدان زيادة مخاوفه.
- - رغبت في سرقتك من أختي فركبت المرسيدس و قدتها إلى هنا!
- - للغداء؟
- هزت رأسها بشوق:
- - في تلك الترافيرنا قرب ميناء مندراكي.
- كانت الموائد هناك منتشرة فوق المرجة حتى جدار الميناء, تظللها مظلات ملونة لإبعاد حرارة الشمس.
- تنهدت آيرين متأسفة و قالت بصوت متذمر:
- - أريد مرافقتكما.
- قالت أماني بحزم: لا يمكنك هذا... أريد رجلاً... و رجل واحد فقط ينفعني.. لقد استأثرت به بما فيه الكفاية.
- حاولت آيرين عدم التبسم: لكنني أملكه!
- قال بيدروس بتكبر مزيف: عزيزتي... لا أحد يملكني.
- ارتدت إليه و قالت بتحدٍ: أحقاً؟
- نظر إليها عابساً, أما أماني فراحت تراقب تعابير وجهه تلين تدريجياً لتتخذ تعبيراً مختلفاً كل الاختلاف ثم لاحظت زوال الألم من عيني آيرين... فقالت مازحة:
- - أعد أن اردّه لك حالما أنتهي منه.
- تنازلت آيرين: حسناً في هذه الحالة...........
- قررا السير على الأقدام لأن المكان قريب... بيدروس معروف كثيراً في الجزيرة لذا استغرقت المسافة وقتاً أكبر فكلما سارا خطوة كان يضطر للوقوف ليتلقى التهاني بنجاته من الحادثة و التمنيات للزوجة الجميلة بالشفاء.

روايات احلام/عبير:امانيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن