-1-

126 11 27
                                    


«سيهيج الموج وستعصفك الرياح، لكن لا بُد للشمس أن تشرق، وإن طالت العاصفة.»

رياحٌ تؤرجح الستائر، يتجلجل الرعد فيليه هطول أمطارٍ غزيرةٍ، والظلام أنيس بيتٍ خشبيٍ مهترئ قرب البحر المضطرب في تلك الليلة الباردة.

مِفرَش المائدة المخطط بالأبيض والأحمر قارب على التحليق والهروب من النافذة لولا المزهرية الفخارية الثقيلة التي تثبته. يحدق بالمفرشٍ رجلٌ في منتصف العشرينات بعينين فارغتين من الحياة، تمامًا كما كان يحدق فيه بصمتٍ تام لأعوام.

يستقيم عن مقعده الخشبي المهترئ، يرتدي معطفًا من الجلد قد ورثه عن والده المتوفي، ويفتح الباب الخارجي لكوخه بلا مبالاة تجاه الكوب الزجاجي الذي دفعه خطأً بينما يرتدي حذاءه فبات متصدعًا على الأرض.

قوة الرياح يمكنها أن تُحيلَه طائرًا لكن خطواته كانت تحاول الثبوت، تُبرِز كم كان متهشمًا من الداخل. كانت ذات وقعٍ موسيقيٍ، والهواء حوله يصّفر قرب اذنه، ذلك ما اعتاد عيشه، وإن كانت الشمس ساطعة.

يصل إلى المنارة المُقابلةِ للبحر، يصعد سلالمها الخشبية القديمة ويسمع صرير المفاصل الحديدية الصدئة، حتى يصل إلى الشُرفة فتتكئ ذراعاه على السور، يراقب الموج الهائج والغيوم الركامية الداجية.

وفي ظل كل تلك الفوضى المناخية، ظَل يُفكِر بما سيقول لذكراها هذا العام، أيخبرها أنه أعتزل العزف؟ أم أن سقفه لم يعد يحميه، كما كانت تفعل هي يومًا؟


«الجيش! ولِمَ؟!»

«إنني مرغمٌ على ذلك يا إميليا، أعتذر منك ولكنه شيءٌ لا بد منه.»

صمتت زوجته تسمع قوله بحزنٍ، تُدافع دموعها الحارة بينما تراه يحمل حقيبته الكبيرة الي تسع كل ما يحتاج، متجهزًا في زيّ المُجندين.

أرخى يده على كتفها فبان طويلًا أمام قامتها القصيرة، ونبس بهدوءٍ واستسلامٍ للواقع: «صديقي ديفيد وزوجته سيعتنيان بك، وإن أتى المولود في غيابي فسيكونان لك العون على تربيته»

«ألم تكن تتوق لرؤيته؟» ردت عليه كئيبة الأسلوب.

«بلى، لكنني سأعود وسأراه، وسأكون قربك أرعاه، سيمضي الأمر على خيرِ ما يرام» قبّل جبينها وسارعت في عناقه، حتى اختفى الرابط الدافئ مع خروجه من باب البيت.

ملأت القشعريرة جسدها بعد نسمة أكتوبر الباردة التي هبت فجأة، تتلاعب ذرات الهواء الرطبة بخصلاتِ الرجل السائر على مهلٍ، والذي يسوق قدميه إلى مصيرٍ يتوقعه كل من يشارك في الحرب العالمية الثانية.

لم تكد الثلاث أسابيع تنتهي، حتى أنبلج صوت صراخ ذات الخصلات الداجيّة معلنةً حضور صغيرها إلى الدنيا، وبدل الصراخ صار اثنين، ثم هنيهاتٍ حتى هدأت الأجواء، تخرج صبيّةٌ من فتيات القرية تصرخ «إنه فتًى!»

تهلل النساء ويرقص الصغار الذين حضروا من قريتهم حتى الشاطئ ليشهدوا اللحظة، كانوا قد اعتادوا على أهل هذا البيت، وصاروا لإميليا عائلةً بديلة لتلك التي هجرتها عن إرادة.

تلاطُمWhere stories live. Discover now