فلتعلم ما حييت

28 2 0
                                    

     بكلية الآداب و العلوم الإنسانية لجامعة أكسفورد لندن ببريطانيا، تقدمت بطلب لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم، فقررت البحث عن أكثر شخصية تأثيرية عرفتها البشرية و لم يشهد لها مثيلاً على مر العصور، في بادئ الأمر لم يكن لي أي شأن بالشخصية التي سأبحث عليها لأنها لا تهمني حقاً، ما يهمني أكثر  هو أن تكون الشخصية أثرت على العالم أجمع، و تركت عليه أثراً ذائعاً إلى يومنا هذا.
     ظللت أبحث لمدة أسبوعين كاملين في مكتبة الجامعة، لكن دون جدوى، في كل مرة كنت اعود و الخيبة تغمر محيّاي. بقيت أبحث في الإنترنيت، إلى أن تحقق لي ذلك، و لن أنسى بتاتا ما حييت تلك الفترة من البحث، و لن تبرح من مخيلتي قط، لقد أماط ذلك البحث اللثام عن حياتي، و أراني الحقيقة المؤلمة التي كنت أعيش فيها، قد أراني محيّا الحياة الحقيقية، لقد كانت الحقيقة المؤلمة، أحياناً تكون مؤلمة هي الحقيقة، عندما تزيل الحجاب عن عيناك، لتقول لك و تخبرك أنك على خطأ، و ليس على صواب و سداد، خذلان للنفس حقاً حينما تحسب نفسك تحسن صنعاً، و أن الحياة تسير بشكل جميل، و أنك على الطريق المستقيم، لكن في غمرة من الدهر، تكتشف أنك كنت في هوة قاتمة طوال الأعوام التي خلت من عمرك، لا أصل لها حقاً و أنت لا تدري، و تعيش في الضلالة و الظلمات رغم النور الذي يطوقك من كل جانب. حسناً سأخبرك بشخصيتي، التي جعلت مني أموت و أحيا لأنبعث من جديد، و جعلت  الحياة التي كنت أعيشها تنقلب على فترة من الزمن، لأن في الحياة؛ يجب أن تموت قبل أن تموت كي تحيا قبل أن تموت، أنا أعرف يا رفيقي حق المعرفة أنك تعرفه جيداً و تحبه رغم أنك لم تره قط، لكنك تؤمن به و تعتقد أنه قد يكون شفيعاً لك حينئذ.
     هنالك في بادية بني سعد بمكة ولد، عام الفيل سنة 571م، في هذه السنة أضاء نبراس على البشرية جمعاء، أنارت عليهم مثل شمس في كبد السماء، إلا أن هذا النبراس ظل متقداً و منيراً على الأنام كافة، و لم ينطفئ بتاتاً، هذا الطفل، فتح عيناه و جاء إلى هذا العالم و لم يجد أبوه الذي توفي و هو لا يزال في بطن أمه. لم يسلم هذا الطفل من الابتلاءات قط، فصغره كان حافلا بالامتحانات و الاختبارات، في منطقة الأبواء، عند عودته و أمه و خادمتها من زيارة قبر أبوه الذي لم يراه، كان حينها العناق من لدن أمه يصدح بالفراق و الحرمان من الأمومة أبد الدهر، و العبرات التي كانت تنهمر من عيناها بغزارة نسجت كلمات كفن الوداع، فتوفيت أمه في تلك الصحراء القاحلة، و هو في سن السادسة، تحمل قلب هذا الطفل معاناة اليتم، و ألم الفراق، فكفله جده عبد المطلب و توفي هو الأخر، فاستقر عند عمه أبي طالب.
     حمل هذا الطفل عناء اليتم على عاتقه، و واصل الحياة كأن شيئاً لم يكن، رعى الغنم على صغره و تاجر في التجارة، و تحدى الحياة و قاومها بمغرياتها و ملذاتها، فكان الصادق الأمين، و من أشرف و أصدق خلق الله و أمين قومه، لم يخن العهد و لا المال، فتزوج السيدة خديجة، و هو شاب في الخامسة و عشرون ربيعاً. أحبها، فكانت بمثابة الحضن الآمن الذي يأوي إليه، و الدرع الحصين الذي يحتمي به، لم تكن كباقي النساء هي، كانت مختلفة تماماً، فعازرت هذا الشاب و وقفت معه وقفة رجال، منحته نفسها و مالها فكان أهلا لذلك و الزوج الأمين. إلى أن جاء اليوم الموعود؛ لما بلغ أشده، هنالك بغار حراء، نزل عليه الروح بإذن من ربه، ليكون للناس بشيراً و نذيراً ، فبدأ الوحي باقرأ و أنُزل المزمل للنبوة و المدثر لتبليغ الرسالة، لقد جاء هذا الرسول بالحق و الصدق، و لم تصدقه إلا قلة قليلة من قومه في بادئ الدعوة، التي كانت سراً في أولها، لحكمة من الله أوحى بها إلى نبيه، حفاظاً على سلامة المسلمين الجدد، و توحيد صفوفهم و تماسكه. فجاء أمر الله بتبليغ الدعوة جهراً، لم تكن الدعوة يسيرة في تبليغها، لقد اعترضوا على توحيد الله، و جعلوا له الإناث، و أنه لن يعيد الخلق تارة أخرى، و غضُوا الطرف عن الصدق الذي جاء به الرسول، فقالوا عنه كاهن مجنون، و شاعر و ساحر، لقد قاوم الكفار هذه الدعوة و حاربوها بمتخلف الأشكال و الأساليب، سخروا منه و أصحابه و عذبوهم، شوه الدعوة، و مسوا النبيء بالسوء،  و حاولوا قتله و طلقوا بناته، لقد صبر هذا الرسول العظيم عن أَذى قومه، و حلم عن ظلمهم له، رغم إذايتهم المتكررة له، رغم ذلك ظل محتسباً و صابراً عليهم، أي إنسان هذا، أَجِد ان اللغة العربية بجحافل مفرداتها الاثنا عشر مليوناً؛ تبدو ركيكة حقاً و ضعيفة أمام وصف هذا الرسول العظيم، و كان له صحابة أشداء و أقوياء على الكفار، شيمتهم الإخلاص و التآزر و الإيثار فيما بينهم، كانوا مستعدون أن يضحون بأنفسهم دون تردد في سبيل نصرة دين الله، و أن يفدون صاحبهم بأرواحهم و أموالهم و بما يملكون، كانت من عوامل ثباتهم، أنهم جعلوا من الرسول قدوة لهم، وثقوا به و صدقوه، و بعقيدة راسخة في عقولهم لا يلحقها ارتياب و لا شك في، أن النصر قادم قادم لا محالة من عند الله،  و كانت المبشرات التي تتنزل على الرسول و القرآن الذي يثبت قلوبهم و لا يجعلها تزيغ بتاتاً. إن الله لا يترك عباده الذين نصروه و اتقوه، المرسلين منهم و المؤمنين، هي سنة الله في كل زمان و مكان لا تتبدل. بعد عام الحزن، أسري به إلى سدرة المنتدى، قصد التخفيف عنه و زيادة يقينه بعظمة الله و قدرته.
     هاجر مكة إلى المدينة بوحي من الله، و تخطيط محكم من الرسول و الصحابة، لقد تَرَكُوا كل شيء وراءهم من أولادهم و أموالهم و ممتلكاتهم، و استجابوا لأمر الله و رسوله، و أكمل النبي محمد دعوته إلى الله و نصرة الدين الاسلامي، و نشر الخير و السلام و إشاعة المحبة و الرحمة بين الناس،  في سبيل إعلاء راية الاسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجاً. و تم إكمال الدين، و أتى الأجل، حينها خير فاختار، خير بأن يظل خالداً في الدنيا و أن يدخل الجنة، أو أن يذهب إلى ربه، فاختار الرفيق الأعلى، ليذهب إلى حيث سنذهب أجمعين، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. هو لم يمت حقاً، إنه لا يزال يعيش معنا في كل وقت وحين، حي في أذهاننا التي تنفك إلا و تتذكره، و قلوبنا التي تنبض بحبه، و ألسنتنا التي ترتع سروراً بذكره.
     يا أخي في الله أعرف أنك تعرف القصة بأكملها، لكنني أنا لست هنا لذلك، أنا هنا كي أذكرك، و لا شك أن الذكرى تنفع المؤمنين، أريد أن أخبرك بشيء ما: أن تحيي سيرته، و تهتدي بهديه، و تستن بسنته، و تأخذ معجزته و تعمل بها، و اجعله منهجاًلك و سبيل  لك أمام المغريات. أطنبت في الحديث و نسيت أن أقدم لك نفسي، أنا "جيمس" من أصول أوروبية، أسلمت على يدي رسول الله، و اسمي الان "علي". كان لزاماً علي تعلم اللغة العربية. فتعلمتها حتى برعت فيها و صرت أتكلم بها. حفظت كتاب الله و عزمت أن أستن بسنة رسول الله، إن القرآن و السنة النبوية بمثابة الضوء الذي ينير لك الطريق في العتمة الليلية، كي لا تتعثر أبداً و لا تضل عن سواء السبيل، هما الحياة التي ان استننت بهما فزت دنيوياً و أخروياً، أنارا لي السبيل أمامي، بعد أن كنت أمشي وسط العتمة، و أيقظاني من يقظتي الغافلة. يا صاحبي أعرف أن لا خوف عليك، مادام لديك رسولاً مثل محمد، هذا الإنسان العظيم، إني أعظك ان تقتفي اثره، و تتبع خطاه، و تتطبع و تتخلق بخلقه، انه صلى الله عليه و سلم قرآناً يمشي في الأرض على رجليه، لم يكن هو كسائر البشر و لا الانبياء ! ، بل أنه كان أفضل البشر على الإطلاق و الإنسان الكامل في خلقه، لقد أخذته لنفسي قدوة و نموذجاً رفيعاً في هذه الحياة، و أنا الآن قادر على أن أفديه بروحي إن أسيء إليه أمامي و قيل فيه قول قذر. هي دعوة مني إليك أيها العربي اتبع رسولك، و تشبث بكتاب الله. لقد عجبت لأمرك أيها العربي، كيف لك أن تضل عن سواء السبيل، ولديك كتاب اسمه القرآن، و لديك رسول الله صلى الله عليه و سلم، أيها العربي إنهم متفقون عليك، فلا تكن لقمة سائغة بين أيديهم، كفاك ذلا و مهانة أرجوك، كفاك حروب و صراعات مع أخيك، لقد غدا جسمك هزيلا مهشماً، مثقلا بالندوب و الجراح التي لا تزال لم تندمل بعد، إني أنصحك لأنك أخي في الله، و "لا خير في قوم ليسوا بناصحين،  و لا خير في قوم لا يحبون النصح ، و خير الرفاق من تحابوا و تناصحوا." كما قال الفاروق رضي الله عنه. و الله لا إنسان يستحق أن تحبه أكثر من  رسول الله، ذلك اليتيم الذي حمل لي و لك و للإنسانية جمعاء البهجة و السرور، إنك  لم تقدم شيئاً لهذا الرسول و لا لدين الإسلام و لا أزكي نفسي، و لكن فلتتبعه و تقتدي بسيرته، و تأخذ بالصدق الذي جاء به، و تعمل بسنته. أيها العربي، فلتعلم ما حييت: إن سبيل نجاتك في الدنيا و الآخرة، هو كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم، فلتتيقن ما حييت أنك لن تضل بعد ذلك أبداً.
     لتنتهي قصتي هذه، و تبقى قصته خالدة إلى يوم الدين، لتبتدأ هناك قصة أخرى في النعيم السرمدي و الأبدي، بأحداث مغايرة، و حبكة منوطة بإحكام، هنالك سيجازى الذين آمنوا بهذا الرسول و صدقوا الصدق الذي جاء به، و اتبعوا أوامره وأحبوه،  لذلك يا صاحبي اسعى من أجل أخراك، اسعى إليها، و تذكر أن ليس للإنسان إلا ما سعى. و الآن، سأتركك بسلام، و آمل أن ألتقي بك في جنان الخلد مع خير الانام.
        
                              تمت بعون الله
                        في:30-11-2018
                              بقلم: حاتم الفحصي.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Feb 16, 2019 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

فلتعلم ما حييتWhere stories live. Discover now