غُرباء وصلهم القدر

429 25 13
                                    

مُترنَّحا كشارب الخمر في وضح النهار، في عينيه نظرةٌ تُعبّر عن ألف صرخة بعد هيجاء لحقتهُ بالدّمار، شفه السّفلى ترتجف بشهقة تلوى الأخرى أرغمتها العَبَرُ وأمسكتها الشفة العليا بالتّمتمة، ولكن وجههُ النحيف المكتئب لم يُعبر سوى عن النهاية؛ نهاية الصمود.. نهاية المعركة، وخسارته فيها.

بين الأزِقة يمشي بخطوات معوجة، بأرجل مقوَّسة لم تَثبتْ له في المسار، عيناه تقطران دموعًا، لم يجد لها حلًّا سوى مسحها بكف يده المتيبّسة والمتجعّدة. صَمتُه يُغني عن ألف حديث، بالرغم من أنَّ له وجهة محدّدة، إلا أنَّ ترنُحه وطأطأة رأسه تجعل كلّ من يراه ببشَرته السوداء المتجعدة، ووجهه الميت بعينيه المحصورتين بين عظام جمجمته، وملابسه الرثّة الممزّقة الملطّخة بالرمل والإسمنت والغبار، يظُنّ أنّه مجرّد سكير متشرد هائم على سطح الأرض.

الشيخ أحمد كان غير ذلك، بل عكس ذلك، الشيخ أحمد مجرّد عامل بناء بسيطٍ بأجر لا يُفطر صائما ولا يكفي عائلة، غريبٌ كيف يراك الناس ولا يرون سوى ما يريدون رُؤيته. غريبٌ كيف يراك الناس سكّيرا ولا يرون أنّك تترنّح فقط من شدّة التعب، منذ أن صلَّى الفجر وهو يمشي بحذائه الضيق المتآكل مسافة سبعة أميال من قريته إلى المدينة، ولم يتوقف لحظة لا من المشي ولا من البُكاء ولا من الدّعاء. كان أحمد في طريقه لمنزل أخيه في المدينة، شقيقه الذي يملك متجرًا كبيرا جعل منه رجلا ذو صيت ومال ومكانة، وجعل منه حيوانا مُتوحشا مغرورا ودون رحمة.

يبكي الشيخ "أحمد" ويُعيد في رأسه ألف ذكرى، ولا واحدة منها تُسعد، لم يرفع رأسه ولو للحظة، لا لبوق سيارة، ولا لحاجز أمامه أو إنسان، فقط كي لا يراه أيّ مارٍّ يبكي.. فقط كي يحتفظ بماء وجهه في وقت كان متأكدا من أنّه قد خسر فيه كلّ شيء آخر، يُفكّر ويُعيد.. في زوجته الحامل المريضة التي اخبرها الأطباء عن ضرورة إجراء عملية عاجلة مكلّفة لا يُغطِّيها التأمين، وإلا ستخسر ابنتها التي في رحِمها، ورُبما الشيخ "أحمد" سيخسر كلاهما، لم يكن للشيخ وزوجته العجوز سوى شاب في العشرينات من عمره، ضائع في حياته، لا يُبالي إلّا بنفسه وعيش حياته في الفراغ، فاشلٌ لا يُريد سوى المال، ولا يفكر سوى في الهجرة، ولا يبالي سوى ببطنه وفرجه ومخدّراته. لا يفعل شيئا سوى لوم والده الشيخ على الفقر الذي بُعث للحياة فيه، ترك الدراسة بعد أنْ رسب لأعوام كثيرة، لأنّ كلّ همّه كان في كم من الوقت ينام، ومظهره كيف كانْ، وكمْ من فتاة تحلم به في المنام، ولكن دومًا هناك مشكلة المال، فذهب إلى الشوارع مع أمثاله ظنّا أنّ المال سهل المكسب، فواجه حائط الواقع أنّ الرزق لن يُسهّل الله فيه إن كان بُغية الحرام، فاتّجه للسرقة والنّهب والعنف، أرهق والداه العجوزان على أبواب المحاكم وقضبان السجون، ولم يرثَ لحالهما يوما مع أنّهُما لم يمنحاه سوى الحب والحنان والدّلال، لهذا كان حلم الشيخ وزوجته ابنةٌ بارّة بوالديها، تُسعدهما في أواخر عمرهما وتُعيد لهما ضحكة الشباب ولو لمرة قبل الموت، ولكِبرهما لم يتوقعا يوما أنّ الحلم قد أصبح دُعاء، والدُّعاء استجيب من الله.

فَلْسَفَةُ حَيَاةDonde viven las historias. Descúbrelo ahora