قطعت الشقيقات مسافة طويلة ، و مررن بطرق قاسية و عويصة ، فبلغ منهن الإنهاك مبلغه ، و أتعبهن بوطأته ، فقررن الإستراحة عند أقرب حقل يرينه ، لكي يخططن لطريقة الهجوم على الظلال ، و يوزعن المهام ، فقد اكتمل عددهن الآن ، و اجتمعن كلهن ، إحدى و عشرون أختا ، لينقذن العالم من حكم الظلال ، و شقيقتهن من الأسر و الأغلال .
وبعد حين ، وصلت الشقيقات إلى مشارف مرج من الأمراج ، يشبه جنة أخذت زخرفها و ازدانت ، و سكرت أغصانها من رحيق الطل فتمايلت . فيه كل شيء مليح ، ما يين وحوش تمرح ، و غزلان تسنح ، و عيون نابعة ، و أثمار يانعة . و قد جمع بين عذوبة التنسيم ، و اعتلال النسيم ، فأدهش العقل و الناظر ، كما قال الشاعر :
انظروا إلى الروض النضير كأنما نشرت عليه ملاءة خضراء
فإذا سنحت بلحظ عينك لا ترى إلا غديرا جال فيه الماء
و ترى بنفسك غزة في دوحه إذا فوق رأسك حيث سرت لواء
النهر خد بالشعاع مورد قد دب فيه عذار ظل البان
و الماء في سوق الغصون خلاخل من فضة و الزهر كالتيجانفنزلن فيه و استرحن هناك دهرا من الزمن ، ثم تحلقن بعد ذلك تحت شجرة وافرة الظل ، عريضة الأغصان ، قوية الجذور ، وبدأن يتناقشن المعركة القادمة ، و يتبادلن آراءهن حول كيفية الهجوم ، و عندما توصلن إلى قرار ، و انتهين إلى اتفاق ، كان الليل قد حل ، و الظلام قد نشر السواد على الممالك النائمة ، فغادرن المكان متجهات نحو أرض الظلال و قصورها ، و قد عزمن على قتل حكامها و جنودها عن آخرهم .
و بعد ساعات من المسير تبدى لهم في الأفق و الأثير ، قصر كريه المنظر ، أسود اللون يقف بغرور على رابية قاتمة . حينها ، علمت الفتيات أنهن و صلن إلى قصر الظلال ، حيث ينام الأشرار ، فاستعددن و تأهبن ، و عندما أردن إكمال السير ، تبدت لهن سحابة قاتمة ، و شاهدن غبارا طار حتى سد الأقطار ، فلم تمض دقائق حتى انجلى ذلك الغبار ، و تمزق إلى الجو و طار، و محت ظلمته كواكب الأسنة والرماح ، و بريق بياض الصفاح ، و بان من تحته طغاة الظلال و جنودهم .
لم تهدر الصبيات ، و لو دقيقة واحدة ، و أقبلن على الجند ، كاندفاع البحار في دروع تحسبها مزردة على الأقمار ، حينها تقابل الجيشان ، و التطم البحران ، و تصادموا بالسيف و السنان ، و اخترقت الشقيقات الصفوف ، و أرعبن الألوف ، و قاتلن قتالا تشيب منه الولدان ، حينها علت ضجات في الفلاة ، سمع صوتها جميع الملأ، و بدأت الركضات تجري في الصفين ، و ذكرت الكل بيوم حنين، و ارتعب الأعداء ، و تقهقر الجنود ، و صارت الصدور تحت الحوافر ، و تحكمت الرماح و الصوارم ، و ضعفت السواعد و المعاصم ، و ما زال منادي الحرب ينادي إلى أن كلت الأيادي و ذهب النهار ، و أقبل الليل بالاعتكار ، و الفتيات لا يزلن يبطشن بجيش الظلال ، فوق جثت القتلى و تحت سواد السماء ، حينها أدرك الجنود أن الهزيمة من نصيبهم ، فعزموا على الغدر و الكر و الفر ، لكن الفتيات كن لهم بالمرصاد و هاجمنهن بقوة و شراسة الأبطال ، فحمى وطيس الحرب ، و لمعت السيوف ، و توجهت الجموع و برقت شهاب الرماح على الدروع ، و دارت طواحن المنايا على رؤوس الرجال و الفرسان و طارت الرؤوس عن الأبدان ، و خرست الألسن و تغشت الأعين و انفطرت المرائر ، و عملت البواتر ، و طارت الجماجم و قطعت المعاصم ، و خاضت الخيل في الدماء ، و تقابضوا في اللحى ، و قضي على عسكر الظلام ، و مات طغاة الظلال عن آخرهم ، و قضي على كل جندي من جنودهم ، و تخلص العالم من وطاة الكابوس الذي حاصره .
احتفلت الفتيات بهذا النصر ، و غمرت السعادة قلوبهن ، و شربن كؤوس الفرح حتى الثمالة ، و هن يشمتن في أعدائهن ، ذوي المنظر البشع ، الذين لهم من الليل ظلمته و الأسد نكهته و النمر وقاحته ، فكن يتفلن في وجوههم ، و يطعن أجساد الأحياء منهم و هن يمشين نحو القصر ، حيث توجد أختهن .
و ما إن وصلت الفتيات القصر و دخلنه ، حتى سمعن صوت بكاء أختهن ، فتتبعن الصوت إلى غرفة محكمة الإغلاق ، لم يكن بإمكانهن فتحها ، فارتأين تكسير بابها ، و مع كل ضربة على المقبض كانت التعويذة التي تحيط القصر تنقشع ، إلى أن اختفت تماما عند تكسر الباب ، و عاد القصر و الرابية إلى جمالهما و بهائهما ، و أنقذت الفتيات أختهن، و اجتمعن معا بعد طول فراق ، و عشن كلهن في هناء ، داخل القصر و الحديقة الغناء ، دون أي تدخل أو حكم من الأعداء ، و بقيت الحال هكذا إلى أن أتاهم هادم اللذات و مفرق الجماعات .و بهذا تنتهي حكايتي يا سادة ، بالهناء و السرور و السعادة ،حكايتي التي تمثل العالم العربي مجتمعا ، حكايتي التي تكبر حلما وردي اللون في كل صدر مواطن عربي ، حكايتي التي هي أمنية كل شخص تشربت عظامه العروبة ، و نامت في قلبه الهوية العربية ، فأتمنى أن تكونوا قد استكشفتم المغزى من الحكاية الذي يقبع خلف كل سطر و كل جملة و كلمة ، فقصتي ليست للهو و المتعة ، بل هي للإعتبار و الإستفادة.
![](https://img.wattpad.com/cover/119220869-288-k73908.jpg)
YOU ARE READING
حكاية من أرض العرب
Short Storyكانت حياتهن جميلة كحديقة ورد مخضرة ، أو كنهر عذب ينساب سلسبيلا .فقد كن يعشن في أمان و حب معا ، بدون خوف أو رعب و ألم ، في بيت يسعهن جميعا ، حيث الشمس دوما ضاحكة كالحلم . لكن الوضع لم يستمر على هذا المنوال طويلا ، إذ إن حياتهن صارت جحيما ، بعدما غز...