الفصل الأول

874 60 54
                                    

طافت فوق الحقول كأنها غيمة صيفية، تاجها الذهبي فوق رأسها، أحجار اللازورد تلمع تحت أشعة الشمس، فستانها العاجي يتطاير مع الريح

Oops! This image does not follow our content guidelines. To continue publishing, please remove it or upload a different image.

طافت فوق الحقول كأنها غيمة صيفية، تاجها الذهبي فوق رأسها، أحجار اللازورد تلمع تحت أشعة الشمس، فستانها العاجي يتطاير مع الريح.
مرت من فوق الحقول و المزارع، فوق القصور و المعابد، تنظر إلى مدينتها المحبوبة؛ حبيبتها الوركاء.

كانت تنوي المضي إلى الإله أنكي، إله الحكمة و المعرفة، لأخذ النواميس منه، و إحضارها لمدينتها.
و لم يثن قرارها أحد، و مضت بجرأة و ثبات قاصدة قصره، لجلب مرادها من هناك.

حينما مرت من فوق السحاب أبصرت هناك فلاح يرعى حقله، يقود ثوره ليحرث الأرض، أعجبها شكله و هبطت إليه تطالعه، و هي تقترب منه كاشفة عن هيئتها البشرية، ذات الملامح القريبة من المثالية.

بدا الفلاح في منتصف العشرين من عمره، كاشفاً عن صدره، مكتفياً بسربال يغطي حوضه حتى منتصف ساقه.
غلِظَ عوده، و برزت عضلات يده، تنضح من الحر مسامات جسده القرمزي، رفع رأسه ليمسح العرق البارز على جبينه، و شاهد تلك الجميلة تقف هناك تراقبه، شدَّه جمالها، لكنه أيقن انها ليست من مقامه و لا هو من مقامها.

فسأل بعد أن أحنى رأسه احتراماً لها:
_ من أنت يا سيدتي، و ما الذي أحضر صاحبة مقام مثلكِ إلى حقلي؟

ندّت عنها ابتسامةً لعوبة، تَقدمَت نحوه، تَتَمايلُ بخصرها، تَكشفُ متعمدةً عن ساقها، من فستانها المفتوح حتى فَخذِها، تتراقصُ الأَسَاورُ في يدها، متجلجلة، صادحة، كأجراس تغني لتمايلَ جيدها.

فَتحَت فاهها، و عيناها لا تعرفُ الخجل حينَ تُطالعُه:
_ و مِنْ أينَ عرفتَ أني صاحبةُ مقام؟

أجابها:
_ منْ هيئتكِ الملكية، مِنْ تاجِكِ و أسَاوركِ الذهبية، مِنْ اللازوردِ الذي يُزينُ صدركِ كزُهورٍ ربيعية.

سألتْ، و قد بانَ اعجابها بمُلاحظِته:
_ ما أسمكَ أيْها الفلاحَ؟

_ انكيمودو، يا مولاتي.

تقدمَتْ نحوه أكثر، حتى اضطربَت ملامُح الشابِ من الخَجلِ، راحَ يلهَثُ الأنفاسَ في حَضرةِ جمالها، و يلعقُ شفتَيه يَروي ضَمأَ أحَالَ قلبَه إلى جفاف، و هَمسَت بصوتٍ أَرعَشَ جوارحَه:
_ لقد أَعْجبتَ مولاتكَ يا انكيمودو، فلْتُراودْ سيدتكَ عِشتار عنْ نفسِكْ إن كانت لديكَ المقدرة.

حالما سَمعَ وقْعَ إسمها، سحبَ جسدَه، و لملّمَ نفسه التي ضاعت في حضرتها، و راحَ يهدأُ أنفاسه بعدَ غمرةِ الاضطرابِ التي غَرقَ فيها، ثُمَ شحذَ قوته، و استلَ شجاعته:

_ أخشى يا مولاتي أن مقامي لا يليقُ بحضرةٍ ساميةٍ مثلكِ، فلتعذِريني أرجوكِ.

لم يرفضْها أحدٌ قط، فكيفَ يتَجرأُ فلاحٌ على ذلك، هي سيدةُ الحبِ و الجنس و الاخصاب، أوَقعَت في شِراكها العديدَ من الشباب، ثم هجرَتهم بعدَ أن أصابها المللَ من رفقِتهم، فحطمَت أفئدةً بها مغرمة، و كسَرَت خواطرَ بها متيمة.
اخبارُ الملوكِ الذينَ ضَلّوا في دربِ هواها كثيرة، و عن جنونٍ أصَابَهم من بعد عِشقها ثم هجِرانها.

لابدَ ان انكيمودو يعلمُ بتلكَ الأخبار، لابدَ أن قصةَ الفلاحِ الذي يتحدثُ بِها الاخرون عنها قدْ وصلْته، ذاكَ الذي ذبحَ شاةً لأجِلها، و في اليومِ الاخرِ ذبحَ الثاني ثمَ الثالثة و الرابعة، حتى نفذَ مِنهُ ثم تركَته فراحَ يسرقُ الشاةَ من جيرانه، علَّها تعودُ يوماً للقائه.
و من أجلِ ذلك خافَ أنكيمودو منها و مما يُسّببهُ هوسَ عِشقها.

حملقَت بهِ عشتارُ غاضبةَ، أَرادَت قَلبَ حقلهِ لجحيمٍ مُستعر، أو مَسخهِ إلى فأرِ حقلٍ يُفسدُ ما زرَعتهُ يديه.
إلا أنها هَدأَت من رَوعها و احتدامَ غضبُها، ليسَ لديها الوقتُ الان لتُضيعه على هذا الفلاح الوضيع.
فانكي لابدَ أنهُ ينتظرها الان في قصرِه.

تَركَته و غَادرَت، إلا أن لا نيةَ لها بتركهِ للأبد، حمَلَت نفسها و ذهبَت لِتَقفَ عندَ بابِ قصرِ إله الحكمة.

وجَدَت الخدمَ قَدْ استَقبَلُوها بحفاوةٍ مفرطة، لابدَ أنهم يعلمونَ سبَبَ مجيئها، فأنكي على بينةٍ من مكرِها و خُبثها، و هو يعلمُ سببَ قدومها إليه، و لم يكنْ ينوي البتة التخلي عن نواميسِ الحضارةِ لها، على الأقل ليسَ بِتلكَ السهولة.

ولَّجَت عشتارُ القصرَ حتى بلَغَت موضعَ عرشَه، استَقبلها انكي بحفاوة، قُدِم لها الشرابُ و الطعام في اواني مِنْ ذهب.

أَطالَت في الحديثِ و ماطَلَت في الكلام، و راحَت تَصبُّ لهُ الشرابَ كُلما فَرِغَ كأسُه، و كأسها الأول لم يفرغ بعد.

رُغمَ حذرهِ الشديد، إلا أنها تمكَنت من خداعه بِسحرِ عينيها، و جعَلَته متيمٌ بحَديثها، حتى نَسيَّ نفسهُ و أَسرفَ في الشراب و وقَعَ فريسةً لمكرها.

وقعَ مغمً عليه، غاطاً في نومٍ عميق، و لمْ يكنْ الحصولُ على صندوقِ النواميسِ بصعبٍ الان بعدَ أن تمكَنت من مالكها بسهولة.

فأخَذَت الصندوقَ و مضَّت في لحظتها مغادرة، دونَ أن تَجدَ هُناكَ من يقاوم سِحرها و يمنعها.

بعدَ أن استيقظَ انكي من غفلتِه، أيقنَ أنَ عشتار لاذَت بفعلَتها، و سرقَت نواميس التحضر من قصره، و أصبحَت الوركاءُ الان مدينةً متحضرة، متقدمةً عن اقرانها.
أمرَ بأرجاعِ الصندوقِ مهمَا كلَفَ الأمرِ، إلا أنَ لا احد أستَطاعَ أن يسلَّبُ ذاكَ الصندوق من مجمعَ الثالوث الإلهي.

حينما أطمَئَنَ بالُها على سلامةِ النواميس، عادت لتُطاردَ ذاكَ الفلاح انكيمودو، وهي تودُّ أن تلعبَ معه، أو تستَغَله، فهو الوحيدُ الذي تجَرأَ على رفضِ فتنتها.

تموز عشتار Where stories live. Discover now