-2-

41 7 17
                                    

«ما هذا الغشاء بين أصابعه؟»
تفحّص طبيب القرية جسده، ولاحظ هذا الأمر المُريب في يديه وقدميه، فشاركته الممرضة بعد أن نظفت المكان «أهو مرضٌ نادر قد كان من نصيبه الإصابة به؟ ألهذا علاقةٌ بالجلد الأبيض الذي أحاطه حينما وُلِد؟» 

أجابها وعلى وجهه آماراتُ التعجب «لم أرَ شيئًا مشابهًا طيلة فترة عملي»

ومع ذلك، لم ترى الممرضة ذات التعجب على وجه والدة المولود، وبدا لها -رغم أنها لم تتوقع- أنه أمرٌ قد اعتادت عليه بطريقةٍ أو بأخرى.

مرت الأيام سريعةً، كبُر الصغير ولم يستقر أبوه، فتارةً يعود للزيارة وتارةً يتنقل مع بقية الجيش، يرى الموت بعينيه ولكن يتحمل كل هذا من أجله محبوبته وصغيرهما.

وقد كان «كونر» ولدًا هادئًا في غالب الأوقات، مؤدبًا معاونًا لوالدته، وكان هذا أفضل ما قد تحصل عليه أمٌ وحيدة. لكنه تعرّض كثيرًا للتنمر، لم يلاعبه أقرانه من الصبيَة، وبقي وحيدًا، يرتاد غرفة أبيه كثيرًا ليرسم البحر، مكانه المفضل.

وفي وحشة الدنيا وظلمها كان حِضن والدته هو ملجأه الدافئ، حتى أسدلت الحياة ستائرها السوداء عليه فجر ذلك اليوم، حينما استيقظ على صوت فتح الباب ودموع والدته، لحافٌ أبيض جلديّ على كتفيها حينما انطلقت تحت نظره المشوش إلى الخارج راكضة.

لحقها، تابع خطواتها حافيا تُغرَز قدماه في الرمال فوجد بشرًا بذات اللحاف يقفون على الشاطئ ينتظرونها.

تتلفت خلفها فتجد صغيرها يحدق بها، تفزع وتهرع إلى البحر، وما أن تلامس الماء حتى تلبّسها كبقية البشريين حولها، فقماتٍ صاروا يسبحون بعيدًا عن محط نظره.

على الشاطئ ينادي بأعلى صوته، يصرخ باسمها، لكن لا جواب، سطعت الشمس، بينما شمسه هو كانت قد غابت أمدًا طويلًا.

اعتنى به أهل القرية متناقلين إياه في بيوتهم، لم يدخل المدرسة بسبب غرابة الغشاء الغضروفي الذي يجمع أصابعه كالأسماك، فلم يتقن الكتابة أو اللعب كبقية الأطفال، كان منطويًا مخذولًا، إنه حينما كان أبن الأربع أعوام، قد تُرِك وحيدًا، يواجه الحياة وحده.

كان حينما يغضب على ظُلم أولياء أموره يهرب، يهرب بعيدًا لينزوي قرب الموج الهادئ، فيعيد له صوابه ويريحه، ثم يعود إلى هناك وهو أكثر قناعة أن طيف أمه هناك هو الوحيد الذي يسمعه ويفهمه.

في العاشرة كان الغشاء قد بدأ يختفي تدريجًيا، عاش مع صديق والده ديفيد فترةً في دبلن، تعلم القراءة وأخذ يحبها حبًا شديدًا فيقرأ الكثير من كتب الأساطير ويتعلم، حتى شدّ انتباهه اسطورة شعبية عن كائناتٍ بحرية تُدعى بـ «سيلكي»، فقماتٌ تستطيع التحول للبشر بخلع جلدها.

أخبره العم كثيرًا أنها ليست سوى أسطورة، لكن شبح ذكرى اختفاء والدته كان يُجذّر الفكرة في باله أكثر، ولكن في نهاية الأمر، خبر وفاة والده المتأخر قد أحبطه، فنسي القراءة كما لو لم يكن يعرفها.

لطالما كانت والدته في قصصه المصوّرة هي الشريرة التي تركت صغيرها يتخبط وحده في مياه الحياة العكرة، إلا أن شيئًا ما يحاول ردع الفكرة، ولعله صدى شهقاتها في ذاكرته الضبابية.

كبِر وبات مُستقلًا فعاد يعيش في بيت مولده المهترئ، يتغذى على صيد الأسماك ويرتدي من ملابس والده ما تبقى، اختفى تقريبًا الغشاء لكن الكآبة تأججت فيه مع وحدته.

يقضي وقت الفراغ الكثير بعزف الكمان والذي لطالما أحبّه والده، فيتمايل القوس على الأوتار عازفًا ذلك اللحن القديم العذب لتهويدة والدته المفضلة، مرارًا وتكرارًا.

تلاطُمWhere stories live. Discover now