٤

9.1K 191 0
                                    

الفصل الرابع
في سيارة الاجرة التي تقلهم الى مطار سانتياغو ,لم يتكلم دون ادريانو الا قليلا .كان يبدو متوترا وعصبيا .ولما دخلو الى المطار ,شعرت ليندا بانقباض وتوتر أيضا .
بعد دقائق معدودة ,ستتعرف الى الرجل الذي وعدت بالزواج منه ,كانت ويندي متكورة على صدر أختها بقوة ,مما جعل ليندا تسرع لتقف قرب دون ادريانو الذي ركز نظراته على المدرج .وهمس يقول :
"عظيم ,لم يتأخر بالوصول ."
ارتخت تقلصات شفتيه وابتسم,وانتشرت حولهم حركة نشطة اندفع سيل من المسافرين الى الطائرات التابعة لمختلف شركات الطيران .لكن ليندا لم تكن تنظر الا الى الرجل الذي خرج من الطائرة الفاخرة وراح يتقدم نحوهم بخطى واسعة .فأشار اليه دون ادريانو بيده ,ثم قال باستغراب وخيبة أمل :
"لماذا جئت انت يا كوستا ؟اين حفيدي ؟"
ارخت ليندا ضغطها على ويندي وشعرت بارتياح لان الشاب الواقف أمامها ليس حفيد دون ادريانو .كان الطيار منزعجا ثم قال :
"طلب مني ان أعبر لكم عن أسفه لعدم قدرته المجيء يا سيدي .من كثرة انشغاله ,لم يتمكن من المجيء ليرافقكم "
قال دون ادريانو غاضبا :
"تبا له !ما الذي منعه من المجيء ؟لم تحدث هزة ارضية على ما أظن !"
اخد كل منهم مكانه داخل الطائرة .فجلست قرب العجوز المتوتر الاعصاب .وخلال نصف ساعة ظل عابسا وصامتا بينما الطائرة نحو الجنوب .
ولما بدأت الطائرة بالهبوط باتجاه احد المنازل الذي كان بالكاد مرئيا على خط الافق .
عرفت ليندا انهم وصلوا الى المكان المقصود .وخلال الهبوط خارت قدماها وشعرت بخفقان قلبها.
على طرف المدرج كانت سيارة بانتظارهم .صعدت ليندا في المقعد الخلفي وسارت السيارة في الحال متجهة نحو مسكن كبير يقع وسط مجموعة اشجار الاوكالبتوس .الجدران مبنية من الحجارة الثقيلة ,ومطلية بالكلس الابيض .أما السقف فمصنوع من صفوف القرميد الاخضر المدور .البلاط الاخضر يكسو ارض الشرفة وينتشر حول بركة السباحة .
عندما دخلت المنزل ,لاحظت ليندا نفس البلاط في الارض .
دعاها دون ادريانو ان تعبر المدخل وتوجه بها نحو الصالون .بساط بني فاتح يفرش الارض ,وفي الصالون مجموعة مقاعد مستندة الى الجدار ملبسة بالقماش الهافاني ,وعلى الجدران رفوف بيضاء مليئة بالكتب الضخمة والمجلدة .هنا وهناك لمبات رفيعة وأنيقة تليق بهذا الجو .مدفأة ضخمة تلفت النظر ,من حجرالرخام تعلوها ظهرية نحاسية تعكس ألوان النار الفاقعة والمتبدلة .ويمكن لعشرة اشخاص أن يتجمعوا حولها .
فتنها المنظر كليا .فسألها دون ادريانو الذي شعر بسعادة واطراء :
"هل أعجبك منزلي ؟"
كانت نظرتها البراقة تفيض بجواب ايجابي .
فقالت:
"انه رائع للغاية ,يا سيدي ,ويحتوي على ذوق رفيع .عرفت أن تدخل كل وسائل الراحة والحياة العصرية من دون ان تسيء الى الطابع الاصلي ."
هز رأسه وكاد ان يشكرها لهذا الاطراء حين انفتح باب الصالون بعنف وأطلت منه امرأة قصيرة القامة ,بدينة وراحت تهز ذراعيها مرحبة بهم في حرارة .
"المعذرة يا سيدي الكونت ,لقد اعلمني الطيار كوستا بوصولك لتوه.تأخدان بعض الشراب المنعش,انت والسيدة,اليس كذلك ؟هل أجلب حليبا للطفلة ؟"
"شكرا يا كارمين .انا أكيد ان ضيوفي يشعرون بالعطش مثلي .لكن قبل ان تقدمي لنا الشراب ,ربما من الافضل ان ترشدي الانسة باين الى غرفتها .هل أخدتم التدابير الضرورية بما يتعلق بالطفلة ,حسب أوامري؟"
"نعم يا سيدي .كل شيء جاهز.لوتتفضل الانسة وتتبعني ؟"
وقبل مغادرة الصالة سأل دون ادريانو مستعلما :
"والمربية ؟هل وجدت المربية المناسبة ؟"
"اهتميت بالامر كذلك يا سيدي .طلبت من شقيقة كوستا ان تهتم بالامر .وهي تنتظر بفارغ الصبر ان تلتقي بالصغيرة ."
قال بامتنان ظاهري :
"رائع .كل شيء تم على أحسن ما يرام "
ثم وجه كلامه الى ليندا بوجه بشوش وابتسامة على الشفتين :
"عليك ان تعذريني ,يا انسة ,ستحتسين الشراب وحدك .بسبب تغيبي عن المنزل ,تكدست الاعمال علي .لكن سنتناول العشاء معا .وآمل حينذاك ان اعرفك الى حفيدي ,الذي سيعتذر بحرارة لانه لم يأت لاستقبالك في المطار ."
"لا تقلق علي ,ولا تتردد في ممارسة اعمالك التي لابد ان تكون كثيرة على ما أظن .أما بالنسبة الى حفيدك فنعرف ان العمل أعاقه عن المجيء .سنلتقي جميعا في المساء."
تبعت ليندا كارمن التي قادتها الى أعلى حيث تقع غرفتها وغرفة ويندي. كانت الغرفتان تقعان تحت سند السقف مباشرة وقد طليت جدرانهما باللون الابيض وبنية الخزائن والرفوف في الزوايا العديدة باتقان وذكاء .وتحت النافذة علقت صفحة خشبية يمكن استعمالها كطاولة عمل .والغرفتان متصلتان بباب داخلي .وبعد وقت قصير تعرفت ليندا على بيلا المربية التي اختارتها كارمين للاهتمام بالطفلة .فناولتها شقيقتها النائمة بين ذراعيها والتي وضعت للحال في سريرها .
امضت ليندا بقية فترة بعد الظهر في التنزه حول المنزل .وبعد قليل وصلت امام مكان مسيج ,فاسندت ظهرها على الاسوار الخشبية .
بدأت الشمس بالمغيب فأسرعت ليندا في العودة الى المزرعة .كانت مصرة على ان تبدو بافضل حال امام هذا الرجل ,سبب سعادتها وحظها .كما وهي على استعداد كي توقظ في هذا الرجل الخجول كل اهتمام وفضول .فارتدت فستانا مخمليا أزرق ,ذا اكمام طويلة ,يظهر نحافة جسمها وانتعلت حذاء رماديا فضيا .ثم سرحت شعرها الطويل حتى ينسدل أمواجا شقراء على كتفيها.ونظرت مرة أخيرة في المرآة وشعرت بالامتنان من نفسها ,في الحال خرجت من غرفتها .
عند اعلى السلالم استجمعت كل ما لديها من شجاعة , كادت تقوم بالخطوة الاولى ,حين سمعت عددا من الاصوات المبتهجة تنقض على المنزل , وتعكر صفو هذا الهدوء الذي كان مستتبا طوال فترة النهار .كانت عشرات الفرسان يقفزون عن أحصنتهم ويتوجهون في صخب الى المطبخ.
تسمرت ليندا في مكانها مترددة ثم سمعت صوت خطوات ثقيلة في الشرفة مباشرة تحت النافذة.احد الرعاة وتقدم في المدخل وسمعت بوضوح صوت مهاميز تسقط في البداية كانت عادية لكن سرعان ما ارتفعت عاليا ,وبدأ الضجيج والصراخ والصياح والصخب .بالكاد تعرفت الى صوت دون ادريانو لان من كان يتكلم معه كان يقاطعه باستمرار وبحقد وبلهجة انتقامية .
في حيرة واضطراب ,انحنت ليندا الى الامام محاولة ان ترى الرجل الذي يجاوب بحدة وعنف على الدون .من كان هذا الرجل ليجرؤ ان يتطاول على العجوز الذي يدير المزرعة بيد من حديد ؟لا يمكنه ان يكون مجرد موظف عادي او عاملا ,لان مثل هؤلاء لا يستطيعون ان يتكلمو بهذه الوقاحة وهذا الجفاء .
صفق باب بعنف محدثا ارتجاجا في جدران المنزل .وعاد الصمت الثقيل المقلق .حاولت ليندا السيطرة على خوفها ,فتنفست الصعداء واطلقت زفرة طويلة .فجأة انفتح باب غرفتها بقوة ودخل الغرفة رجل ممشوق القامة ,يرتدي بزة سوداء .هذا الاقتحام الفظ أرعب الفتاة ,فتسمرت في مكانها من دون ان تحدث صوتا .كانت تحدق بالرجل بعينين متسائلتين .
كان الرجل يتأملها بوقاحة .كان يتمايل من كل جانب ويطقطق بمهمازه الفضي .يرتدي سروالا من الجلد الاسود .وكان قميصه المفتوح يظهر صدره الاسمر .وشعره مشعت من شدة الريح لونه أسود مثل لون عينيه اللتين تلمعان ببريق ماكر .
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه مظهرة أسنانه البيضاء الناصعة .
قال بلهجة مستخفة :
"اذن,انت آخر مقتنيات الكونت !كان يجب علي أن أفطن الى انه سيختار فتاة شقراء باردة ,كأنها مصنوعة من الجص ."
"من انت ؟كيف تجرؤ على الدخول الى غرفتي من دون ان ..."
قاطعها بعنف قائلا:
"آه,أرجوك,لا تبداي باعتباري انسانا أحمق !لا يليق بك ان تلعبي دور النساء الخجولات حسب رأي جدي ,انت مستعدة تماما الاستعداد لتقاسميني حياتي."
احمرت وجنتا ليندا اشتعالا وهمست تقول بالم :
"اتريد ان تقول انك ..."
"زوجك ,لا أكتر ولا أقل .لكني زوج متمرد ."
احنى رأسه ساخرا وأضاف يقول :
"أنا دون دي فالديفيا,حجر آخر في لعبة جدي ."
تلعثمت قائلة :
"حجر ...لعبة...؟"
اقترب منها و قال :
"ربما لا تعرفين خطة جدي .لا شك أنه خجل ان يكلمك عن خطته .اجلسي ,هناك شيء عليك ان تعرفيه بشكل ضروري ."
جلست ليندا في المقعد ,وكتفت يديها وشدتهما الى بعضهما بتشنج,كأنها تريد بذلك ان تبدد خوفها الكبير من هذا الرجل ,الذي يشبه دون ادريانو بشراسته وهوله .فهو ليس كما وصفه لها دون ادريانو وذلك الرجل المنطوي على نفسه .وبدأت تفضل ان تجابه أي بلاء او مصيبة ولا ترتبط بهذا السفاح .
قال بلهجة قاتمة :
"جدي مربي ماشية معروف .قضى حياته يزاوج ويحسن مختلف الاجناس .واليوم ,انه قادر ان ينتج ,حسب الطلب الحيوانات القوية المؤذية او الوديعة,وهو يفتخر بذلك .وفي الوقت الحاضر ,ينوي جدي ان يطبق معلوماته وخبراته على الجنس البشري ."
فوجئت ليندا بما يقوله وأصابتها الغصة .لكن ماري ودي فالديفيا لم يترك لها مجال الاحتجاج اذ قال مؤكدا :
"نعم .ما أقوله صحيح .لقد سبق وفعل هذا ونال نجاحا كبيرا .ولهذا السبب يريد ان يقوم بتجربة جديدة ."
رفع ذقنه وسألها بسخرية :
"ماذا لو قلت لك أنه اختارك فقط من اجل ان يكون لك الاثر اللطيف علي مما يجعلني اتصرف نحو جدي بطاعة عمياء ؟لكنني أحذرك ,ياآنسة ,ان هذه الخطة لن تنجح .ولا أحد بامكانه ان يجعلني اقبل به ."
بدأ قلب ليندا ينبض بسرعة بالغة ,فرجعت الى الوراء ويدها على قلبها وقالت وهي تهز رأسها :
"لست أنوي ان اجعلك تقبل بي يا سيد.كنت أعتقد انك بحاجة الي ,ولهذا السبب جئت الى هنا .تصورت انك ..."
اختنق صوتها لحظة ثم تابعت تقول :
"كنت اعتقد اني سأواجه رجلا خجولا ومعقدا غير قادر ان يجد لنفسه زوجة له .لكن ,في الوقت الحاضر ,بدأت ادرك ان جدك وصفك لي بطريقة خيالية ولا شيء مما قاله يوازي الحقيقة .وحتى لا يصار الى سوء تفاهم ,لن أتزوجك,يا سيدحتى لو اضطررت ان أموت جوعا ."
أصابته في غطرسته وتفاخره ,فراح يرمقها بنظرات احتقار وغضب .وباحتراز ابتعدت عنه وتوجهت نحو نافذة الغرفة وقالت :
"والان ,اخرج من الغرفة من فضلك ."
حيره مسلك الفتاة المتعالي فاقترب منها بارتباك وامسكها من ذراعها بعنف .
تمالكت نفسها لئلا تصرخ فأرغمها على الالتفات اليه وقال :
اتساءل ما الذي جعلك تقررين المجيء الى هنا .انت فتاة جميلة ويمكنك ان تثيري اعجاب الرجال بك .لذلك فانا اكيد انك لم تات الى هنا لانك لم تجدي رجلا يحبك ويريدك زوجة له .هل قدم لك الكونت مبلغا كبيرا من المال ؟ اذن هذا هو السبب ."
افلت يدها بسرعة وغضب توجه نحو باب الغرفة .توقف هناك واعلن بصوت قاطع مليء باحتقار مر قائلا :
"بما ان جدي هو الذي اشتراك فسيفعل بك كما يريد .لم يعد لي دخل بذلك .لكن يا آنسة ,اذا اردت نصيحتي ,ارحلي في اسرع وقت ممكن .لم نعد بحاجة اليك هنا ."
اجتاز عتبة الباب عندما بدأ صراخ ويندي يعلو من الغرفة المجاورة ,فأسرعت ليندا اليها لأن الطفلة كانت وحدها وبيلا المربية تتناول الطعام بالاتفاق مع ليندا .ولما وصلت الى سرير ويندي ,توقف البكاء وبدأت الطفلة تبتسم بفرح .
فقالت لها ليندا بحنان :
"يا أيتها الفتاة المدللة ,اذا بقيت اعاملك هكذا ستصبحين فتاة مدللة فوق اللزوم"
سمعت صوتا وراءها ,داخل الغرفة غير المضاءة ,فتذكرت للحال أنها لم تكن وحدها .
"لمن هذه الطفلة ؟"
أجابت بهدوء وافية بوعدها الذي قطعته أمام دون ادريانو :
"هذه الطفلة لي "
قال غير مصدق :
"لك؟"
"نعم ,لي ."
فرحت ليندا لدى رؤيتها الدهشة العميقة التي ارتسمت على وجه ماري ودي فالديفيا ,الذي قال :
"ووالدها أين؟"
من دون اضطراب ,قالت بلهجة عادية لا يمكنه ان يشك بصدقها :
"والدها مات ."
القى نظرة سريعة الى يد ليندا اليسرى ,فلم تكن ترتدي محبس الزواج ولم تكن تأبه بما سيفكره بها .
لم تكن تود سوى شيء واحد وهو ان تتخلص من هذا الرجل العدائي .
في فضول انحنى نحو ويندي ذات العينين الزرقاوين الصافيتين .فمدت له ذراعيها منتظرة ان يحملها .بدا مرتبكا الى درجة جعلت ليندا تشهق ضاحكة .لكنها سرعان ما وضعت الطفلة في مهدها وقالت :
"عليك ان تنامي ,يا صغيرتي ,لا,لا تجلسي ."
قبلتها ليندا وقالت :
"تصبحين على خير يا حبيبتي ."
أشارت الى دون ماريو ان يخرج وراءها من الغرفة قبل ان تغلق الباب الذي يصل الغرفتين ."
فقال الرجل بشراسة "هل جاء معك احد غير هذه الطفلة؟"
أجابت بصراحة بعد أن فوجئت قليلا :
"كلا.بالنسبة الى ويندي والي ,حيثما نكون نحن معا يكون منزلنا ."
ملأ وجه ليندا استرخاء كبير .رمقها بنظرة غاضبة وعضلات فمه ترتجف بقوة كأنه يحاول ان يقاوم شرا مؤذيا .فقال :
"هذا العجوز محتال لكن ,بالرغم من هذه الظروف لن أغير رأيي."
لم يتسن لها الوقت لتسأله عن تفسير وايضاح.
فقد أسرع نحو الباب وخرج الى الممر بخطوات واسعة تعبر عن غضبه .ولم تعد تسمع الا خشخشة المهماز.

روايات احلام/عبير:خدعه مصيريهWhere stories live. Discover now