°ختام°

98 14 13
                                    

عمي العزيز،

او هل اقول سيدي رئيس التحرير ؟ ، ما يجب عليك توقعه هو أنه بعد هذه الرسالة وقتذاك ستتيقن انني لست سوى عنان ابنة صديقك العزيز ، و لم اعد صحفيتك المتدربة الجديدة ، و ارجو منك ألا تجفل لذلك ، و الا تهدر صحتك هباءً بسببي ، سأوضح لك ماهية ما يقع الآن ، لكن فقط استرسل في قراءة ما بقى .

سأقص عليك اقصوصة ، احداثها في منزلي و وقتها مطمور في قبور حوتها ابطال قصتي ، لا ترتعد ، و ارجوك لا تمتقع اساريك السمحة ، إنها قصة القت ببصيص من نور على حياتي المنقلبة بعدما أوفى والدي منيته وقتها حين كان الليل فيها يبدو ابديٌّ غاسق لاحت منه كل شذرات الضوء .
أتذكر حين اريتني منزلي كم كانت آيات الحبور جلية تعتلي قسمات وجهي لأول مرة منذ كان منطفئ و حزين بعد وفاة أبي ؟

ذلك البيت الذي رد لي جزء من انبلاج وجهي ، حوى كتاب ضخم ، كتاب كان الاخير وقتما كُتب، كاتبته كلماتها من عبق ، و اسمها شذي كالورود ، يطلق على بطلة قصتي "عبق" .

عمي ، ارجوك لا تتسرع ، اقرأ بتأنٍ، ها انا سأُلخص الموضوع .

عبق تعيش في بلدة ما ، أجهل اسمها حتى الآن ، لكن لا تقلق سأعمل على سبر أغوار هذا الأمر .

افاقت عبق مع انبلاج صباح يوم ما ، وقتها حين تم احتلال بلدتها ، و أضرمت النيران في كل الكتب ، و تُركت كل الاوراق تتلظى في ساحات كبرى ، ايضا العبرات كانت تحرق مقلتيها بشدة فقد كانت قارئة نهمة .

أما عن عائلتها فلم يكن لها سوى جد عجوز ، كان من كبار القوم في موطنها ، و ما يجعل الفؤاد وجيبه صاخب ان هذا الجد و كبار القوم باءت جهودهم فشلا لحل أمر هذا الاحتلال و ضحره ، لذا و في وقت آصال احد الايام المتشابهة ، ضحى الجد بما بقى من حياته فداء لبلاده و لكتابه الأخير أمام عيني عبق .

لن أطيل عليك ، و لن اسرد لك ما خامرها من شعور ، فكل هذا معلوم .

بالطبع الآن تتساءل ماذا حل بها و هي وردة بريئة ، كما أنها أضحت وحيدة بلا اشواك تغرسها في أنامل من تجرأ على قطفها .

لكنها لم تبقى وحيدة ، بقى لها شوكة أخيرة ، أو فاصلة (،) كما كانت تسميه ، خطيبها ،كان هو الشوكة .

اختفى خطيبها يوم الاحتلال ، كأنه اندثر في براثن الارض ، علمت بعدها أن جنود الاحتلال القوا عليه القبض لإنه كان يحمل مجموعة كتب كهدية لعبق ، لكن لا تعتقد ان بهذا يكون قد ختم فصل الشوكة الأخيرة ، فهو لتوه قد بدأ.

في كل صباح كانت تتلقى رسالة و بأسم (المجهول) موقعة ، كانت منه ، يطمئنها عليه ، يسندها بكلامته قبل أن ترتطم بالأرض وحدها ، و مع الرسالة دائما ما صحبتها جثة لجندي من جنود المحتلين ، فأنبأها عقلها أن حبيبها هو البطل الذي يطرحهم أرضا الى الأبد أمام بيتهم.

يوم لم تطلع فيه شمس و لم تنبلج فيه علامات للنهار ، يومها يوم قُتِل الحبيب متخذا من عتبة بيت وردته العبقة ملاذا اخيرا .

حسنا هنا انتهى فصل الشوكة الأخيرة فعلا ، لكنه اختتم بوردة استحالت اشواك جاعلة من كل من جال بفكره لمسها مثخنا بالجراح .

قررت عبق يومها أن تذهب لقلعة قائد المحتلين ، قررت أن تبادر بالحديث عله يتيقن أن مغبة أمره ما هو إلا سواد قاتم .

و في خاتمة الكتاب ، أوصت من يجده أن يحفظه كمقلتيه في محجريهما ، كما تركت كلمة أخيرة انجلى معها اي شك ، اخبرتني انها ستترك في الكتاب نقطة نهاية أو علامة ما تخبرنا بها عن عاقبتها أو ماذا حدث لها بعدما خطت نحو نقطة الهلاك ، لكن تلك النقطة لن تجدها الا اذا اصبحت بلادها حرة محلقة في سماء فجر منبلج.

و أجل يا عمي ، وجدت النقطة ، و وجدت رسائل خطيبها ايضا ، و هذا ما جعلني اتيقن أن كل تلك الحكاية ما هي ألا حقيقة واقعة .

اعتذر يا عمي إن كنت قد خذلتك او خيبت آمالك ، لكني لم انسى أنه كان ينبغي علي كتابة مقال ، و من الصعب ان تجد أحدهم بسرعة ليكتبه ، لذلك انا سأعطيك الخبر الرئيسي لهذا الاسبوع كتعويض .

«مجهول يوزع كتب في ساعات الصباح الأولى على بيوت المدينة مع عبارة "حافظ على كتابك قد يكون الكتاب الأخير " و لم يتعرف احد على هويته حتى الآن ».

و دعني أُجري تعديل صغير على الخبر ، إنها مجهولة و ليس مجهول ، ايضا لا يخامرك القلق قد هاتفتني صديقة قديمة ، عرضت علي عمل معها ، هي تمتلك مكتبة ضخمة ، و ايضا مازالت ثروة ابي طائلة لا ادري ما افعل بها .

شكرا جزيلا يا عمي على كل شئ .


صغيرتك عنان.

*****

ألقى رئيس التحرير الرسالة على مكتبه بحركة عشوائية ، جال ببصره بتفكر في أنحاء الغرفة الفسيحة ، حتى استقر ناظريه على مكتبه متفاجئا بطرد لم يخطر على باله أنه مصاحب لتلك الرسالة الموقدة للأبدان .

هم يقطع ما لف هذا الشئ المستطيل من ورق ، ليقابل رسالة أخرى ، و هذه المرة كتب عليها من الخارج «استقالة».

مع الرسالة ضيف آخر ، كتاب بلا عنوان ، غلافه ثقيل و أوراقه قديمة لكنها عتيقة مازالت صامدة .

طفق يقرأ ما خطته تلك الصغيرة المجنونة كما يسميها ، و بلا ملامح جلية استرسل يردد ما لاقته مقلتاه :

" آسفة سيدي رئيس التحرير ، انا استقيل من منصبي ، لن يجتثني احد من هذا القرار .... حافظ على هذا الكتاب فهو فعلا الكتاب الأخير

عنان"


-تمت بحمد الله-

الكتاب الأخير ©Where stories live. Discover now