البارت العاشر

11 2 0
                                    

إذن أنت تريد هلاكي؟
– إن أمر هذه الفتاة يهمني، وسأشهد مع كولار على ما رأيناه.
فجثا بيرابو على ركبتيه وقال: رحماك إن كلمة منك تزجني إلى أعماق السجون.
ً وكان هذا الشيخ وقحا مع الأدنى متذلًِّلا للأعلى، قويٍّا مع الضعيف جبانًا مع القادر،
فجعل يتوسل إلى أندريا وهو يبكي بكاء الأطفال، فأنهضه أندريا وقال: كفاك الآن ُّ توسًلا، واجلس أمامي لنتحدث.
فقال بيرابو وقد استحالت ملامحه من اليأس إلى الأمل: أتعفو عني؟
– كلا، ولكني سأجتهد أن أتفق معك، وإن لم أكن قاضيًا قادرا على سجنك، ولكن ُ لي الآن سلطان عليك وعلى حريتك وشرفك ومنصبك، وسأرى إذا كنت أستطيع أن أحصل على مطلوبي بهذا السلطان.
ً فظن بيرابو أن أندريا طامع بالمال فقال له: أتريد مالا؟ نعم، إني لست بغني، ولكن قل كم تريدَّ فهز ً أندريا كتفيه مبتسما وقال: إني أريد أكثر مما تظن.
– إذن أنت تريد خرابي؟ 
– ليهدأ روعك فلست بحاجة إلى مالك، وأصغ الي.
فتنهدُّ تنهد الراحة، ونظر إلى أندريا نظرة إجلال،
فقال أندريا: إن لك ابنة وقد رقصت معها ليلة أمس.
– نعم.
– وقد عقدت خطبتها إلى فرناند روشي.
– هذا أكيد.
– إنك أخطأت في ذلك، فإن ابنتك قد أعجبتني، ويسرني أن تكون زوجةً لي، والآن
أصغِ إليَّ ً . إن هرمين ليست بابنتك الشرعية، أليس هذا أكيدا؟
– نعم.
ً – إنها ابنة رجل لا يعلم اسمه سواي، وقد مات تاركا ١٢ مليونًا، ولا يعلم سواي
ً أيضا بوصيته، وقد أوصى بها أن يبحث عن تلك المرأة، فإذا كان لها ولد منه تُعطى له
جميع هذه الملايين، أفهمت الآن؟
َ فأدرك بيرابو جلية الأمر، وجعلا ينظران إلى بعضهما كلصين دهم أحدهما الآخر،
ٌّ ثم اضطرا إلى الاتفاق بعد أن كان كل َ منهما يريد قتل الآخر.
فقال أندريا: إنني إذا تزوجت بابنتك فستكون هذه الملايين لها، وسيكون لك منها
َ نصيب، وإذا أبيت فإني أكتم اسم أبيها فتخسر هذه الثروة الواسعة.
فقال بيرابو وقد هاجت به أطماعه: ستتزوجها من غير بد.
- إذنِ أصغ إليَّ الآن، إنك رجل أهل لكل جريمة، كثير الشهوات ولكنك ضعيف
العقل، فلا تستطيع أن تخوض في مضمار المآثم بغير مرشد، أما أنا فسأكون ذلك القائد،
وستكون آلةً بيدي أديرها كيف أشاء.
– قبلت، وسأكون لك أطوع من العبيد.
ثم اختليا، ولم يعلم أحد ما دار بينهما، غير أنه لما خرج بيرابو كان قد وقَّع على  شروط تقرر في بعضها موت فرناند.
(16) أمين الصندوق
في اليوم الثاني من تلك الحادثة جاء بيرابو في الساعة العاشرة حسب عادته، وكان قد
ِ اطمأنت نفسه لوعود أندريا، لا سيما بما يتعلق بسريز، فمما قال له: طب ً نفسا يا عماه،
فإن اليوم الذي تزف إليَّ ابنتك تجد على باب منزلك مركبة فيها كيس ملآن من الذهب،
وبقربه سريز، فتذهب بها إلى خير بقعة خارج باريس، وتقضي معها شهر العسل.
ً وكان أندريا ضاغطا على بيرابو بثلاثة أمور: أولها خوفه من تهمة الاغتصاب وهو
شر الذنوب، ثم حبه لسريز وما يجد بها من الهيام المبرح، ثم طمعه بملايين ذلك الإرث
الخفي. فلما دخل إلى غرفته في الوزارة على ما قلناه دخل إليه فرناند، ولم يكن قد
ِ وصلت إليه تلك الرسالة الهائلة، فكان باسَم الثغر طلق المحيا، شأن السعداء في الحب،
فحيَّا رئيسه وقال: إني آت لأخبرك عن حفلة الأمس.
َّ – عسى ألا َّ تكون قد ضجرت، فهل حدثُوك عني بشيء؟
ً – نعم، وقد تملحت لك عذرا لعدم حضورك.
ٍّ - حسنا فعلت، والآن أيها الصديق إنك قد أصبحت من أشد خلصائي، فلا أجد بدا من أن أطلعك على جميع سري فأصغِ إليَّ. إن هذه الفتاة قد ملكت قيادي، واسترقت فؤادي، وأنا الآن مضطر إلى الذهاب إليها، فأرجوك أن تنتقل إلى غرفتي وتنوب عني في
قضاء الأشغال، ثم أعود بعد ساعة، وسأترك لك مفاتيح الصندوق، فإذا جاء أحد ليقبض
شيئًا فادفع له من هذا الصندوق.
وكان يوجد في هذا الصندوق اعتياديٍّا ألف جنيه بين ذهب وأوراق مالية، واسمه
صندوق المساعدات السرية.
وكانت تلك الغرفة التي فيها بريابو قاعة واسعة، وعلى الباب الخارجي خادمان
ُ لنقل أوامره إلى سائر المأمورين، فقال بيرابو لفرناند: اذهب الآن واقفل غرفتك وعد إليَّ.
فامتثل فرناند.
أما بيرابو فإنه فتح الصندوق بمنتهى الخفة، وأخرج منه محفظة خضراء وأخفاها
في جيبه، ثم أقفل الصندوق وعاد إلى مجلسه، ولما دخل فرناند أعطاه المفاتيح، وخرج
بعد أن أوصى المأمورين أن يعتمدوا على صهره فيما يعرض لهم من الأشغال أثناء غيابه،
ً ثم ركب مركبته وأمر السائق أن يسير مسرعا إلى سانت لازار.
وام يُطل مكوث فرناند في غرفة حميه حتى دخل إليه أحد الخادمين فقال له: إن على الباب رجلا يحمل إليك رسالة.
فأمره بإدخاله فدخل.
وكان هذا الرجل كولار، والرسالة هي الكتاب الذي كتبته هرمين.
َّ فوصل منها إلى أبيها ومنه إلى أندريا الذي عهد إلى كولار بإيصاله، ففض فرناند
ِ الرسالة ولم يكد يأتي في تلاوتها على آخرها حتى امتقع لون وجهه، وأحس أن الأرض أعقبت عليه، وكان كولار قد قال له: إن امرأتين إحداهما كهلة والثانية صبية قد كلَّفَتاه
بإيصال هذه الرسالة. فعلم أنهما تريزا وهرمين، ثم قرأ الرسالة مرة ثانية، فأضاعت
ً رشده ونسي موقفه، فخرج من تلك الغرفة مهرولا بغير قبعة وبغير رداء، وهو يرجو أن
يراهما على الطريق، ولم يكن معه غير مفاتيح الصندوق.
مضى على ذلك ساعة ولم يَعد فرناند، وقد عاد بريابو ولم يجده، فتكلَّف الانذهال
ودعا بالخادم فقال له: أين فرناند؟
إنه ذهب بعدما ذهبت.
– عجبًا! أيذهب قبل أن أعود؟
– أظن أنه في غرفته؛ لأن قبعته لا تزال هنا.
وجعل بيرابو يبحث عنه في جميع الغرف، ثم عاد إلى أشغاله وهو يتظاهر بالتعجب
والقلق، وفيما هو جالس إذ دخل عليه رجل وبيده صك يريد قبض قيمته، فقال له
ً بيرابو: إن مفاتيح الصندوق ليست معي، فانتظر قليلا.
فلبث ذلك الرجل منتظرا حتى أعياه الانتظار، فتلبس بيرابو بالغضب، ودعا الخادم
وقال له: اصعد إلى الطبقة العليا وابحث عنه، ولا بد أن يكون فيها؛ لأن قبعته ورداءه لا
يزالان هنا.
فذهب الخادم ثم عاد وقال: إن فرناند خرج من الوزارة.
– أيخرج من غير قبعة إن هذا مستحيل.
َّ – إن الحارس قد أكَد لي خروجه، وقد قال إنه شاهده يركض في الطريق من جهة
الباستيل.
َّ واصفر ِّ وجه بيرابو، وأخذ يردد في ذاته: هذا محال، إن فرناند شريف.
َّ – لقد غاب عني أن أخبرك أنه قدم إليه رجل على إثر خروجك برسالة، ولما قرأها
ذهب.
ُّ بريابو تنهد ارتياح، وقال: لا شك أنه ورد إليه نبأ مكدر اضطره إلى الذهاب،
َّ فتنهَد
وإني أؤثر أن يكون ذلك على أن يكون ما تسرعت في تصوره.
ثم قال للخادم: اذهب إلى أمين الصندوق العمومي، وقُل له أن يأتي إلي.
فذهب الخادم وعاد مع أمين الصندوق، فقال له بيرابو: إني نسيت مفاتيحي
فأعطني مفاتيحك.
ً وأخذها منه ثم أسرع إلى الصندوق ففتحه، وللحال رجع إلى الوراء منذعا واصفر
وجهه ووقف ساكتًا قلقًا لا يبدي حراكا.
فقال له أمين الصندوق: ماذا أصابك؟
وسكت بيرابو هنيهة ثم قال:ألْم نضبط بالأمس حساب الصندوق سوية؟
– نعم، وأذكر فيه اثنين وثلاثين ألف فرنك، منها أوراق مالية قيمتها ثلاثون ألفً
كانت موضوعة في طي محفظة خضراء.
ُ فقال بيرابو بصوت مختنق: إن تلك المحفظة قد سرِقت، وقد سلَّمت مفاتيح الصندوق منذ ساعة إلى فرناند روشي، لثقتي به، ولاضطراري إلى الخروج.
َ ثم غطى وجهه بيديه كمن يريد أن يُظهر خجله لعزمه على تزويج ابنته برجل لص.
ِ ولم يمض َّ على ذلك مدة وجيزة حتى شاع أمر فرناند عند جميع عمال الوزارة،
وكان الجميع يتلقَّون هذا النبأ بالارتياب؛ لإجماعهم على احترام فرناند ولثقتهم من
َّ أمانته، ولكن كل ما مر به من الحوادث كاستيلائه على مفاتيح الصندوق، وخروجه من
الوزارة راكضا يدل على وقوع التهمة عليه، ولا سيما تركه قبعته ليوهم أن خروجه
مؤقَّت فلا يلتفت أحد إليه، ولا يبحث عنه قبل أن يتمكن من الفرار، وكانوا يعلمون أنه
َّ لم يكن ذا يسار، فتوهُموا أنه طمع بما اؤتمن عليه من المال، ثم مرت الساعات ولم يَعد فثبت الجرم وقِضي على هذا البريء
(17) الشرطة
بينما كانت هذه الحوادث تجري في الوزارة كان فرناند التعيس يعدو في شارع سانت
لويز حتى وصل إلى منزل بیرابو، فصعد إليه وطرق الباب ففتحت له الخادمة، ولما
عرفته اعترضت سبيله ولم تدعه يدخل، فقالت له: إن المسيو بیرابو قد ذهب.
– إني أريد أن أرى السيدات.
ً – إنهن خرجن أيضا.
– إذن أنتظرهن.
ً وأبعد الخادمة محاولا ً الدخول، فاعترضت أيضا في سبيله وقالت: إن انتظارك لا
ً يجديك نفعا، فإنهن غادرن باريس، ولا يرجعن إليها قبل ثلاثة أيام.
فارتعش فرناند وقال: هذا محال.
_ولكن هي الحقيقة أْظَهرتُها لك حسبما بُلِّغتُها.
ورجع فرناند وهو يتعثر في مشيته كالشارب الثمل، ومشى في الأسواق مشية المجانين، وهو لا يعلم أين يسير، وقد أخذ منه اليأس بعدما تيقَّن من سفر هرمين،
وتغلَّب على عواطفه حتى أضاع رشده، ثم اشتدت عليه تلك الأزمة، فسقط على قارعة
الطريق مغميٍّا عليه، وتسارع إليه الناس للاعتناء به، وفيما هم يهتمون بإنهاضه إذ مرت بهم مركبة فوقفت للحال ونزلت منها فتاة عليها مظاهر الغنى، واخترقت الجماهير
حتى وصلت إلى فرناند وأحنت عليه إحناء الأم على ولدها، ثم وضعت يدها على قلبه،
ُومذْ أحست بحركة فيه صاحت صيحة فرح وهي تقول: حبيبي فرناند.
فابتعد عنها جميع الناس، وكلهم واثق أن انصرافه لم يكن إلا عن يأس في الحب،
أما تلك الفتاة وكانت باكارا فإنها أمرت السائق أن ينقل فرناند إلى المركبة، ثم صعدت
في إثره خببًا إلى منزلها.
ً ولم يفق فرناند إلا بعد أن وصل إلى منزل باكارا، فظن نفسه رأى حلما، ونظر
حوله باندهاش فوجد نفسه في سرير بملابس النوم في تلك الغرفة الحريرية التي كانت باكارا تستقبل بها أندريا، ولم يكن قد بقي من النهار إلا بقية نور ضعيف تنير تلك
الغرفة البديعة الرياش، فغالط نفسه وعاوده الظن أنه يحلم، فأطبق عينيه كأنه يريد أن
َ يستتم ذلك الحلم، ولكنه لما عاد وفتحهما وجد شخص ٍ امرأة منحنية عليه كما تنحني
َّ الأم على طفلها، ثم أخذت يده وقالت له بصوت حنون رن في أعماق قلبه: أنت محموم.
فأجابها وهو في حالة الذهول: أين أنا؟
فأجابته باكارا وصوتها يتهدج: أنت في منزل صديقة.
ثم دنت من الموقد وأضاءت شمعتين كانتا عليه، فتأملها فرناند مليٍّا، وصاح مندهشا وهو يظن أنه في حضرة ملاك لا في حضرة إنسان.
– إن الطبيب يأمرك بالراحة، فلا ينبغي أن تتكلم ولا تتحرك؛ لأن مرضك شديد
حتى إنك سقطت في الشارع مغميٍّا عليك، ولو لم أكن حاضرةً ...
ِ فقاطعها وقال: أكنت حاضرةً؟
ُ فقالت وقد ورد الخجل وجنتيها: كنت مارة من هناك اتفاقًا، فعرفتك وحملتك في
مركبتي.
– عجبًا! أتعرفينني!
_نعم، أَوَلا تعرفني أنت؟
فقال وهو يمر يده على جبينه: أجل، أذكر أني رأيتك.
فقالت وقد أطرقت بنظرها إلى الأرض: أنا أخت سريز.
_أجل، ولقد تذكرت الآن، ويَخيَّل لي أني رأيتك عندها في النافذة،
– هو ذاك، ولكن سنتحدث في هذا الشأن مليٍّا غدا أو بعده، أما الآن إنك في حاجة
ُ إلى الراحة، ولا ينبغي أن تتكلم فاهدأ وكن عاقلا.
ثم انحنت عليه كما تنحني الأخت على أخيها وقبَّلَته في جبينه قبلة رجف لها فؤاده
واضطربت أعضاؤه، وكاد يعاوده الظن أنه في حلم لا في حقيقة، ثم شعر بأنفاسها تهب
ُ في وجهه وقلبها يخفق في صدرها فوق صدره، وخيَِّل له أنه قد سمع كلمة خرجت من
ً شفتيها الورديتين همسا، كما يهمهم نسيم الماء، تلك الكلمة التي ما وقعت في قلب رجل
إلا اهتزت لها كل عروقه، والتي لا شبيه لها إلا رنة العود في قلب الحزين، أو صوت
المطرب في أذن النشوان، ولا يقولها أحد بمثل تلك اللهجة والحنان إلا أفواه النساء، وهذه
الكلمة هي «أحبك»، وهي كلمة تختلج لها كل نفس، فكيف إذا كانت نفس ابن عشرين.
ولما طلع الصباح ومرت نسائمه الباردة على جبهة العليل، ففتح عينيه ووجد باكارا
واقفةً تجاهه وقد ضمت رأسه بين يديها، وألقت عليه نظرات غرامها وانعطافها، وهي
ِّ تكرر له هذه العبارة على اتفاق إمعان واختلاف روي «أحبك وأهواك».
وفيما هي كذلك وقد أخذها الحب وأطلقت عقدةَ لسانها أيدي الصبابة والهوى،
طرق أذنها صوت جلبة ووقع أقدام كثيرة تدنو من بابها، فوثبت إلى السرير مسرعة،
وارتدت أول ثوب وقع تحت يديها، ودنت من الباب فسمعت صوتًا من ورائه يقول:
افتحوا باسم الحكومة.
َ فعلمت أنهم رجال الشرطة على بابها، وداخلَها الرعب والخوف منهم، مع علمها
ِ بأنها لم تجن في حياتها ذنبًا يستوجب دخول حاكم في أمرها، إلا إذا كان ذنب الغرام
َد ْت وفتحت الباب، وإذا بكبير الشرطة قد دخل عليها
الذي لا حكومة فيه، ولكنها تجلَّ
ووراءه اثنان من رجاله، وحيَّاها بأدب ولطف، واعتذر عن دخوله في مثل تلك الساعة
ً وقال: لا تخافي يا سيدتي، فإنما أنا أطلب رجلا يَُدعى فرناند روشي، فهل هو عندك؟
فأجابه فرناند من سريره: هو أنا يا سيدي فماذا تريد؟
َّ – أأنت فرناند روشي الموظف في وزارة الخارجية؟
– أجل.
ٍ – إذن البس ثيابك واتبعني، فأنا آت في طلبك بأمر من المدعي العام.
َّ فاصفر وجه الفتى لهذه العبارة، وقال: يا رب ماذا تراني صنعت؟
فأجابه الشرطى بعنف: لا أعلم، فالبس ثيابك واتبعني.
فنهض فرناند راجفًا مذهولا وهو لا يدري أنه ارتكب ذنبًا، وارتدى ملابسه وهو
يضطرب حتى إذا أتمها نظر الشرطي إلى تابعيه وقال لهما: اقبضا على هذا الرجل.
َّ وكان فرناند قد تمالك وتشدد، فقال: ما بالكم تقبضون عليَّ؟ وأي ذنب جنيت؟
فقال له الشرطي: إن رئيسك ائتمنك بالأمس على مفاتيح صندوقه، فاختلست منه
محفظة تحتوي على ثلاثين ألف فرنك.
فصاح فرناند صياح الإنكار والدهش وقال: أنا أسرق، أنا أرتكب جريمة الاختلاس!
إن هذا زور واختلاق. ثم وهت قواه وسقط بين أيدي الشرطة وهو قريب من الإغماء،
فأخذوه بالرغم عنه.
أما باكارا فكانت واقفة منذهلة من شدة ما ترى، حتى إذا خرج الشرطة بأسيرهم
وثبت من مكانها وثبته منكرة، وقد استنارت عيناها بفكر خطر في خاطرها، وتجلَّت لها حقيقة المكيدة على وجهها، وهمت أن تجري في إثر الجماعة وتنزع حبيبها من أيديهم،
وتقول لهم: قفوا ليس هو الفاعل بل السير فيليام، ولكن خانتها قواها واحتبس لسانها،
وسقطت على الأرض مغشيٍّا عليها.
ِوعند ذالك فتح باب غرفتها ودخل منه أندريا، فنظر إليها بسكون وهدوء، وهو
يتبسم تبسم الأبالسة، وقال في نفسه: لقد حسبت لك هذا الحساب، وقد حذرت لنفسي ماً أمكن. ثم قرع جرسا أمامه، فدخلت فاني ومعها رجل قصير بلباس الأطباء، وهو أحد
رجال العصابة الذين جلبهم كولار لخدمة هذا المحتال، فقال أندريا: ضعي سيدتك في
سريرها، وانضحي وجهها بالماء حتى تفيق، وأنت تعرفين الدور الذي عليك. ثم التفت إلى
الرجل وقال: أما أنت فستكون بصفة الطبيب على حسب ما اتفقنا. ثم تركهما وانصرف.
ِّ ولما فتحت عينيها بدأت باسم فرناند تكرر لفظه، حتى إذا رجع رشدها نظرت إلى
ً فاني، وقالت: أين أنا؟ وماذا جرى؟ ثم نظرت فرأت الطبيب المتصنع جالسا على كرسي
َ بجانبها، فصاحت مذعورة: من هذا الرجل؟
– هو الطبيب يا سيدتي.
– عجبًا! إذن أنا مريضة؟
ٍّ – نعم، ومريضة جدا.
َّ وعند ذلك نهض الطبيب وجس َّ نبضها، وقال: هذا هو اليوم الثامن من أيام الحمى.
فصاحت مستنكرة: اليوم يوم الثامن؟!
فقال الطبيب وهو ينظر إلى الخادمة: إن الحمى قد خفت، ولكني أخشى أن لا يكون
الهذيان قد زال، أو أن يكون مصيره إلى الجنون.
فصرخت باكارا وقد استوت جالسة: أمجنونة أنا؟ ويلاه ماذا جرى؟ وأين فرناند؟
فالتفت الطبيب إلى الخادمة وقال: انظري، فقد عاودها الجنون!
ُ فقالت باكارا: لكني لست مجنونة. ثم أمسكت الخادمة وأدنتها منها، وقالت لها:
انظري إليَّ يا فاني وأصدقيني الخبر، أمريضة أنا؟
– نعم يا سيدتي، ومن ثمانية أيام.
ُ – ذلك مستحيل، فقد كنت الآن سليمة، وكان الشرطي هنا.
ِ – لم يأت إلى هنا على الإطلاق.
– عجبًا! وفرناند كان بجانبي.
_ إن فرناند لم يات إلى منزلك قط، وأنا لا أعرفه إلا بالسماع عندما تذكرين اسمه
ِ وكنت مريضةً
فبهتت باكارا وقالت: أمجنونة أنا حقيقة، أم أنا في حلم؟
– بل كانت الحمى شديدة عليك ثمانية أيام.
ِّ – ذلك مستحيل وألف مستحيل. ثم عادت تحدث نفسها وتقول: إنني لست بمجنونة،
ولا حالمة، بل أنا مخدوعة مغرورة، وأخذْت فرناند أمس عن الطريق مغشيا عليه، وجئت به في مركبتي، واستدعيت له طبيبًا ولكن غير هذا الطبيب.
فقاطعها الطبيب المتصنع وقال للخادمة: إن هذا النوع من الجنون يُسمى اختلال
الشعور، ولا يمكن شفاؤه إلا باستعمال الحمام البارد كل ساعتين.
َّ وكأن تلك العبارة كانت ضربة قاضية على باكارا، فغطْت وجهها بيدها وأخذت تبكي، حتى إذا سكن روعها وخفَّف الدمع تأثرها عادت إلى صوابها، وعاودتها الحقيقة
التي خفيت عنها، وقالت: كل هذا من أعمال فيليام. ثم جعلت تنقل نظرها بين الخادمة
والطبيب عساها تستشف منهما ما يدلها على الحقيقة، فلم يظهر على وجههما شيء،
فنهضت من سريرها مسرعة ووقفت تجاه مرآتها، وقالت: عجبًا! ليس في هيئتي ما يدل
على ما يقولون، وليس هذا الوجه وجه مريضة، بل أراني على أتم عافية. ثم نظرت نظرةً
ثانيةً إلى فاني، فلم يؤثر عليها ذلك النظر الحاد شيئًا، بل ثبتت على تمثيل دورها، وقالت
لها: عودي يا سيدتي إلى فراشك، ذاك خير لك.
ِ فقالت باكارا: إنك ِ توهمت أن هذا الإنكليزي وافر الثروة، وأنه سيكون لك من هباته
ً ما يغنيك عن الخدمة، ولكنك جريت شوطا بعيدا، واقتحمت أمرا مستحيلا ُ ، فلست من
الذين يعبثون بهم إلى هذا الحد.
ً ثم ذهبت مسرعة إلى منضدة، وأخذت خنجرا كان عليها، وقالت لذلك الطبيب
المتصنع: إذا جرأت على الدنو مني فأنت ميت لا محالة.
فاختلجت فاني واضطربت رجلاها من الخوف، أما الطبيب المتصنع فإنه لم يكترث
بهذا الإنذار، ونظر نظرة خفية إلى فاني أعادت إليها ما فقدته من الجسارة، فقالت
لبكارا: أتريد سيدتي أن أساعدها على لبس ثيابها؟
– نعم اتبعيني. ثم سارت أمامها وهي تقول في نفسها لا أراني مجنونة، بل أراني
ُ أعقل مما كنت ، ولا يزال فرناند ممثلا أمام عيني، وأنا أذكر أمر الشرطة، وكيف ساقوه
ُ إلى السجن بدعوى اختلاس، بقي أن فاني تخدعني، ولا ريب في أن كل ذلك من صنْع
َّ فيليام. وفيما هي تلبس ثيابها نظرت إلى فاني فرأتها تمسح عينيها كأنها تبكي لما ألم بسيدتها، فقالت في نفسها: إن هاذه الخادمة تمثل دورها على ما ينبغي من الإتقان،

روكانبول الارث الخفيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن