الفصل العاشر

1.6K 98 22
                                    

وقفت علي صخرة عالية مشرفة علي البحر ... صخرتهما التي اعتادا الجلوس عليها سويا.
كانت تراقب تكسر الموجات علي الشاطئ القريب و قد تكاثرت الدموع في عيناها كغيمة مشبعة تنذر بالهطول .
اخذت نفسا عميقا محملا برائحة البحر عله يغسل بعضا من همومها ... و لكن ذلك كان مستحيلا عليها ... ففي تلك اللحظة من ذروة يأسها كل ما انتابها هو رغبة في التلاشي ... و كم تمنت لو كانت كنقطة من الماء تسقط في البحر لينتهي امرها عند ذلك الحد ... حيث يتلاشى الجزء في الكل.
كانت الافكار السوداوية تحلق حول رأسها كعقاب كاسر يأبي المغادرة الا بروح فريسته ... و هي كانت اضعف من ان تقاوم .
التفكير وحده يقتلها و الالم كان اكبر من ان تتحمله ... لا تستطيع الابتعاد ... و كذلك لا تستطيع الاقتراب و طلب غفرانه .
لقد جرحته اكتر مما تعتقد ... تكفي نظراته المشبعة بالعتاب ... لقد تحملها عشرة سنوات ... تحمل فيها القاء اللوم عليه... تحمل من اجلها ما يستحيل ان يتحمله رجل شرقي.
طعنه الجميع في كبريائه كرجل ... حتي اقرب الناس له و لكنه مع ذلك تمسك بحبه لها ... كان لها اكثر مما كانت له. تلك الحياة لا تريدها بعد الان ... فهل تجلس كمتفرجة بينما تري اخري تسلبه منها؟ .
مستحيل ... هذا ما لن تتحمله يوما ... كما انها ايضا من المستحيل ان تطلب فرصة اخري ... ليس تكبرا بقدر ما هو خوف من الرفض و خوف من شعور بالذنب يتسلل اليها كلما شعرت بمدي انانية ما تفعله .
كان قلبها يعتصر الما حتي تمنت لو استطاعت ان تخترق صدرها و تنتزعه علها تشعر ببعض من الراحة .
عادت ادراجها الي منزلها و هي تقاوم رغبتها الملحة في الاقدام علي ذاك الجنون الذي زينه لها شيطانها .
بما ان الحياة بعيدا عنه مستحيلة .. لما لا تنهي تلك الحياة!
هزت رأسها بعنف راغبة في التخلص من  الوسواس الذي يلح عليها منذ ايام .
و لكن صوتا كريها بدأ يتملك حواسها يخبرها بما يجب عليها فعله لتنهي الالم .
مرت لحظات كثيرة لهما امام عيناها و لكن لم يعلق بذهنها سوي المؤلم منها ... اغمضت عينيها بعصبية رغبة منها في التخلص منها ... و لكن دون جدوي .
كان النوم الذي جافاها طوال الايام السابقة يأبي ان يرحمها و يريح روحها المعذبة .
جسدها بدأ يخونها حيث بدأت قوته تتلاشي تدريجيا و ما زاد الامر سوءا هو تلك الحمي التي تزحف اليها .
استلقت علي فراشها محتضنة وسادتها بألم .. ارتعش جسدها بردا .
اليوم سيكون ملكا لأخري ... الليلة زفافه ... لن تتحمل هذا ابدا ... شعرت بكل ذرة من ذرات عقلها تتقد جنونا ... تشتعل بألم تخطي حدود روحها .
فهل ستسرق تلك الأخرى قلبه منها ؟ ... هل ستهديه ما عجزت عنه هي مسبقا ؟ ... طفلا يحمل روحه و ملامحه الحبيبة .
لكم تخيلت ملامح هذا الطفل طوال السنوات العشر التي كانا فيها معا .
يا الله ... كم ضحي من اجلها كما لما يفعل شخص اخر.. لم تكن لتلومه علي فعلته و لكن حبها له هو ما دفعها لذلك .
اشتاقت اليه حد الموت ... تاقت روحها لكل ذرة فيه ... و كم افتقدت توسده لصدرها بعد يوم عمل طويل و كأنه طفل صغير يختبئ في حضنها من قسوة العالم الخارجي .. كم اشتاقت اصابعها لتمسيد شعره.
كان بالفعل يملك روح طفل عجزت عن مجاراة سنوات عمره التي قاربت علي الاربعين ... و هذا ما جعلها تعشقه اكثر ...  و كم اكتفت به عن الاخرين .
لم يكن مجرد زوج ... بل كان عالما بأكمله ...  الان لم يبقي لها سوي الانقاض ...  بقايا روح معذبة و جسد هزيل فقد كل معاني الحياة  .
عادت الافكار السوداء لتهاجمها ...
تري اين هو الان؟ ...  هل هو مع تلك الأخرى التي ستقصيها بلا شك عن عالمه ؟  هل ستكون سعيدة معه كما كانت هي ؟ .
عند تلك النقطة لم تحتمل المزيد ...  نهضت من فراشها صارخة بألم.
ارتفع نحيبها ... كاد قلبها يتمزق حسرة ... هتفت برجاء قائلة :
" يا الله ... اجعل هذا الالم يتوقف...  ارجوك .. ساعدني "
كانت النيران المشتعلة في صدرها اقوي من ان تحتملها .. تابعت هذيانها :
" لطالما اكتفيت به عن اي شخص اخر ... دائما ما كان كل شيء لي ... و الان بعد ذهابه اصبحت بلا شيء ... كيف سأحيا هذا الخواء الذي تنذر به ايامي المقبلة ... كيف سأتحمل الم فراقك يوسف "
نهضت من فراشها بصعوبة و توجهت الي الحمام الملحق بغرفتها ... اتجهت مباشرة لحوض الاستحمام و ملأته بالماء...  ثم نزلت فيه بكامل ثيابها .
زاد ارتجاف جسدها المحموم ...  و لكنها لم تخرج ...  بل تمددت اعمق و ارتخي جسدها المتعب في الماء  اكثر .
كل ما ارادته في تلك اللحظة  ان تخفف حدة النيران المشتعلة في جسدها ...  و التي لم تكن الحمي هي السبب الوحيد لها ...  بل هي غيرتها القاتلة حينما تتخيل ان اخري  ستحل مكانها هذه الليلة .
هذه الدقائق من التخيل كانت اصعب ما مر بها في تاريخها ...  كانت تموت الف مرة في الدقيقة .
ارخت جسدها اكثر في الحوض الذي امتلأ عن اخره و فاض الماء منه بوفرة .
فغمرها الماء حتي  ذقنها ...  و رغم برودته الا ان جسدها فقد الاحساس بكل شيء ملموس  ...  حيث كانت تنسلخ عن الواقع ببطء غارقة في عالم اخر لا يوجد به الا هو.
استمرت في انزلاقها للأسفل..  حتي باتت مغمورة تماما تحت الماء .
طالت بها الثواني بلا ادني حركة منها ...  تدريجيا فقدت اتصالها بكل ما حولها ... و مع كل ثانية و بنفاذ الاكسجين من رئتيها كانت تقترب منه  اكثر .
وقفت علي الحافة ما بين الحياة و الموت ... شعرت بقوة اكبر من ادراكها تسحبها نحو الظلام ... فلم تكن لها القدرة علي التشبث بتلك الحياة اكثر من ذلك .
اخيرا بدأ كل شيء يتلاشى بظهوره ثانية ...  ها هو قادم ناحيتها بابتسامته العذبة ...  فتحت عينيها علي اتساعهما و بادلته ابتسامته بسعادة خالصة ... خرجت حروف اسمها الثلاث من بين شفتيه بأعذب نغماته ... تماما كعادته حين يناديها  .

إلا أنت Onde histórias criam vida. Descubra agora