٣

3 1 0
                                    

٢٥ فبراير ٢٠٢٠

"وإنَّ الطِّبَّ مهنةُ كُلِّ حُرٍّ رأى أنْ يَبذلَ الجهدَ اجتهادا...د. محمد نجيب مراد". بيت شعري حفر على جدار مشفي خاص في منتصف المدينة. كانت الأفضل في المنطقة بسبب جهود الأطباء والإداريين. كانت حلم كل طبيب ففيها عُلِجَ آلاف الأطفال من أخبث انواع الأورام السرطانية وأمراض القلب. سعي إليها الكثيرون ولكن لا تسير الرياح كما تشتهي السفن فمنهم من رُفض وبالتأكيد منهم من قُبل.

كان يوم مشمساً وسط البرد القارس الذي يطرق بابنا جميعاً في يناير. كان كالوردة في الصحراء لا تنتمي. نظر عمر إلى السماء في دهشة. فقد كانت البارحة تمطر بغزارة وكأنها فتاة صغيرة فرطت بالبكاء لفقدان دميتها المفضلة.

-"ماذا تفعل هنا، يا عمر؟"

لم يحتاج إلى النظر خلفه ليعلم المصدر، فذلك الصوت لم يفارقه قط لسنوات عديدة حتى حفر في عقله الباطن. لم ينظر خلفه ليعلم أنها سمر.

-"الآن فترة الراحة خاصتي، يمكنك مراجعة الجدول."

-"ليس هذا سؤالي، سيدي الفاضل. ماذا تفعل هنا؟ لقد أرسلت لك طلباً خاصاً للعمل هنا وأنت رفضت، ولكن الآن أجد أنك قدمت ملفاً فيه سيرتك الذاتية؟ ما معنى هذا؟ ماذا تغير؟ بل العرض الذي قدمته لك أفضل، أنا لا أفهم."

كان يعلم أنها ستذكر ذلك العرض. سمر كانت زميلة دراسته وكانت عائلتها الراعي الأول لبرنامج البعثة الذي درس فيها الطب. كانت سمر فتاة ذكية جداً وفريدة من نوعها، وهو أثبت للجميع أنه ذا عقلية فذة على مر السنوات وفي وقت قليل أصبحا زملاء دراسة، فقد عمل كلاهما علي أبحاث، تقارير ومشاريع كثيرة سوياً. أديا الخدمة الاجتماعية سوياً وها هم الآن يعملان في نفس المستشفى التابعة لعائلتها.
-"العرض لا يفوت، يا سمر، خاصه وأنها قادمة من الوريث الوحيد للمستشفى. ولكن هل هي قادمة من صديقة أم من الرئيسة القادمة للمستشفى؟"

كان يعلم أجابه هذا السؤال. كانت قادمة من صديقة علمت القليل عن حياته وتريد المساعدة قدر المستطاع. كان عمر ذكياً وكان دائماً يسعى للتفوق ولكن لم تكن لديه خبرة كافية لقبول عرضها. لم يعمل وحيداً قط حتى في تلك الخدمة الاجتماعية، كان ما يقدمه يراجع من قبل الطبيب المسؤول للحفاظ على سلامة المريض وسمعة المستشفى كذلك. لم يحاول أن يخادع نفسه، فكما قيل حبل الكذب قصير واسوء كذبة هي تلك التي نقولها لأنفسنا، فينتهي بنا المطاف في التهلكة بسبب كارثة كان من الممكن تفاديها بأريحية شديدة. كان يعلم عمر جيداً أن تلك الوظيفة مهمة وتحتاج إلى خبره ليس هو بمالكها. كما أنه لم يقبل الشفقة قط ولم يقبلها الآن. كما أنه لم تكن الوظيفة هو الأمر الوحيد الذي دفعه لتقديم ملفه إلى تلك المستشفى، بل كان السبب الآخر اقوى وكان هو ما غير رائيه بعد رفضه.

كانت تعلم سمر أجابه السؤال ولم تكن لديها أدني شك أنه يعرف هو الآخر لذا لم تحاول الرد. كانت مؤمنه بقدراته ومستقبله التي تعلم أنه سيكون باهراً ولكن لم يكن ذلك هو السبب الوحيد ولكنه الوحيد الذي أرادت أن تعترف به. كانت لأشباح الماضي يداً وللمستقبل يداً كذلك. لم تكن الوحيدة المهتمة لأمر ذلك الشاب حديث التخرج، ولكن لم تكن تلك صفقة خاسرة، فهي قد حققت ما كانت تتمناه بأقل خسائر ممكنة. فها هي الآن تملك ورقة آمنت بربحها في المستقبل قريب.

-"سيدتي، التحاليل الطبية التي طلبتها لحالة السيدة منى جاهزة."
-"عن أذنك يا عمر."

رحلت سمر وكان هذا ما يريد. أراد البقاء وحيداً بعيداً عن العالم. أراد الذهاب إلى تلك البقعة التي بدأ فيها كل شيء. أراد أن يوقف الزمن عند تلك اللحظة ويعيشها مراراً وتكراراً لآخر يوم في حياته. تلك اللحظة غيرت الكثير ولربما كانت حياته ستأخذ مساراً آخر ولكن ما الحياة سوي سلسلة من الخيارات نختار منها واحداً فقط في كل مرة...
كل ما يأمله ويتمناه هو ألا ينتهي به المطاف أمام الخيار الآخر في حيرة وحسرة دائمتان.

تبرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن