الأسيرة

قَبس ثورةٌ

زخّات المطر المسموعة ذاك اليوم رسمت للمساء ملامح أخرى؛ فجعلته لوحةً بهيةً ذات جمالٍ طبيعيٍّ.
كانت مستلقيةً في الزنزانة تُضمِّد جراحها. القمر بهاؤه منكسرٌ بين القضبان على محياها، دموعها ترسم طريقها نحو الهاوية، وقلبها ضائعٌ منتشٍ بذكرياتها، وعبق النّسيان يأبى الطّغيان على رائحة دمائها.

رأت بصيص نورٍ فورَ فتح الحارس البوابة، مدّ يديه مقدماً لها الطعام؛ حساءٌ باردٌ وخبزٌ تخشى الحشرات على نفسها الموت إن تناولته. رمقته غاضبةً محاولةً إخفاء آثار الوهن. تناولت وعاء الحساء من يديه ثم أفرغت ما فيه صوب وجه الحارس ونطقت: "أتساءل من أين سرقتم هذا الطعام؟ لا أحتاج ما تقدمونه، أتغذى على الصبر واليقين".

تلا قولَها دخول بضعة حراسٍ يحملون عِصيّاً حديديةً، ووزعوا الألم على كل موضعٍ في جسدها، لم تقاومهم، حملت نفسها على الصبر على الآلام؛ إلّا أن صيحاتها الثكلى ما فتئت تصدح، فاحتوتها الجدران ضامّةً إيّاها.

ما وزرُ أمٍّ دافعت عن طفلها بغريزةٍ اللهُ خلقها في نفوسهنّ؟ تحت أي وثيقةٍ أو مصنّفٍ تُعتبر الأمومة ذنباً عظيماً؟ ومنذ متى كان الشعورُ بالأمنِ مُحرّمٌ على الفئة الضعيفة فقط؟

لم تستطع إسناد نفسها بعدما تلقته، حرّرت آهاتٍ حبيسةٍ، وأطلقت العنان لروحها فتخبطت عازفةً مقطوعةً لا يسمعها أصحابُ القلوبِ الصمِّ.

تحرّكت شفتاها ونطقت: "يا رب، أرشدني إليك، وأنر عليّ بنورك المقدس اللامتناهي. يا رب، دُلَّ طمأنينةً منك إلى عبدتك الضعيفة. يا رب، دعْ سَكينتك تحفُّ الأرجاء وتثبّت الأفئدة".

وما لبثت الثواني تجري حتى جاءها الردُّ السماويُّ بآيةٍ هي الشفاء للكلوم المتناثرة على جسدها الهزيل: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).

تبسّمت وقالت طالبةً بخضوعٍ: "يا الله، المزيد".
فتردّدت آيةٌ أخرى في أصداء فكرها: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

أغلقت عينيها متلذذةً بكلام الرحمن ثم عادت لتطلب: "يا الله، المزيد". فتجلّت آيةٌ ثالثةٌ: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

شعرت بسلامٍ اجتاح أوصالها، قَدِمَ النومُ كشكلٍ من أشكال الرحمة الإلهية المنزّلة عليها.

• • • • •

جلست على الكرسيّ المهترئ، تشاهد نشراتٍ إخباريّةٍ جُلّها يتحدث عن حروبٍ وصراعاتٍ، عن مصابين وقتلى، عن مُشرّدين ويتامى، عن أراضٍ نُجِّست بخُطى محتلّ، وقرىً شهدت التحام قاطنيها مكونين أحزاباً بأشكالها المختلفة، ومدناً اكتسحها فسادٌ وفقرٌ وضياع وليّ الأمر. اعتبرتْ هذه النشرات مصدر بؤسٍ وبؤرة شؤم.