10/صراخ

5.2K 227 144
                                    

تُمسك بالمايكرفون وكأنها طوق نجاتها، تنسابُ المُوسيقى ناعمةٌ وديعة مثلها تمامًا فيخرُجُ صوتها الذي يحاكي شدو القماري، شجيًّا مُفعمًا بالحُزن والجمال، تغنّي للحُب الذي لم تنل منه نصيبًا فيطرب المُستمعين بصوتها العذب المُثخن بالشجن... فقد كان صوتها آخر استلحتها ولم يتبقى لها سواه لتحارب في هذه الحياة، كانت تغنى بالسجن، عندما تشعر بأنها ستموت من الحسرة فتواسيها الأغاني وتُربّت على من حولها فيجتمعن ليسمعن صوتها ويشرُدن بعيدًا عن الأسوار والأقفال الحديدية.

تغنّي للحُب والأمهات، للفراق وللغربة، تغني بكُلّ جوارحها علّ صوتها يتمرّد فيغادر تلك الزنزانة الحارقة..
اثناء غنائها اليوم تذكرت كُلّ شيء، تذكرت طعم الكلمات المُختلطة بالتعب والذُلّ، تذكرت رائحة الأقفال الصدئة، تذكرت رحلات العذاب الجسدي الذي تعرضت له طوال حياتها ولم يرحمها السِجن فأكمل على ما تبقى منها.

ولكنها الآن تشعُر بالفخر، بالسعادة لأنها بالرغم من كُلّ شيءٍ لا زالت تقِفُ على قدميها، ولن تنهار ابدًا، فليس لديها في هذه الدنيا سوى هذه الروح المُتعبة وستعمل جاهدةً لجعلها تستريح.
انتهت وصلتها الغنائية بتصفيقٍ حار وقد دمعت عيون المُستمعين بتأثُّرٍ من بحّة صوتها المُختنق بالحزن.

انحنت لتحيي جمهورها بلباقة ونظرت للعلبة الزجاجية الموضوعة امامها وقد امتلئت بالأوراق النقدية مما يعني انها اعجبت رواد المكان.. كادت ان تترجل الّا ان امرأةً اربعينية تجلسُ على احد الطاولات برفقة زوجها هتفت اليها باسم أُغنية اُخرى مطالبةً إياها بغنائها ترويحًا عن حزنهم وعندما التفتت لصاحب المطعم وجدته يشير اليها مبتسمًا بأن تغني وسجى تجلس هناك برفقة طفلها تلوّحُ لها بسعادة.

تغيرت موسيقى الحُزن لأُخرى مُفعمة بالبهجة، تراقصت قدماها على نغمٍ عالٍ وبدأت تترنم بصوتٍ كهديل الحمائم، ابتسم الجميعُ بدهشةٍ وهم يشاهدوا تحول نبرة صوتها الحزينة لأُخرى عالية مُشاكسة، تبدوا كلوحةٍ شديدة الفرح وهي تغني وتحرك اناملها على وقع الألحان.
من كان ليصدق ان ميرال الهادئة التي لا يُسمعُ صوتها تحمِلُ كل هذه الحيوية؟! كان الجميع منبهرين بجمال صوتها الذي يفوق في روعته اكبر المغنيات.

انتهت الأُغنية الثانية ووجهها ينبضُ بسعادةٍ طالما شعرت بها كلما رأت تاثير صوتها على احد، وهذه المرة كانت تحيتها الأخيرةُ وهي تنزلُ بخجلٍ عن المنصّة واول من هنّأها هو خليل صاحب المطعم الذي اشاد بصوتها قائلًا بدهشة:
- صوتك ملائكي، بحياتي لم اسمع صوتًا بهذا الجمال، إنه لا يشبه اي صوتٍ في العالم.
نظرت اليه بخجلٍ حقيقي بينما اردف بإعجاب:
- إنه صوت ميرال فقط، صدقيني انتِ خُلقتِ لتكونين نجمة، هذا المكان لا يليقُ بكِ.

اجابته بحرج ولا زالت سجى ملتهيةٌ عنها:
- انا لا ارغب بأن أُصبِح نجمة، يكفي فقط ان اجد مكانًا يأويني.
نظر اليها بعطف وقال وهو يدعوها للجلوس:
- لقد اخبرتني سجى بقصّتكِ.
اتسعت عيناها بذُعرٍ ليجيبها برأفة:
- انا اثِقُ بها فبالتالي من المؤكد ان اثق بكِ، سأمنحكِ العمل وقد سمِعتُ انكِ ماهرة في صُنع الطعام، ما رأيكِ ان يكون عملك بدوامين، صباحًا كطاهية مساعدة ومساءً كمُغنية وسيكون راتبكِ مُضاعف.

بيوت الرملWhere stories live. Discover now