60 دقيقة

9.6K 747 175
                                    

- أبلغك أسفي الشديد، ابنتي. السماء شاءت هكذا، و القدر قد كتب بالفعل، هذه الحقيقة و وجب أن تتقبليها.

قال الطبيب زافرا بشدة، متألما لحال الفتاة أمامه. وردة في ريعان شبابها، زهرة يانعة بالحياة، مفعمة بطاقات قد كبتت، مزينة بابتسامة تضاهي الشمس في إشراقها. الفتاة ذاتها، و الزهرة ذاتها، قد تحولت لنبتة ذابلة، لشابة قد يئست من الحياة.

صوت شهقات محاولات كتمها قد باءت بالفشل عم المكان الفارغ إلا منها، مصدرة الصوت، و الطبيب المعتصر قلبه بشدة فور وقع ذاك السؤال على مسامعه.

- كم تبقى لي في هذه الدنيا ؟ كم تبقى لي قبل الموت ؟

أطال النظر لمقلتيها فلحظها تصرخ بألم، تأمل ملامحها الفاتنة ليؤمن بظلم القدر، هو قد أقسم أنه مستعد لمقايضة روحه في سبيل عيشها هي. أحيطت عيناها بالسواد إثرا لنحيبها، و كرزيتيها قد فقدتا نظارتهما، كما فقدت بشرتها لونها الحليبي و باتت مصفرة ذابلة. لطالما لقبت بالملاك، و هي كانت كذلك بالفعل، غير أنها كانت ملاكا يتعذب آنذاك.

- ستون دقيقة هي ما تبقى.

وقع حذاءها على أرضية المصحة كانت كل ما يسمع، فهي و رغم توقعها للأمر، إلا أنها لم ترد التصديق، هي هرولت بسرعة مبتعدة عن المكان الذي أنذرت فيه بموتها. كما تتساقط قطرات الندى على بتلات الأزهار، و كما تجري المياه في السواقي، كذلك كانت تجري دموع حارقة حافرة أخدودين على وجنتيها. رفعت عينيها للسماء لتجدها مسودة، و ما هي إلا برهة حتى تهاطلت الأمطار، لتبتسم هي، فالسماء تبكي لبكاءها، تهتم لها كما لم يفعل أحد من قبل.

هي بقيت تجول شوارع العاصمة، كاسبة نظرات محتقرة من أناس يجهلون كونها تتعذب، كونها تعاني، كونها تحترق. لكنها لم تأبه، فهي قد اعتادت تلك الأعين الرامقة لها.

وصلت أخيرا لمقصدها، تلك الحديقة التي هجرت، ثم تسلقت السور بمشقة، فرؤيتها باتت غير واضحة جراء تجمع تلك الدمعات في عينيها. اختلست النظر للساعة البالية التي زينت معصمها، فتجد خمس دقائق قد مضت بالفعل، و لم يتبقى لها سوى خمس و خمسون دقيقة أخرى قبل انقضاء رحلتها.

بطرف قميصها، و بخشونة، هي قد أبعدت تلك المياه المالحة من طرف جفنيها، ثم اتخذت من الأرجوحة مجلسا، الأرجوحة نفسها التي لطالما امتطتها حين زيارة الحديقة بمعية والدتها. سمحت لجفنيها بالانطباق، و أطلقت العنان لعقلها يسترجع ذكرياتها الغابرة، رأت شريط حياتها يعاد أمام مرآها. شاهدت أباها كيف تخلى عن عائلته الصغيرة حين كانت بالخامسة، تردد صوت بكاء أمها كل ليلة بعد أن تظن طفلتها قد خلدت للنوم، شهدت موت أمها في سبيل حمايتها هي، تلك الطفلة ذات الثمان سنوات، استرجعت شعور التحاف الثرى و العيش تحت رحمة الشوارع، استرجعت احتقار الناس لها و تنمر أقرانها عليها، هي استرجعت كل شيء، كل تفاصيل حياتها البائسة و التي ستنتهي في غضون دقائق. عادت لتفتح عينيها حين اكتفت من الذكريات، لتتساقط الدموع أكثر، بينما هي باعدت شفتيها، هامسة.

60 دقيقة (بيكهيون)Where stories live. Discover now