بارت 27

394 35 4
                                    

- اشتاقيتلك .
- آني أكثر فاروق .
راح المطر ينزل بقوة . ابتعدنا عنه نلوذ بشجرة كبيرة ، بينما تدافع الطلاب يتراصفون تحت سقف الممرات الضيقة لكليتنا .
قال لي كأنه يصدر أمراً :
- اذهبي ، احملي كتبك و تعالي معي دون نقاش .
- الى أين ؟
- نتمشى في كورنيش الأعظيمة .
تركته في مكانه و ذهبت الى قاعة الدرس ، حملت كتبي و عدت أليه ، خرجنا من بوابة الجامعة ، صعدنا في سيارته و انطلقنا الى كورنيش الأعظمية ، كانت النوارس تناور حول بقايا طعام تطفو على سطح النهر ، تذكرت حقيبة نادية التي حلمت مرة أن نوارس سرقتها .
كان فاروق يقترب مني و نحن نقف الى القرب من بعضنا عند حافة النهر ، اشم عطره الذي يربكني،أحاول أن أبتعد عنه و أترك بيننا مسافة ،
لكن شيء ما بداخلي يمنعني من الحركة ، كنت اتنفسة مع رائحة النهر ، أشتاق في هذه اللحظة ان أحضنه الى الأبد ، أن أغفو على صدرة ، أن أقبله من رقبته عشرين قبلة ، أن يمرر يده فوق شعري ، أن يأخذني بقبلة مباغتة و يرطب حياتي مثل موجة لا تعرف الجفاف ، حاولت أن أمسك يده و لكنني تلفت حولي و ترددت .
هل كان هو يفكر أن يحضنني أيضاً؟ هل يرتجف من أعماقة و يود لو إننا نذوب في لحظة عناق مستمرة مثل جريان نهر أبدي ، كان نظره يسرح مع الموجات و كنت اتأمل صمته، كم احبك يا فاروق ، كيف أقولها لك و تسمعها من روحي ، اقتربت يداه من يدي و تلامست أطراف أصابعنا ، هبت نسائم منعشة من جانب النهر و حركت خصلات شعري للوراء نزلت الشمس على سطح الماء ، و حلقت حولها النوارس تحسبها رغيفا كبيراً خرج للتو من تنور قروية طيبة الروح .
التقط نورس صغير قطعة من الخبز من حافة النهر و حلق بها عالياً تطارده النوارس الكبيرة ، مر من زمان تحت الجسر الحديدي و أختفى .
- ستندلع الحرب قريباً .
- متى ؟
- قريباً ، كل شيء يقول نها آتية تحمل معها الأخبار غير السعيدة .
-هل تخاف من الحرب؟
- أخاف عليك ، على حبنا ، على ذكرياتنا ، لا اعرف الي اي مصير ستأخذنا . الحرب ليست معركة بين طرفين فيها منتصر و مهزوم ، الحرب تقلب الحياة على رأسها و تبعثر الأشياء مثل كرة مرمية لا على التعيين ، ربما هذه آخر مرة نقف فيها عند ضفة النهر ، آخر مرة نستطيع ان نتمشى فيها في وضح النهار .
- فاروق لا تقل لي مثل هذا الكلام ، أنا أخاف .
- كلنا نخاف ، حتى هذه الشمس تخاف .
- ما الحل ؟ لقد تعبت من الأخبار .
- لا أحد بيده الحل ، الأسماك الصغيرة في النهر ليس بيدها أن تقرر إتجاه جريانه ، و حتى الأسماك الكبيرة لا تؤثر في هذه الإتجاه ، نحن مثل الأسماك الصغيرة في هذا النهر ، لا نعرف أين ستلقى بنا الأمواج .
- فاروق أنت كبران و صاير عاقل .
- في هذا البلد يكبر الإنسان كل يوم عشر سنوات.
- أريد ان أبقى صغيرة ، لا أحب أن أذهب الى عالم الكبار ، أريد أن ابقى صغاراً إلى الأبد ، أنا و انت و نادية و كل المحلة .
- بالمناسبة ماهي أخبار نادية ؟
- نادية كبرت ، لأنها تريد أن تكبر ، حتى انني صرت لا اعرفها ، صرت أخاف أن تذهب الى عالم الكبار و تتركني ، هل تحب ان تذهب أليها الآن ؟
- أين هي ؟
- في الجامعة ، بالجادرية .
- تعالي .
قبل ان ندخل الى بوابة الجامعة ، وجدنا نادية في طريقها للخروج متوجهة نحو الباص ، أبتهجت لمصادفة لقائنا ، و أبتهجت أكثر عندما علمت إننا هنا من أجلها ، أعتذرت لسائق الباص و جاءت تتمشى معنا ، سرنا نحن الثلاثة باتجاه الجسر ، و قررنا أن نتسكع من دون هدف .
في الطريق ، بعد دقائق من الصمت ، أخرجت نادية من حقيبتها رسالة مرفقة بصورة ، بعثها أحمد من الموصل مع أخت صديقة له تدرس معه في الكلية نفسها ، أعادت الرسالة الى حقيبتها و ناولتني الصورة لوحدها ، فهمت من نظراتها ، أن الصورة تحمل أخباراً غير سارة .
في الصورة ، يظهر أحمد مبتسماً و هو يقف على الطرف الأيمن من صف زملائه في لقطة جماعية لقسم العمارة ، كتفه لصق كتف فتاة شقراء تكشف ملامحها الأولية عن جمال باهر ، مررت الصورة لفاروق الذي تمعن فيها جيداً ، ليقرأ تفاصيلها بشكل أكثر دقة ، ألقى عليها نظرة عابرة ثم أعادها اليّ من دون أن ينبس بكلمة واحدة ، راقبت نادية صمتنا المعبر و قالت بعد أن تنهدت بألم :
- هذا ماكنت أخاف منه .
- لكنها صورة بريئة يا نادية .
- اذا تقرين الرسالة و تربطين بينها و بين الصورة راح تعرفين مو بريئة .
- لكن أحمد يحبك .
- كان يحبني .
ليس نادية وحدها من سمحت لدموعها أن تتحرر هذه اللحظة ، دموعي أنا كانت تبحث عن حريتها من أجل صديقتي وهي تتعثر في الحب ، نادية مثلي أنا ، لم تجرب من قبل معنى الخذلان في المساعر ، لم تعرف معنى أن يتغير عليها من تحبه و أن يرمي بقلبه في إتجاه بعيد ، كيف يمكن لمن أحب أن يتخلى عن ذكرياته ؟ أن يؤسس ممالك جديدة من الكلمات و الغناء و اللهفة في مدن بعيدة ؟ كيف ستتعود أحلامة على وجوه جديدة ؟ صحيح أن الحب قد يولد من لحظة واحدة ، لكنه يتأسس فيما بعد كمدينة كبيرة مبنية من شهيق الروح .
بعد ساعة من التجوال ، شعرت نادية بالتعب و بان ملامحها الحزن ، توجهنا الى المكان الذي ركن فيه فاروق سيارته ، جلست الى جانبه و جلست نادية خلفنا ، كان راديو السيارة يبث أغنية هيثم يوسف :
قصرت وياك يوم
گلي لو زليت مرة
شمعة إلك ضويت دوم
عمر ضاع أيام مُرة
وصلنا قرب شارعنا ، نزلنا أنا و نادية و دارت السيارة في الإتجاه الآخر ، من بعيد هب برياد يهرول نحونا فرحاً بقدومنا ، وقفنا دقائق نداعبه و نربت على ظهرة وهو يتقافز نشوان .
قبل أن تنام في تلك الليله ، كتبت نادية لأحمد رسالة طويلة ثم مزقتها ، كتبت له رساله ثانية ثم مزقتها ، وهكذا راحت تكتب و تمزق حتى غابها النعاس و نامت .
في حلمها كانت تجلس على مصطبة تحت الشجرة اليوكالبتوز ، التي تعودا  أن يجلسا عندها في الزوراء ، بين يدها كتاب مدرسي وهي منهمكة بقرائته ، فجأة فزت مع قبلة و دودة على خدها و لمسة حنونة على كتفها ، جاء أحمد من وراء الشجرة و قبلها .
هناك قبلات لا تأتي من الرغبة و لم نكن مستعدين لها ، قبلات لا نذوب معها و لكنها تجعلنا نحب أنفسنا و نحب كل شيء من حولنا .
(الكاتبة /شهد الراوي )
------------------

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن