صاحبة المكتبة

657 15 3
                                    

       في آذار (من سنة 2011)، كانت السماء مكفهرة الديباجة، مقطبة الحاجب، معبسة الأفق، تنذر بهطول وابل من المطر. "يوسف"، شاب في ريعان شبابه، يبلغ من العمر عشرون سنة، طويل القامة، ذَا عضلات مفتولة كالجبابرة، أسمر اللون، على جبينه بقعة من أثر السجود والإيمان الصادق. في ذلك الصباح من يوم الأحد استبدل ملابسه، وأخذ نقوده، وامتطى دراجته، وتوجه إلى المكتبة قصد شراء بعض الكتب.
   وصل إلى المكتبة في شوق وحنين، فالكتب بالنسبة إليه حياته الثانية. و للمكتبة واجهتين زجاجيتين فيهما كتب متنوعة، انساب إليها فوجدها فارغة، ألقى السلام وانتظر لثواني مرت كأنها ساعات من فرط الصبابة،، فاستدار خائباً، لكن على حين غرة، ناد منادٍ من خلفه، صوت رقيق ورهيف لحن، أدار وجهه، فوجد فتاة داخل هذه المكتبة، اعترته نوبة من الارتباك، احمرت على إثرها وجنتيه، وتراقصت عينيه، انعقد لسانه عن النطق، وانحبس فمه عن الكلام، أحس بدوار كأنه في حلم و تحت قبضة الجاثوم الحديدية، غمرته نوبة من الشتات عبارة عن ارتعاشة كالريح الهادئة التي تنذر بمجيء العاصفة، دَنا من الواجهة وهو لا يزال على اِلتباس، شخّص نظره في البنت، إنها شديدة الجمال كالحسناء، ترتدي زي إسلامي أصيل، بلون أزرق دامس، يتوسطه طراز بهي. أظهرت البنت على كياستها معه، تلعثم فمه، وطلب كتاب "قواعد العشق الأربعون"، لم يسأل على الثمن، ولو يكلفه ذلك نقوده كلها سيدفع لا محالة، اكتفى بكتاب واحد قصد الرجوع تارة أخرى.
   أنشب الليل شراع سدوله القاتم، وانجلى سراج القمر بنوره المضيء، وبزغت النجوم أضواءها، وانهمرت السماء بوابل من المطر الشديد.
     في تلك الليلة صاحبه السهاد، وحلق من بين جفنيه، لم يعرف للنوم سحنة، ولا رائحة، أرق من شدة التفكير في الفتاة، بالكاد عقله يختل ويصبح هشيماً تذروه الرياح. أخذ مذكرته لتسجيل بعض الأحداث قصد النسيان، لكن لا جديد يذكر، إنها لا تبرح مخيلته، ثم قرأ كتاب قواعد العشق الأربعون ومع ذلك بدون جدوى. تُراقص صورتها ذهنه بين فينة وأخرى، كأنها تساومه وتعلن عن التحدي، وما زَاد الطين بلة، هي احترامها لنفسها بارتدائها للزي الإسلامي.
      حل يوم جديد، بأمل طامح، وتفاؤل جامح، وبحلم ناجح، لا ريب فيه من التقلب، استيقظ "يوسف" في الفجر للصلاة، ثم رتل القرآن بصوته العذب، الشجي والمنيب. هذا أول يوم سيذهب فيه الشاب إلى الجامعة بعد نجاحه في السنة الأولى، لكلية الأدب لابن طفيل. توجه صوب الكلية بنفس حالمة، و ثقة فائقة، و رغبة جامحة. دخل إلى القسم الشاسع، أخذ له مكان في الصف الثالث، وأخرج من محفظته كتاب لكي لا يضيع فرصة القراءة، لم يكلم أحد، لأنه قد قرر أَن لا يعاشر البشر، وذلك بعد وفاة والداه، تركا في نفسيته جرحاً غائراً لا يندمل، رغم ذلك لم يكن وحيداً في هذه الحياة، كان معه الله و صحابته الكتب. في حين أن القسم امتلأ على آخره، وكصعقة البرق خطف "يوسف" نظره، و كطلقة المسدس معن نظره وهز حاجبيه، ظل مشدوه العقل والذهن، مذهول اللب و العين. إنها صاحبة المكتبة، قد أخذت لنفسها مكانا في الصف الأول، إنها ساعة الجحيم، الشك يفتك باطنه فتكاً شنيعاً ويقطعه، ظل يرتقب، الثانية تمر بالدقيقة، والدقيقة تزحف بالعشر، يراقص البندول شرايينه ويتبختر على عروقه، انقضت الساعة، وبدون هدى ولا طائل انتظار، وثب الشاب مهرولا لكي يراها، لكن هيهات هيهات تلك الجرأة اللعينة تأبى إلا أن تجعله يضعف، وهو الذي علمته الكتب أن يكون جريء مهما تكن الظروف.
      مر أسبوع على لقاء المكتبة، وأنهى "يوسف" قواعد العشق، أبهره هذا الكتاب كثيراً لا سيما في شخصية شمس، تلك الشخصية القوية بقلبها لا بعقلها، والمؤثرة بآلة لسانها، وتلك القواعد الندية بمعناها، فوقف الشاب على القاعدة الثامنة والثلاثون، صحيح أن حياتنا هذه ما هي إلا موت قبل الموت، وذلك من أجل تغيير النفس من الداخل.
   انساب "يوسف" إلى المكتبة قصد شراء كتاب آخر و رؤية البنت كذلك، نبضات قلبه تتسارع و ترتفع بوطأة، عند دخوله رمق رجلا كهلا يتراقص في أفنان رأسه الشيب، و على لحيته كذلك التي تتوسط وجهه المربع المتغضن و ذو التجاعيد، يحمل على يديه كتاب. خاب أمله لأنه لم يجد الفتاة، وأراد أن يعود، و لقدره الجيد جاء زبون آخر، فانجلت البنت من وراء كومة من الكتب بمشيتها المتواضعة، و ابتسامتها المبتهجة، و زيها الإسلامي الأصيل. وعلى عين غرارة من "يوسف"، بدأ ذلك الزبون يقدح الفتاة و الكهل بأرذل العبارات الماجنة والخادشة للحياء، كانت شرارة الغضب تتطاير من بين عينيه، لكن الشاب لم يصبر على ذلك، إن شهامته لا تسمح له بالمشاهدة، وشجاعته تأبى التفرج، إن مروءته لا تحبذ الوقوف دون حراك أمام هذا الموقف، فتدخل وفك هذ السجال، كان صنديد وأسكت ذلك المتعجرف وأخرجه مدبراً. تلقى الشكر من لدن الشيخ والبنت، وأراد الرجل أن يهبه كتاب كهدية، لكن "يوسف" أبى ورفض. فذلك ليس من خصاله، فهو لا يريد مقابل لعمل في سبيل الله.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Jan 06, 2021 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

صاحبة المكتبةWhere stories live. Discover now