-3-

58 6 18
                                    

«بين الهُنا، بين الآن
بين الشمال، بين الجنوب
من الصَدفة، أغنية البحار
ليست هادئة أو صاخبة
تبحث عن الحب مجددًا»

يغني من أعلى شرفة المنارة بصوتٍ مليءٍ بالإحساس والحب، ثم يتنفس مجددًا ليكمل، لكن صوتًا أنثويا يقطع غناءه مُكملًا باللغة الإيرلندية

«يا حبّي»

من أصل البحر تصعد هضبةٌ صخرية مزلزلةً الشاطئ وقلب الشاب، فوقها امرأة بشعرٍ كاحل يتخلله الشيب وقزحتين بنيتين، بذات اللحاف الأبيض على كتفيها، بيديها تحمل صدفةً أثريّة تعزف فيها كما تعزف الناي، مكملةً لحن التهويدة الساحر مع تخبط الموج خلفها.

دمعة حارة تنزل على خده بينما يشق طريقه إلى الرمال، تحملها الأمواج إليه، وبين براثن الشوق يقعان في لحظة عناقٍ يلتهب بالمشاعر، تُحيي بقية الفقمات من حولهما بالتصفيق والنباح، والرياح تهدأ وتتوقف السماء عن البكاء، ليشهد الجميع اللقاء المُنتظر.

لم ينفك العناق سوى طويلًا، وتلاه تشابك الأيدي، حيث لاحظت إميليا أن الغشاء الغضروفي لأبنها قد اختفى، وزاد بكاؤها الفرِح بكاءً.

«لقد بقيتَ منتميًا إلى أصلك يا عزيزي، ولم تغادر البحر كما يفعل أشباهك لذا كوفئت بزوال غشائك، والآن يمكنك العودة إلى بيتك، إلى أحضانه، إلى البحر!»

«أأنا ابن سيلكي؟ أصدقتُ في معتقدي؟»

«لطالما كُنت، لكنني لم أملك الوقت لأخبرك الحقيقة، إني أعتذر، أعتذر حقًا يا بُني»

«أخبريني، أعلميني أُماه بالحقيقة»



«إميليا، إياك وترك البحار! لن تنجي هناك، البشر سيئون! آه، كفاكم ترهاتٍ»

فقمةٌ شابة تسبح في البحار تتذمر من قول والديها وأقرانها، تقلدهم بسخريةٍ واستهزاء لأنها تراهم يمنعونها عن رؤية الحياة خارج نطاقها المائي، يحرمونها العيش بحرية.

ليلتها كانت قد عقدت العزيمة بعد تفكير، لم تُرِد أن تبقى هكذا طيلة عمرها، كان عليها أن تحقق حلمها مهما كلفها الأمر وإن خسرت بلادها أميرتهم، فهذا ليس من شأنها، ستلمس قدميها الرمال الباردة، وستشعر بالشمس تُدفئ جلدها.

خلسةً قد هربت باتجاه الشاطئ، خلعت جلد الفقمة خاصتها ورمته قربها، فباتت بعدها امرأةً عارية الجسد حُرة، شعرها المتعرج الأسود يرفرف مع نسمات البحر، كان هذا تعريفها للحرية.

سترت نفسها بأوراق الشجر حينما وجدها رجلٌ فظنها ضالةً كما أخبرته، استضافها  في بيته يكسوها ويطعمها، حتى اعترف بها زوجةً وشريكة حياةٍ قد أحبّها بصدق.

حبلت بابنه، لكنه اضطر للغُربة مجبرًا ليقضي أيامه مع الجيش، هكذا ولِد كونر دون والده، يترعرع تحت رعاية أمِه فقط، والتي قد شعرت ببعض الندم تجاه صغيرها ويديه، لكنها أخفت الحقيقة بقولِ أنه مرضٌ نادر.

ذلك اليوم الكئيب كان قد وجدها حُراس أبيها وأعادوها إجبارًا إلى حيث تنتمي، وحرموها من ابنها حتى يثبُتَ ولاؤه لأصله.

«وقد ثَبُتَ ولاؤك يا بُني»، عادت تعانق بيديها رأسه، تقبله وتستمر في البكاء، بينما كونر لا يتوقف عن شهقاته ودموعه، سعيدًا كما لم يُسعد من قبل.

التفتت ناحية البحر حيث تقدّمت فقمةٌ وعلى رأسها جلدٌ أبيض اللون، أخذته إميليا وغطت فيه كتفي ابنها، يدًا بيد، تخطا حدود الرمال، وغاصا بعيدًا، إلى حيث ينتميان.

ذلك اليوم أشرقت الشمس، وأشرقت شمسه.

انتهى.

تلاطُمWhere stories live. Discover now