20/02/2019

98 5 0
                                    

"قلبي كئيب هذا المساء، وأجراس كنيستي لا تدق، وفي عيني خيال صبي جميل يعانق روحي ويحمل عني عمرا من التعب."

قرأت منشورها الأخير مصادفة ومصادفة ابتسمت رغم الألم، هي هكذا، تحول أحزانها إلى حروف رنانة دائما ثم تبتسم لكل الصباحات الجديدة، أو هكذا كنت أظن.

مواعيد قليلة جدا وصامتة جمعتنا، لم أكن أبالي، لكنها قالت ذات مساء أن ما بيننا أكبر من كل اللقاءات وكل الحكايا والعلاقات، وأن هناك أبعاد أخرى أعمق للروابط، أبعاد خاوية من الابتذال والتصنع والزخرفات. أحيانا نستطيع التواصل دون حديث، عبر ذبذبات الجسد أو من خلال الأفكار التي لا نعلم كيف استقرت في دواخلنا. 

من بين عشرات الأحباء وآلاف الأصدقاء وشتى القصص التي مرت بها، أنا الشخص الوحيد الذي يستطيع القراءة أبعد مما كتب، يستطيع فك الأحاجي ويستطيع الغوص بخفة في غمار كل ما لم يقل وهذا عظيم.

شعور التميز في ظل هذا الكون الكئيب لذيذ، أن تصير مهما بغتة  وبشكل غير اعتيادي أبدا، كالبطل الوحيد لكل روايات الكاتبة القادمة، ككل الظلال الباهتة في كل المشاهد، ككل التفاصيل الخفية المشفرة في لوحة الموناليزا، وكالشيء الجميل في كل هذا.

ريح شمالية عصفت بهذا الصباح، تقول أنها إن غابت ذات يوم دون عودة، فسوف تهب مع رياح الشمال، تهطل مطرا في نهايات يناير أو بدايات فبراير، فصول البكاء الحزينة. 

لا يأخذ منا الغياب إلا أجسادنا، لكنه لا يهشم أيا من الروابط المقدسة، هكذا تقول الأساطير التي آمنت بها، وروابطنا في نار عينيها مقدسة كعهود الإله.

منذ فجر اليوم، لا تفتح رسائلي المقتضبة ولا تكتب لي النصوص الطويلة ولا تسمع شيئا من الموسيقى التي تبعث فيها مزيدا من الشغف، ولا تشاركني فتات قصائدها المفضلة، وأظنني ولأسباب غامضة أشعر بالقلق.

نوافذ غرفتها موصدة، وطرقي الخشن على باب بيتها لا يحرك في نفسها شيئا ولا ترد، لكنني أعلم أنها تختبئ هناك. أدفع الباب بكتفي، أنادي بصوت شجي، أتصل مرارا، أتعب من الانتظار لكنها لا ترد. أحوم حول البيت الصغير باحثا عن أصيص لزهر الياسمين الذي يشبهها. قالت ذات يوم أنها تخبئ مفاتيحها عادة بين الزهور الأقرب لروحها ولا شيء أقرب من زهور الياسمين إليها. أصطدم ببراعم جديدة في الحديقة لأزهار النرجس اليانعة، لم ينتبها الفضول يوما لترى ما يبدو عليه شكل النرجس حتى  رأته مزروعا في قلبي كالسر الصغير، ولم أعتقد يوما أنها قد تحبه، غير أني وجدت المفاتيح هناك.

رائحة البيت تبدو حزينة، علبة الشوكولا التي أحضرتها لها قبل زمن ماتزال قابعة على مكتبها بين رفات الورق أين تدفن أوجاعها عادة، وفيديو فلمها المفضل ساكن عند لحظة موت البطلة. حدثتني ذات مرة عنه وأطنبت في وصف التفاصيل التي تشبهها وعن كم يتغير الفيلم في كل مرحلة من مراحل حياتها كي تقترب منها المشاهد أكثر، كأنه لم يصور إلا لها، كقطعة مبهرة ضائعة من تركيبتها الفريدة، كان يجب أن تعثر عليها ذات يوم كي تكتمل.

دفعت باب غرفتها ببطء هامسا اسمها، وكما توقعت فقد كانت هناك... أو لم تكن.

رياح الشمال تهب هذا الصباح بشيء من الثورة فتهز زجاج النوافذ، وجسمها الساكن مخبأ بين الأغطية كقطعة باردة من الرخام، وهناك فوق الألحفة، بقعة حمراء شاسعة تشبه كل ما كان فيها من السحر. أخبرتني ذات يوم أن عبور الدماء في شرايينها شبيه بمرور جيوش من المسامير المؤذية وأن اختراقها قلبها له تأثير شبيه بما يفعله الأسيد  باللحم الطري وأنها إن قطعت شرايين يديها ذات يوم قبل كتابة الرسالة الألف ستكون ماتت سعيدة، وانتشت حد بلوغ الفناء.

ساكنا، ضائعا، جلست قربها، داعبت شعرها الكستنائي الطويل أملا في أن  تلتفت غاضبة مكشرة، هي أيضا لا تحب أن تلامس الأيادي شعرها، لكن هل تطيب لها يداي؟

بين حزن عميق ورغبة جارفة في الضحك، حملت هاتفها المرمي على الأرض لأجدها نامت وهي تسمع آخر أغنياتي حول الرحيل، كأن الرحيل لم يخلق إلا لها، كأني غنيت ذاك المساء أحلامها وأوجاعها.

نص جديد أودعته هذه المرة بين ملاحظاتها دون نشر، كأن قد أدركت مسبقا أنني سوف أكون هنا قبل كل الآخرين.

أخالها قالت بصوت ضاع رنينه:

"إنني سعيدة خلال هذه اللحظات إلى الحد الذي لا يطاق، وحين أكون سعيدة عادة ما  أشتهي أن تتوقف الأرض عن الدوران وأن ينتهي بي الزمان هنا فلا أرى غدا جديدا ولا يصير اليوم أمسا بعيدا. قرأت دفاترك القديمة كلها قبل هذا الجنون، نص إثر نص، بينها نص بدا مسروقا من خيالاتي، كأني تقمصت أصابعك ثم كتبته عنك... لو تعرفه فقط. من أجل هذا اشتهيت أن أموت، واشتهيت أن أموت كي أصير طيفا طافيا، يزور ليالي السهر ويبكي قربك كل الدموع اللامؤذيات. كل ما كنت أرنو إليه، أن أمنحك كل أماني السعيدة وما تبقى في نفسي من شغف،  أن أورث بقايا أملي لقلب نقي قبل أن أمضي، وأنت ذاك القلب النقي. أعتذر لأن الرسالة لا تبدو جميلة قدر المقام، لكنها رسالة انتحارية، ورسائل الانتحار صادقة فقط."

دمعة تجرح جسد الرخام ثم هذا النص الأخير وشعلة الريح القادمة من الشمال وبريق الشفق الأزرق وبكاء النجم الأصفر في الأفق ولا شيء غير هذا بقى.

فوضى الأبعادحيث تعيش القصص. اكتشف الآن