البارت الثاني والعشرون

149 4 3
                                    

الفصل الثاني والعشرون
صدمة قاتلة..
كثيرًا ما نفجع عند معرفة خبر ما؛ فبعض هذه الفواجع يتراوح ما بيني القاسي والقاتل نعم كلاهُما يؤلم بالحد الذي لا حد لهُ، ولكن القاسي ربما يأتي يوم ويصيبهُ سهمًا من جنود الرحمة على النقيض تمامًا فسهام الرحمة أن اخترقت قلب فارق الحياة لا تؤثر بهِ شيء فالروح قد غادرت منذُ زمن وما تبقى جسد لا يُغني شيء.. ليلة لا تنتهي فمازالت تحمل بين طياتها الكثير، دقة الثانية عشر بعد مُنتصف الليل و "قمر"  تقطع الغُرفة  ذهابًا وإيابًا قُرب المائة مرة وعقلها يُصارع دون هواد.. ويدها تضم "ضي" التي غفت لتو بين ذراعيها بعد أكثر من ساعة ونصف قضتهم في بُكاء لا يتوقف.. ألقت نظرة قلقة عليها ويدها تبتعد برفق عن جسد الصغير تاركة الأمر لليد الأخر في حملها، ارتفعت يدها لتطمئن على حرارة جسدها فوجنتيها كانت تتوهجان بالحُمرة، تأكدت أن حرارتها طبيعية وأن سبب تلك الحُمرة غضب البُكاء لا أكثر فتحركت لتضعها في الفِراش الخاص بها ولكن هيهات فعندما اقتربت من الفِراش بدأت الصغيرة تتململ في نومها  فسارعت بتحريك يديها يمينًا ويسارِا برفق حتى تعود لنومها من جديد وعندما استكان الجسد بين يديها رفعت يديها بحذر وكأنها تحمل قطعة من الماس وضعتها في سريرها ودثرتها بغِطائها.. وتحركت بحذر من جوارها ولكن قبل أن تخطو قدمها الخطوة الثانية كان صوت "ضي" يرنو في الغُرفة، يرنو كمواء قطة تُجدي والدتها الاقتراب، أغمضت عينها بإنهاك وأعياء عجز جسدها عن تحمُله.. عادت خطواتها من جديد وانحنت قليلًا وحملت الصغير وبدأت بالحديث، حديث يحمل قدرًا من العِتاب عندما يمتزج بالحنان  : كيف ذهب النوم سريعًا؟.. وتابعت تحركها وفمها يُكمل.. ما رأيك أن نغفو ساعة واحدة وبعدها لكِ ما تشائين... وتوقفت مع التقاط عينها ذراعي الصغيرة اللذان يتحركان يمينًا ويسارًا في إشارة واضحة لرفض واعلان صريح أنها أخذت ما يكفيها من النوم وتُريد اللهو قليلًا.. تسربت بسمة حانية على وجهها وبدأت يديها بمداعبة يد "ضي" وعقلها يسبح في ملكوت خاص.. ملكوت لم تكُن تُدرك أنها ستُصبح من قانطيه بعدما طُلقت.. تنهيدة مُطولة داعبت شفتيها مع مرور خيط الحديث السابق بينها وبين جدها في الساعات المُنصرمة؛ فقد أخبرها بتلاعُب يُجيد استخدامهُ في الحديث، مع نظرة عيناهُ الثاقبة.. "الفُرصة لا تأتي سوى مرك واحدة ومن يُجيد الذكاء يعلم كيف يُسير الفُرصة لما يُريد ويطمح وخاصةً إذا كانت مُقدمة مع أموار عدة جميعها يخدم ما قُدم..".. نظرت لصغيرة من جديد وبهمس شارد كمن يُحدث شخص بالغ : ترى ما الذي يرمي إليه "عيسى الناجي" هل يعلم ما حل بها أم يعلم أن قلبها بات يخفق" لِجهاد"؟.. حركت رأسها بعُنف نافضة تلك الفكرة وسرعان ما انفرج حلقها برفض صريح : لا لم يعلم بعد؛ فبكُل تأكيد إن علِمَ فالجميع سيعلم وأولهم "جِهاد" الذي يتعامل معها بهدوء بعيد كُل البعُد عن الاستغلال أو الشفقة.. زفرت أنفاسها بتمهُل شديد مُستعيدة ما تبقى من حديث صارم تحلى به : من الغد ستعودين للعمل في المزرعة ويُمكنك اصحابها معكِ.. وأشار لها بالانصراف لتتحرك قاصدة غُرفتها وعينها ترى نظرات "ليلى" المصوبة نحوها كسهام الحرب، ظل عقلها يُعيد كُل حرف تفوه بهِ جدها حتى سقطت في غفوتها ويدها مُتشبثة بالصغيرة بما تبقى لديها من إدراك.. مضت نصف ساعة و"قمر" غارقه في ثبات عميق و"ضي" تُحرك يديها إلى أن دخل "جِهاد" الغُرفة بحذر شديد حتى لا يوقظهما؛ فهو يعلم أن" ضي" لا تنام سوى قرابة الثانية عشر وها هي الآن تدُق الواحدة صباحًا وبكل تأكيد قد غفت، أدار المقبض ليجد الأنوار تعم الجِناح ورأس "قمر" مائلة على المقعد والإرهاق متجسد موحش مُخيف عليها، ابتسامة صادقة داعبت عينُه قبل أن تُداعب شفتاه وتحرك ليحمل الصغيرة الاب يعم صوتها المكان، اقترب بحذر شديد وانحني برفق ليحمل ابنته ولكن قبل أن ترفع يداهُ "ضي" كانت "قمر" تفزع من نومها وبهلع شديد يطلُ من عينها؛ فقد ظنت أن الطفلة سقطت منها.. وما هي إلا دقيقة أو أقل وكان الفزع يُغادرها لتبدأ في الاعتدال في جلستها فتأن شفتها بخفوت من التيبُس وعدم الراحة وبصوت ناعس : هل تُريد أن أُجهز لك الطعام؟.. ولكن ما من جواب؛ فعيني "جِهاد" كانت مُثبتة على ما ظهر بسخاء من منامتها، و رأسهُ تومض إنذارات عِدة كان صوتها الناعس أقوى من شارك بها، فعاد إلى قشرة واهية من الصلابة كما عادت عيناهُ لنظر لما بين يديه وبنبرة مُتحشرجة من كثرة الانفعالات : لا أُريد.. وتحركت حلقهُ صعودًا وهبوطًا مُحاولًا ابتلاع ما تبقى في حلقه دون تصحُر وأضاف.. يُمكن النوم وترك "ضي"..
لم تستعد "قمر" وعيها بالكامل وعينها مازالت أُجاهد لتستيقظ ولكن جِهاد غير مُكلل بالنصر؛ فقد أُسدلت أهدابها أكثر من مرة في غفوة تستغرق دقيقتان أو أكثر ثم تعود للاهتزاز ورفع جفنيها بصعوبة بالغة.. راقب "جِهاد" ما يحدُث معها والتزم الصمت وتحرك قاصدًا الغُرفة حاملًا ابنته بين ذراعيها؛ كي يجلب أي شيء يُدثرها بها ولم يدم في الغرفة سوى دقيقة وكان قد جلب أحدى غِطاءً خفيفًا "دفاية" يصلُح لبرودة الجو الخافت، دثرها جيدًا وألقى نظرة مُطولة عليها، نظرة تحمل الكثيرة بداية من الحُب؛ فقد كان يحملُ لها الكثير في المُراهقة.. مرورًا بالامتنان الشديد الذي يحملهُ لها لما تفعلهُ مع ابنته ولكن كُل هذا مُقيد بأصداف من الخوف، خوف من المجهول.. اجبر قدماهُ على التحرك وإغلاق زر الإضاءة حتى لا تتألم عينها أكثر من هذا، ثم تابع خطواتهُ نحو الغُرفة من جديد مُتحركًا بابنته يمينًا ويسارًا حتى تعود لنوم؛ فقد كان يرى "قمر" تفعل هذا عندما تستيقظ في الليل.. مرت ساعة إضافية و"ضي" رافضة رفضًا كُليًا أن تعود لنوم، وعيناهُ باتت على وشك إغلاق أبوابها.. خرج صوتهُ قائلًا : الفجر يقترب.. وانقطع صوته مع ارتفاع صوت أخر يُشاركهُ القول : ألم تُطعمها؟..
علي الفور أسقط عيناهُ أرضًا مُحاربة ما يتولد بداخلُه من جنون، وبصوت مبحوح : لم أعرف أنها تُريد أن تأكُل..
تابعت السير ولكن في الاتجاه المُعاكس حتى توقفت أمام طاولة لا يعرف متى وضعت في الغُرفة، وبدأت يديها بأخذ الزُجاجة الخاصة بالرضعة "الببرونة" والتوجه نحو المرحاض ولكن قبل أن تتحرك خطوة واحدة كانت يديها تضع المقبس الكهربي الخاص بتسخين المياه في المُغذى.. دقيقة وكانت تعود ووجهها مازال الماء لم يجف من عليه بعد، توقفت أمام الطاولة من جديد ووضعت القليل من الماء البارد من زُجاجة مُجاورة ثم سكبت عليه القليل من المياه الساخنة ثم أضافت المقدار المُحدد من الحليب بواسطة معلقة معيارية وبدأت بغلق الزُجاجة وتحريكها يمينًا ويسارًا حتى تمتزج جيدًا وتحركت نحوهُ من جديد ويدها تُتابع حركتها لمزج الحليب جيدًا حتى توقفت أمامهُ ومدت يدها لهُ  بصمت..
تدفق الدم الحار بأوردتُه، وتجمعت حبات من العرق فوق جبينه ولكنهُ تحامل على هذا دافعًا تلك الموجة بكُل ما لدية من قوة، أخذ الزُجاجة ولا يعلم كيف سيُطعمُها؟.. وسقطت كيف أرضًا مثلمًا سقطت المقاومة؛ فيدها امتدت لترتفع يداهُ الحاملة لجسد الطفلة قليلًا حتى تُصبح رأسها في مستوى أعلى من جسدها حتى لا يسقُط الحليب في أُذنها، ويدها الأخرى أمسكت بيداهُ لتُخفف من تشنُجها ودعتها برفق نحو فم الصغيرة وهمست بخفوت : كُن حذرًا واجعلها تقترب من الحليب لا العكس.. وابتعدت من جديد قاصدة الغُرفة الخارجية غافله عن بُركان ثائر من خلفها... استلقت بجسدها على الأريكة وبدأت بفرد الغِطاء عليها مُتمنية الحصول على ساعة واحدة من النوم ولكن تزاحُم الافكار بداخلها كان بالمرصاد؛ فقد عادت كلمات جدها تتقافز من جديد مع تفسيرات لا حصر لها.. وتلاشت التفسيرات مع استماعها لنحنحة رجولية تبعها صوتهُ العميق بنداء خافت : "قمر".. "قمر"..
ما بلها اليوم ربما جُنت فكُل شيء تمر بها يركُض دون مُبالة بها، رفعت يديها عن عينها قائلة : هل تُريد شيء؟..
لا يعلم ماذا يقول ولكن.. حتى لكن لا تفسير لها فالكلمات لا تستطع إسعاف ما يود قوله، فبداخلهُ الكثير منذُ سنوات وليس وليد ايام فقط، تنحنح بخشونة مُجليًا ما يعصفُ به : شكُرًا على كُل ما تفعلينهُ...
ابتسمت بصدق، ولا تعلم من يشكُر الأخر بعد ما قدماهُ لها   فأضافت  بما يموج بروحها : لا أعلم من يتوجب عليه الشكر.. وصمتت لبضع ثواني ثم تابعت :فقد قدمت الكثير ليّ  ولم.. وصمت محاولة جمع بضع حروف تُمكنها من صياغة جُملة مُفيدة، ولكن الصمت طال كثيرًا وانطلقت ذبذبات كهربية جعلت الصمت أمرًا واجبًا فقد رقد اثنان ثالثهما الرِباط المُقدس ولكن لم يدم الصمت طويلًا فقد فزع "جِهاد" من هول الصدمة وتحرك على الفور مُلتقطًا ثيابهُ المُتناثرة صافعًا الباب خلفهُ بكُل ما ينتمي الغضب بصلة، تاركًا خلفهُ من تبكي بصمت وتضم غِطائها إلى ما يُمكن سترهُ من جسدها..
**
ارتفع صوت المذيع من المسجد المجاور للبيت بابتهالات الفجر، حينها وضعت "حور" دفترها جانبًا والقت نظرة سريعة على شاشة الحاسوب لتعلم كم الساعة؟.. لتجد أنها قد قضت أكثر من ست ساعات في المُذاكرة، وضعت حاسوبها جانبًا وتحركت من موضعها حتى تتمكن من تحريك عظامها التي تيبست من الجلوس، لتبدأ بنقل كُتبها إلى الطاولة المجاورة الأريكة ثم تعود لتجلس من جديد مُلتقطة الهاتف الخاصة بها لتبدأ في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي بملل سُرعان ما زال عنها مع رؤية بعض الرسائل منهُ، اعتدلت في جلستها وبدأت تقرأ كُل حرف بنهم شديد وابتسامة بلاهاء تُزين ثغرها.. سرعان ما ارتفعت يديها لضغط على الجُزء المُخصص لإرسال الرسالة وكتبت بعض الحروف وانتظرت بضع دقائق ولكن ما من مُجيب.. تلاشت بسمتها وحل محلها  العبوس وتركت هاتفها قاصدة المرحاض ولكن قبل أن تنهض فُتِحَ الباب ودخل "جاسر" بوجه مُتهجم وملامح قاتمة للغاية، وتحرك نحو الخزانة مُلتقطًا ما وقعت يداهُ عليه وتوجه المرحاض صافعًا الباب خلفهُ مما جعلها تجفل في جلستها.. لم يمضي على مكوثهُ بالداخل سوى بضع دقائق قبل أن يخرُج بعبوس أكثر من ذي قبل وتحرك نحو الفِراش مُزيلًا الغِطاء بعُنف وكأنهُ شخص يتشجار معهُ، استلقي على الفِراش قائلًا بجمود : لا أُريد الضوء...
• كانت "حور" على حالتها من الفزع عندما وصلها صوتُه بتلك اللهجة الخانقة  أن تُغلق الضوء، جن جنونها وارتفع صوتها بغض : لا أُريد...
تجاهل ما قالت وتحرك أمام عينها بنفاذ صبر وأغلق الضوء مُتمتًا بحروف مُبهمة عن كلمات لم تُعرف بعد وقبل أن يستلقي في الفِراش الخاص به كان الضوء يعم الغُرفة من جديد، حينها تحررت وحوشه غضبة وارتفع صوتهُ بنبرة تفوق القسوة بكثير : "حور" أغلقِ النور..
ترقق الدمع بعينها وباتت على وشك البُكاء ولكنها تحاملت على رغبتها وبعناد: قُلت لا أُريد، إن لم تعجبك الغُرفة فأذهب لمكان آخر..
سبة بذيئة فارقت جوفه، تبعها تحرك قدماهُ نحوها بملامح لا تنُم عن الخير مُطلقًا، وتوقف أمامها قائلًا : اتقي شري يا" حور"..
لم يجف دمعها بل صار كغيمة على وشك السقوط وتجلى هذا في همسها : طلقني يا "جاسر"..
قهقهة رجولية  امتزجت بنظرة لم تُعرف بعدما انفرجت شفتاهُ بالحديث الصارم : لا طلاق عندي يا ابنة العم، وبتهديد صريح.. أُقسمُ بكُل ما هو غالي إن تفوهتِ بها من جديد فلن يرحمكِ أحد.. وتحرك من أمامها نحو الفِراش من جديد مُشيرًا بيدية إلى الضوء، استجابت على الفور ولكن قبل أن تتحرك خطوة كانت يدها تلتقط الاسدال الخاص بها وسرعان ما اكتست به وهرولت للخروج من الغُرفة ف بداخلها رغبة مُلحة في البُكاء ولكن لا تستطيع فعل هذا بجواره حتى لا تظهر أمامهُ بمظهر الضعف، أغلقت الباب خلفها لتفر دمعه حارة من بين جفنيها تشُق طريقها فوق وجنتيها مُسببة رجفة باردة في سائر جسدها، ولكن سُرعان ما تجمدت دمائها كما تجمد جسدها فقد رأت خيال ما يرتدي جلبابهُ على عجل قاصدًا باب البيت، حتى إنهُ لم يُلقي بالًا بإغلاقُه، دب الرُعب بقلبها وفر عقلها لقُبح الخيال بين هذا الخيال والدتها، لتُهرول خلف هذا الخيال قاسمة بكُل ذرة إيمان داخلها إن صدق تخمينها لن تصمُت لدقيقة واحدة.. تحركت بسرعة البرق خلف هذا الخيال ولكنها توقفت أمام الباب مع رؤية هوية الجسد؛ فقد كان "جِهاد" ولكن بملامح جامدة للغاية ملامح أقرب لإحدى الصخور فرق سفح الجبل على عكس عيناهُ التي تظهر كحديد مُنصهر، تردت في التحرُك والحديث معهُ ثم حسمت أمرها وتحركت نحوه "فجهاد" يملك قدرًا من الحُب بداخلها؛ فقد كان لها أخًا وعونًا في كثير من الأوقات، تنحنحت بحرج حتى تُخبرهُ أن هُناك قادم وبنبرة هادئة تحمل من القلق قدرًا لا بأس به : "جِهاد".. ولكن لا جواب فقد تخشب جسدهُ أمام عينها وأُغلقت نوافذهُ بألم تجلى كشمس الظهيرة عندما تستوطن كبد السماء، زاد القلق بداخلها وعصف الظن بها فأضفت : "ضي" بخير أليس كذلك.. والجواب هُنا كان شهيقًا عميق من بواطن القلب أخبرها أن الأمر لا يتعلق بصغيرتهُ مُطلقًا، فتابعت قائلة : تبدوا كمن صُعِق بتيار كهربي.. تُحب أن أذهب "لقمر" ربما تستطع... وسقطت الاستطاعة أرضًا مع اشتعال النيران بعينهِ أكثر وأكثر وبسمة قاسية كــ سن السكين تأخُذ رسوم وجهه.. تخلت بالصمت لدقيقة كاملة ولا تعلم أي قول يُمكن قوله؛ فالأكيد أنهما تشاجر وتعلم جيدًا "قمر" وردودها القاتلة إن مس أحدهم قدرها بحرف واحد، أخذت أنفاسها بهدوء وبدأت بحديث غير مُرتبط ولكن هذا ما مر بالقابعة فوف رأسها :  ربما هي أخطأت ولكن "قمر" على قدر جمودها وردودها الحادة إلا أنها تحمل قلب طفل لم يبلغ الخامسة بعد؛ فقد كان عمي يُخبرنا دومنا أنها الأنقى من بين أبنائُه من بعد، واهتز حلقها في نُطق حروف الاسم كما اهتز قلبها.. "ياسين".. تُريدان الوقت حتى يعتاد كُلًا منكما على طِباع الأخر، وعليك أن تكُن أكثر هدوئها يا... وصمت لجُزء من الثانية مُقررة تذكيرهُ أن "قمر" تمتلك حقًا في الصفح إن لم يكُن من أجل صلة الدم فسيكُن من أجل ابنته.. يا "أبا ضي"..
لم يُبدي أي رد فعل  فقد ظلمت رسومهُ على حالها من الجمود ولكن صدع العقل بأمر قد غفل عنهُ في خضم غضبهُ السابق، الصلة بينهم هي ابنته فقط هو قدم لها السِتار الذي سيُبقيها مرفوعة الرأس لأجلًا غير مُسمي وهي عليها شأت أم أبت أن تُراعي ابنتُه... حرك عيناهُ بتفهم قبل أن يبتعد عنها قاصدًا جهة لا يعلم.. أكمل السير بخطوات مُتعبة، خطوات أقرب لخطوات كهل تجاوز الستين ويتوجب عليه حمل الصخور، ابتسم بمرارة واعتصر قلبهُ حتى كادت روحة أن تُفارقُه؛ فهو ملكوم من جهة "فقمر" حبيبة صباه ومن جهة أخرى كرجُل طُعِن في شرفه ومع هذا فهو مُقيد من ألف جهة أولهم جهة الدم التي توجب عليه الصمت... وتحولت بسمتهُ المريرة لأخُري مُتهكمة.. فهو لم ولن يقبل أن تُفضح عائلتُه وتكُن سيرتها عِلكة تتمتع بها الأفواه، تابع خُطاه وهو عازمًا على الصمت، فليس أمامهُ إلا صمت الأبكم..
**
سكون تام يُخيم على رواق المشفى لا يقطعهُ سوى واقع خُطاه بجوار والدتُه في الرواق الخاص بغُرفة والدُه، توقف "سعد" أمام الفاصل الزُجاجي مُلقيًا نظرة خائفة على والدُه ثم يعود ويتابع سيرهُ من جديد.. دقيقة وتحول هذا الصمت لحالة من الهرج والمرج؛ ف الأطباء يركضون في الرواق الخاص بالغُرفة والهلع يتجسد على رسومهم مع ما تبقى من أثر النوم، ظن أن الهرج هذا سيخُص أحدى الغُرف إلا أن الظن قُتل صريعًا مع دخول الطاقم الطبي غُرفة والدُه.. قطع الخطوات الفاصلة حتى يتوقف أمام الزُجاج الفاصل.. أشار أحد الأطباء للمُمرضة أن تُغلق الستائر لتبقي صورة مؤلمة عالقة بــ ذهنه؛ فقد كانت تحتوي على عدد لا حصر لهُ من الرِجال يرتدون ثياب زرقاء كُلًا منهم بجوار جِهاز ما واثنان بجوار جسدُه من جهة واحدًا منهم يقبض  على ذراعُه وبيدهُ ابرة والأخر يقف أمام مفصل الرجل بالقُرب من منطقة العانة ويوخز بالابره .. وعلى الجهة المُقابلة يقف أخر ويقبض على جهاز الصدمات موجهًا إياهُ إلى صدر والدُه.. أغمض عيناهُ محاولًا طرد تلك الصورة بكُل ما لديه من قوة.. فتح جفناهُ على نحيب والدتُه ليبادر قائلًا : سيكُن بخير.. والجواب كان نظرة قاتلة من عينها مصوبة نحوه، نظرة لا تمت لرحمة أو الشفقة بصلة، كُل ما تنتمي إليه هو الاشمئزاز والنفور.. مرت نصف ساعة وبكاء "أم سعد" يعم الأرجاء، فُتِحَ الباب وخرج الطاقم الطبي والأسف  يتجسد على صفحات وجوههم ليبدأ الجميع بالانصراف عدا واحدًا منهم تقدم نحوهم  قائلًا بنبرة مُشفقة : البقاء لله.. وربت بيداهُ على كتف "سعد" وتحرك تاركًا خلفهُ جسد يسقُطًا أرضًا من الصدمة مُبتلعًا ما تبقى في حلقه من البُكاء وجسد أخر تخشب من هول الصدمة رافضًا التصديق أنهُ سيرحل، سيرحل بعدما فعل كُل شيء لأجل تلك العملية والآن هو يُغادر دون اهتمام.. توقف ما يدور بخُلده مع وقوف "أم سعد" وخروج صوتها بنبرة مبحوحة من كثرة البُكاء المكتوم : حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا "سعد".. وتحركت مُستندة على الجِدار مُديرة مقبض الباب.. لتبدأ قدمها بالتحول لهُلام مع رؤية عينها. ذاك الجسد المسجي على الفِراش ومُغطى من رأسه لأخمص قدماهُ بشراشف بيضاء وبجوارهُ أجهزة تُصدر صفيرًا أقرب لنحيب .. توقفت أمام الفِراش وجسدها بدأ يهتز بنشيج مكتوم حتى لا تبكي حتى عجزت قدمها عن التحمل فسقطت أرضًا مُتشبثة بالحامل المعدني وفمها يهمس بحروف مُتقطعة، حروف تطلب بها العون في تلك الفجيعة..
**
تحولت السماء من الأسود الداكن إلى أخر شاحب للغاية، فبدت السماء ككوب من الحليب سقط بداخلُه معلقة لا بأس بها من الكاكو الخام ..أغلقت "ليلى" البوابة خلفة، ورفعت طرف حِجابها لتُخفي الكثير من معالم وجهها وبدأت بالهرولة في الطريق الزراعي قاصدة بيتًا بعينُه.. تابعت سيرها دون أن تُلقي نظرة واحدة خلفها وكأن الخوف غادرها منذُ استماعها لحديث اختها مع "جِهاد".. ازادت بسمتها اتساع ًا حتى أن عينها نالت النصيب الأوفر من تلك البسمة المُغطاة خلف ذاك الوِشاح.. عصف عقلها بها في الدقائق السابقة لتُهرول من فورها قاصدة الخروج من البيت والتوجه "لمبروكة"؛ فقد صدق قولها وبأن قوة سحرها، بعدما تيقنت من حدوث شِجار عنيف بينهُ وبين زوجته وزاد يقينها إيمانًا مع استماع صوتهُ المُتعب ورسومه المُنهك.. توقفت أمام ذاك البيت الطيني المُلقى على أطراف البلدة المُجاورة وطرقت  الباب المُتهالك بقوة لا تُناسبهُ، ولكن قلبها كاد أن يرقُص طربًا فلم تستطع أن تكبت فرحتها أكثر من ذلك.. طال وقوفها أمام باب البيت وبدأ خيطًا ضعيف من الضيق يتسرب إلى رسومها فعاودت الطرق مرة أخرى بقوة أكثر وعندما كان الجواب كالمرة السابقة أخرجت هاتفها من حقيبتها وضغطت على رقمًا بعينه؛ فلم تقطع تلك المسافة دون فائدة تُرجي، خاصةً في الوقت الراهن.. دقيقة وكان صوت رنين الهاتف الذي تود مُحادثتُه يصدع من الداخل.. حينها ارتفع حاجبها بحنق وعُقدت شفتيها بضيق وبدأ يدها بكتابة رسالة تُخبر بها من بالداخل إن لم تفتح لها ستكُن تلك أخر ليلة لها بالبلدة.. وتحركت لتجلس على الحجر الجيري الموضوع بجوار الباب مُنتظرة أن تفتح لها وداخلها وعيد سيتحقق كُل حرف به إن عادت خالية الوِفاض..
وبالداخل دب الذُعر في قلب كلًا منهُما وانتفضت "مبروكة" من فوق فِراشها والهلع يتجسد على رسومها وبعويل تتوجهُ نحو من كان يُشاركها الفِراش : وما العمل يا "كامل"؟..
لم يُلقي بالًا لعويلها واعتدل من رقدته ويداهُ تأخذ إحدى السائد المُلقاة أرضًا ويضعها خلف ظهره وببرود : لا شيء، ارتدي ثيابك واخرجي لها..
حركت رأسها على الفور بالموافقة وتحركت مُلتقطة أول شيء وقعت يديها عليه وأرتدهُ على عجل وأغلقت باب الغُرفة خلفها وتوقفت مُلتقطة أنفاسها حتى تتمكن من ارتداء قناع البرود وتحركت نحو الباب وقدمها تتحول لهُلام؛ فإن علِمت "ليلى" بوجود عِلاقة بينها وبين "كامل" ستكُن نهايتها من تلك البلدة فهما حيتان سيتصارعان لمدة حتى يقتل أحدهما الأخر أما هي فلم ولن تبلُغ منزلة سمكة  بينهم.. فتحت الباب المُتهالك وألقت نظرة علي من بالخارج، فلم تجد أمامها أحد وقبل أن تعود لغلق الباب وجدتها جالسة على الحجر الجيري بنظرات حانقة لا تُبشر بأي خير، جف حلقها وارتسمت بسمة مُرحبة على وجنتيها وأضافت : أنرتِ سيدة "ليلى"..
نظرة فاترة فارقت عينها، وتحركت نحو الداخل وبلهجة حادة تحمل تهديدًا صريح : إن تكرر هذا مرةً أُخري فلن... وسقطت لن مع ارتفاع صوت "مبروكة" بنفي : لن تتكرر.. وأخذت دفة الحديث لاتجاه أخر تجعلها تبتعد كُل للبُعد عن الوعيد والتهديد.. تبدين كالبدر وعيناكِ تنطقان بتحقيق المُراد..
اكملت "ليلى" تحرُكها حتى توقفت أمام إحدى الارئك الخشبية وجلست باسترخاء واضعة رجلًا فوق الأُخرى لتبتعد عبائتها على الفور مُظهرة قدمها بسخاء، وبلهجة أمرة : اجلسي يا "مبروكة" واصغي جيدًا لكُل حرف..
تحركت بقامتها القصيرة وجسدها المُكتنز لتجلس على الأريكة المجاورة وبنبرة خانعة ويديها ترتفع لتمر أمام عينها : من عيناي..
لم تتخلى "ليلى" عن سهمًا من حدتها وبنفس النبرة السابقة : أُريد أن يُطلقها قبل حلول العام..
لم تعلم كيف تُجيب عليها ولكن حسمت أمرها وارتدت قِناع الدجل والشعوذة : سيكُن لكِ ما تُريدين ولكن طلبات الأسياد.. وابتلعت حروفها مع رزمة مالية تُلقي على ملابسها من الجهة المُقابلة، التقطت بلهفة، لهفة أقرب لكلب ضال وجد لتو قطعة من اللحم، وبدأت بعد تلك النقود ولسانها يُتابع : قبل حلول العام سترحل دون عودة وستنالين مُرادك..
نهضت على الفور من جلستها وتحركت نحو الخارج دون أن بأدني حرف.. لتزفر "مبروكة" بارتياح فور خروجها وتُتابع عد نقودها حتى إنها لم تتوقف مع اقتراب "كامل" منها ولكن توقفت قسرًا مع قوله الجامد : أُريدُها.. جف حلقها وجحظت عينها وببلاهة : تُريد ماذا؟..
جلس على الأريكة التي كانت  تجلس عليها مُضيفًا بصرامة : ما بكِ يا امرأة، لم اعهدُكِ بلهاء..
تابعت بتفسير : هي ليست كالغير وأنت خير من يعلم نسبها وإن تورطنا معها ستُشن الحروب علينا..
قال بشرود يحمل من الضيق ما يكفي العالم باسره : ولأنني أعلم نسبها جيدًا أُريدُها.. ونهض على الفور خارجًا من البيت تاركًا خلفهُ من تضرب كفًا بالأخر من جنون هذا الرُجل، فكيف لهُ بمعرفة هويتها ويُفكر أن يقترب منها؟.. وضعت سؤالها جانبًا فلم يُفيدُها بشيء إن كان يُفيدُها ستجلبها لهُ ولكن بما تُحدد من مال وليس ما يُلقيهِ عليها، ستأخذ مبلغًا يجعلها تترُك تلك البلدة دون عودة.. والبداء في مكان أخر، مكان يجمع من تراهم خلف التلفاز حينها سيكُن مكسبها ليس قروش لا تُغني ولا تُسمن من جوع بل ملايين تجعلها تأمُر فتُطاع..
**
وعلى ذكر الطاعة والنقود التي لا حصر لها، كان "جمال" يقف أمام بوابة هذا القصر مُنتظرًا أن يُفتح لهُ، لم تكد تمُر الدقيقة إلا وكان الباب يُفتح ويطل منهُ امرأة حسناء، لا ترتدي سوي مجموعة من الخيوط تُبرز مفاتنها بكُل تبجُح وسفور، جف حلقه ونفض ما حل به وبصوت مُتحشرج : أين الباشا؟..
خرج صوتها بنبرة  رقيعة للغاية مع يديها التي تُشير لإحدى الأبواب المُغلفة.. القى نظرة يخجل القلم من الحديث عنها وتحرك نحو الباب الذي تمت الإشارة إليه، وطرق الباب قبل أن يأتيهِ اذن الدخول، فأدار المقبض وتهللت ملامحهُ بالسعادة وبترحاب : كيف حال يا باشا؟..
أخرج "شريف الباز" دُخان سيجارتُه بتمهُل شديد، ولم يُكلف نفسهُ عناء الرد فقد أشار لهُ بالجلوس وتابع تدخين.. تحرك "جمال" مُعلقًا الباب خلفهُ وقطع تلك الخطوات الفاصلة بين الباب وذاك المكتب الراقي وجلس على المقعد ويداهُ تمتد لإخراج سبيكتان من الذهب الخاص وضعهما فوق سطح المكتب، والتزم الصمت لحين أن ينتهي من فحصهم، ولكن لعيناهُ رأي أخر فقد بدأت بالطوفان على أجزاء هذا المكتب بداية من ذاك الرُكن المُخصص لملفات لا حصر لها  ملفات يعلم جيدًا أنها تحتوي على مصائب قادرة على جعل صاحبها من أرباب الفقر والحاجة.. وقبل أن تتحرك عيناهُ لجزء أخر كان صوت "شريف" يرتفع بصرامة : إين البقية؟..
بسمة مُسترخية تجسدت على رسومه، مُضيفًا  : حينما يُرضني المال..
اكتفي ببسمة صفراء أجاب بعدها : كالمرة السابقة..
-لا دخل لي ببيعها..
-لا بأس، ولكن البقية تأتي قبل نهاية الشهر، أُريدهم أن يُغادروا مع أول باخرة..
-كما تُريد..
-أُريدك أن تنقل إحدى الشُحنات...
بنفي قاطع لا يحمل الجِدال : لا دخل لي بالسموم البيضاء..
استرخي في جلسته مُسترسلًا : قناعتك لا تتفق يا ابن الناجي، فكلاهُما توصيل ولا يهم هل الطرد ذهب أم شيئًا آخر..
-تختلف كثيرًا، أنا لا أنقل سوي النفيس من يُلائم قدر الناجي أما تلك السموم فناقلها مثلها خسيس ..
-خسيس.. كما تُريد هيا الفتاة بانتظارك..
ابتسم بشهوانية وأضاف : هذا لا دخل لهُ بالحِساب، وتابع سيرهُ للخارج غافلًا عن عين تنظر لهُ بتهكم شديد، تهكم سرعان ما رحل وحل محلهُ الإعجاب؛ فقد صدع هاتفهُ بإشعار وصول أحد الرسائل وعندما فتحها وجد مجموعة من الصور تخص امرأة متفجرة الأنوثة، قيمها بنظرات لا تمت لرجولة بصلة فنظرات عيناهُ كانت أقرب لمن يُجرد أي شيء فهو من تُجار المُتع، رفع الهاتف على الفور وبلهجة أمرة : أُريدُها في أقرب وقت.. وكان الجواب موافقة فورية معها مبلغًا خياليًا يوازي ثمنها.. تابع "شريف" بحزم : نُقيم الطبيعة وسنري، واغلق الاتصال وعاد لتفقد الصورة من جديد وبسمة مُنتصرة تتجسد على رسومه؛ فتلك الفتاة ستكُن بابًا يُساعدهُ من الوصل لفئة لم يطمح بالوصول إليها، كما ستكُن صفقة رابحة إن بعثها للخارج لنقل البضائع؛ فبنظرتها تلك ستستطيع أن تمُر دون قيود...
وبالجانب الأخر كانت بسمة كريهة تأخُذ رسوم "كامل" وشياطين الإنس وألحان تجتمع حوله؛ فتلك الفتاة ستكسر هامة الناجية وتجعلهم حديثًا يُذكر لأعوام وأعوام، تلك الفتاة ستكُن هي الضربة القاتلة لهم بداية من مكانتهم التي يتشدقون بها مرورًا بعملهم ونهاية عندما يقم هو بنفيهم من البلدة  وأخذ ما نهبوه من والدُه قبل سنوات.. أغمض عيناهُ والخيال يتجسد أمامهُ مُسببًا سعادة لا مثيل لها..
#رانيااااصلاح

أشواك العشق "أولاد الناجي" Where stories live. Discover now